البحث المتقدم

البحث المتقدم

أريدُ منْ يشاركني البكاء.. حيثُ تعجزُ الكلماتُ

0 تقييم المقال

 

 

  انتشرت مؤخراً، على مواقع التواصل صورة لطفلة صغيرة تحتضن شقيقها الرضيع، جالسة أمام قبر أمها، وكأنها تناجي التراب ببراءة موجعة قائلة: ( يا أمي، أنا تعبانة… ليه ما تردي؟ أخي جوعان، سبتينا لوحدنا) .

   صورة تختصر وجعًا يفوق الكلمات؛ طفلة بثياب بالية، ووجه شاحب أنهكه الجوع، تضم أخاها الصغير الذي يبحث بفطرته عن صدر أمه ليرضع حليبها، عن دفءٍ لن يعود. مشهد يمزق القلب، لكنه في النهاية قدر الله، وما لنا إلا الصبر والرضا بقضائه، إنا لله وإنا إليه راجعون.

    أعدت النظر مرة ومرتين وأكثر، إلى ملامح الطفلة وشقيقها، تخنقني العبرة مرة بعد مرة، وأمسك نفسي كي لا تنهمر دموعي، أصبحا بلا مأوى، لا يدريان إلى أين يمضيان، أُغلقت في وجههما الأبواب، ولم يجدا ملجأً سوى قبر أمهما، يناديها وهي بين يدي الرحمن، لعل دعاؤها يصل، ولعل الله يقيّض لطفليها من يرعاهما برحمته.

    لقد جلست الطفلة أمام قبر أمها لا لتبكي فقط، بل لتسأل سؤالًا أكبر من عمرها: لماذا يُولد بعض الأطفال وفي أفواههم الجوع بدل الحليب، وفي أيديهم اليُتم بدل الألعاب؟ كانت تحتضن أخاها الصغير، تحاول أن تمنحه دفئًا لا تملكه، بينما عيناه تبحثان غريزيًا عن صدرٍ غاب تحت التراب. في تلك اللحظة، لم تكن الصورة حكاية فردية، بل مرآة صادقة لواقعٍ عربيٍّ مثقل بالتناقضات.

     في عالمنا العربي، حيث تُنصب الموائد العامرة، وتُلتقط صور الولائم الفاخرة للتباهي لا للشكر له تعالى لهذه النعمة الكريمة، في حين يجلس آلاف الأطفال على أرصفة الحاجة، يتقاسمون الجوع والصمت. تُنفق الأموال بسخاء على المظاهر والاستعراضات، بينما يُغلق الباب في وجه فقير لا يملك ثمن رغيف خبز لسد رمقه، أو يتيم لا يعرف أين يبيت وفي أي مأوى ينام. صار الكرم صورة، لا فعلًا، وصارت الرحمة منشورًا عابرًا، لا مسؤولية إنسانية.

    لقد أصبح الفقر في أوطاننا ليس قدرًا إلهيًا بقدر ما هو نتيجة غياب العدل، وتبلّد الضمير، وانشغال المترفين بأنفسهم. الجوع لا يصرخ، بل يذبل بصمت على وجوه الأطفال، في عيونهم الغائرة، وفي أجسادهم النحيلة التي لم تعرف بعد معنى الشبع. وبينما تُرفع كؤوس التفاخر، تُخفض رؤوس الصغار خجلًا من سؤالٍ بسيط: هل من لقمة؟

    إن هذه الصورة ليست استدرارًا للعاطفة، بل اتهامًا صريحًا لواقعٍ اختلّ فيه الميزان. فالأمم لا تُقاس بما يملكه أغنياؤها، بل بما يحياه فقراؤها. وحين يصبح الجوع مشهدًا مألوفًا، والتخمة مادة للاستعراض، نكون قد فقدنا جوهر إنسانيتنا قبل أن نفقد عدالة مجتمعاتنا.

نعم
هل اعجبك المقال