التسول ليس ظاهرة حديثة في العراق وإنما هو موجود ومتوطن منذ سنين وعقود، ولا ينفرد بلدنا بهذه الظاهرة لان العديد من البلدان تعاني التسول وانتشاره رغم التباين في التطور والإمكانيات، والآراء والنظريات بهذا الخصوص طويلة وعريضة ولكنها تلخص الدوافع والأسباب بالاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وصحيح إن الفقر يلازم نسبة من العراقيين منذ سنوات بدولة تعد واحدة من اكبر مصدري النفط، إلا إن ذلك لا يبرر بتحول الفقراء إلى متسولين، لان التسول من الأنماط السلوكية غير المرغوبة التي لا يمكن قبولها إلا من قبل فئات محددة تحت مسوغ العوامل والظروف، ورغم إن التسول استثناءا غير مقبول حتى وان تم احتساب أسبابه على الفقر، إلا إن ما يثير الاستغراب فعلا هو ضياع هويتنا الوطنية في التسول من حيث الأهداف والأدوات والأفراد وذلك بسبب تحول ممارسته لشكل غير مألوف، ففي زمن الفقر المدقع المبني على ضعف التوازن في توزيع الثروات كان اغلب المتسولين كأفراد أما من عوائل معروفة بفقرها وقحطها او إنهم مجهولون او ليست لديهم قدرات في مجاراة الإعمال او إنهم من أصحاب الأمراض والعاهات وغيرها من الحالات المعروفة، وفحواها مظاهر تستثير العواطف فيحصلون على ما يدفع لهم من صدقات عطفا او حياء او بوازع ديني او أخلاقي، كما إن التسول كان يمارس بالطرق المعروفة من خلال مد اليد طلبا للعون او افتراش الأرض ووضع الماعون في أبواب المساجد او في الطرقات يوميا او في بعض التوقيتات، والبعض الذي يتجرأ للجهر بالتسول بولوج الساحات والتقاطعات يلقى حتفه بإلقاء القبض عليه وإيوائه السجن او مراكز الرعاية او المصحات، فالتسول من الناحية القانونية ممنوع ومن الناحية الاجتماعية منبوذ .
وفي الزمن الحالي ضاعت الهوية الوطنية للتسول من جوانب عديدة، أبرزها غزوها من قبل المتسولين متعددي الجنسيات وبعضهم من دول قريبة والبعض الآخر يبعدون عن بلدنا آلاف الأميال، كما تشوهت أساليب التسول فتحولت من شكلها الدرامي ( شبه ) العفوي إلى أشكال لم نشهدها من قبل، بانتشارهم بالشوارع والتمسك بزجاج نوافذ السيارات أثناء التوقف والاعتداء أحيانا على من لا يعطيهم الصدقات، والبعض منهم ( ذكور او إناث ) اخذ يجول المساكن والبيوت ويطرق الأبواب للتسول رغم إن بنيتهم الجسمية والشكلية لا تدل على ضعفهم مما يثير مخاوف وشكوك السكان مما يضطر بعضهم لطردهم من الأبواب، وهناك من حول القضية إلى دعارة وجريمة وأشكال متعددة من الفساد ، وفي الأسواق والمولاة والمناطق التجارية ينتشرون بشكل يعرض الكثير للخوف والاحراجات، فهم لا يمارسون تسولهم بالطريقة التي تعودنا عليها بالمسكنة والتوسل وإنما اخذوا يلحون ولا يتركوك إلا بعد الدفع وكأنهم أصحاب لحقوق .
وحسب ما يتم تداوله من حكايات ومعلومات، فان بعض من يمارس التسول تحولوا لأعضاء في عصابات ومافيات يستأجرون الأطفال والمعاقين وأصحاب العاهات، و يقودوهم عددا من المتسلطين على الساحات والمناطق والتقاطعات وكأنها ملكا لهم، وهؤلاء يتولون نقلهم وتوزيعهم وإيوائهم وحمايتهم من الأخطار و إخراجهم من الملمات عند إلقاء القبض عليهم او إيداعهم في الأماكن التي تحددها السلطات، واستنادا للمشاهد اليومية فان التسول قد استفحل أمره واخذ يتوسع ويزداد إذ لم يعد بالإمكان احتوائه و القضاء عليه رغم الجهود التي تبذلها الجهات الرسمية بهذا المجال، والخطير في هذا الموضوع إن التسول تحول من حالة إلى ظاهرة ويدر الكثير من الأموال وربما يستغل لغيره من الأهداف ، كما إن جزءا من التسول تحول إلى ( نظام ) فاسد يعمل إلى جنب أنظمة الفساد التي تنتشر هنا او هناك، والتسول بهذا الوصف والحجم والانتشار بات بحاجة إلى أدوات فاعلة لكشف أسراره والذي ربما يتغذى من الإرهاب او شبكات وحيتان الفساد في البلاد، ولكوننا لا نملك أدوات للحلول فإننا نقف بحيرة لمن نناشدهم فهل نطلب من الذين يمارسون التسول للحفاظ عن الهوية الوطنية للتسول في العراق وعدم حرفها عن معانيها الإنسانية وبتحرير أنفسهم من العصابات، لا نقول ذلك تشجيعا منا للتسول وإنما من قناعة بان الدولة غير قادرة على معالجة مشكلات التسول اليوم رغم ما تخصصه من تريليونات على شبكة الحماية الاجتماعية وغيرها من النفقات، وحين نؤكد على إن التسول مسالة غير مرغوبة ومنبوذة فانا نتوقع إنها ستبقى موجودة حالنا كحال بقية البلدان، ومن المهم إبقائها بأضيق الحدود بما يمكن الدولة من إخضاعها للرقابة الصارمة ولحين معالجة أسبابها وتداعياتها وجذورها كحال الباقيات، إن توفرت الإرادة والفرصة والإمكانيات لذلك بالفعل .