مقدّمة
المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ من الموضوعات التي دخلت حديثًا إلى عالم الدراسات والبحوث. ولا يجد الباحث في المكتبة العربيَّة وفرة حول هذا الموضوع رغم أهميَّته في فهم طبيعة هذه الوسائل وأهدافها والمنطلقات التي تأسَّست عليها، لتكون مقدِّمة ضروريَّة للتخطيط واتّخاذ القرارات المناسبة حول كيفيَّة التعامل معها ووضع الضوابط والسياسيات والآليَّات المناسبة والمطلوبة للنشاط عليها. وهذا لا يعني عدم وجود دراسات وبحوث عربيَّة مهمَّة وجادَّة في هذا الميدان، بل هناك عدَّة منها، إلَّا أنّ المقصود أنّ هذا اللون من الأبحاث لمّا يحظَ بعد بالقدر اللازم من ناحية تكثيف الاهتمام به كمًّا وكيفًا.
لقد أحدث التطوّر في تكنولوجيا الاتصال والتواصل تغيّرًا في وجه الحضارة البشريَّة المعاصرة، إذ وضعَنا التقدمُ التكنولوجي في قلب «مجتمع ما بعد المعلومات» إن صحّ التعبير، «مدفوعًا بمجموعة من محرِّكات القوى Driving Forces التكنولوجيَّة، ويأتي على رأسها مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتطبيقات الموبايل Mobile App، والطائرات من دون طيَّار Drones، والطابعات ثلاثيَّة الأبعاد 3D Printers، وإنترنت الأشياء Internet Of Things، والذكاء الصناعيّ Artificial Intelligence، والحاسبات الكموميَّة Quantum Computers، والحوسبة
السحابيَّة Cloud Computing، والسيَّارات ذاتيَّة القيادة Self-Drive Cars، والروبوتات Robots، والعملات الافتراضيَّة Virtual Currencies، وتقنيَّات الواقع الافتراضيّ Virtual Reality، بصورة قد تدفع بقوَّة نحو إنشاء حياة جديدة تسيطر فيها التكنولوجيا على شكل الحياة البشريَّة، وتعيد صياغة كافَّة التفاعلات الشخصيَّة والدوليَّة».
هذه التكنولوجيا الاتّصاليَّة عمومًا، ووسائل التواصل الاجتماعيّ خصوصًا، ستعيد رسم شكل العالم ومضمونه. إذ بدأ الباحثون، في علوم الاتّصال وعلم النفس والاجتماع وغيرها، يدركون أهميَّة البحث عن فلسفة الإنترنت، والمباني الفكريَّة للفضاء الرقمي، وطبيعة شخصيَّة الفرد الإنترنتيّ، وما تتركه مشاركة الإنسان على وسائل التواصل الاجتماعيّ من آثار على شخصيَّته وتكوينه الذهنيّ والنفسيّ والاجتماعيّ والقيميّ...
ومن الواضح أنَّ وسائل التواصل الاجتماعيّ أصبحت عاملًا مهمًّا في تهيئة متطلّبات التغيير في المجتمع؛ وذلك عن طريق تكوين الوعي وتوجيهه إلى أهداف وثقافات ترتبط بنظرة الإنسان إلى مجتمعه، والنظرة إلى الإنسان والحياة. بل يمكن القول أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تسهم بتفاعليّة غير مسبوقة في تاريخ البشرية بإعادة تركيب الذهنيّة الفكريّة والآداء الاجتماعيّ للمجتمعات، فضلًا عن دورهم في تشكيل مفاهيم جديدة للهويّات المحليّة الخاصّة.
إنَّ هذا الكتاب «المباني الفكريّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ»، هو خطوة علميّة يقدّمها مركز المعارف للدراسات الثقافيّة بهدف تسليط الضوء على المباني والخلفيّات الفكريّة لوسائل التواصل، والآثار التي تنعكس على الأفراد والمجتمعات والدول، والأهداف الخفيّة التي يُراد لها أن تكون جزءًا مكوّنًا للهويّات الاجتماعيّة والسياسيّو...، وذلك بأساليب وتقنيَّات وآلاف البرامج ومئات آلاف المعلومات التي تُغرق الهواتف الذكيّة وشبكات الإنترنت اليوميّة.
مدخل
تجدر الإشارة إلى أنَّه يمكن القول إنَّ دراسة المباني الفكريَّة لعالم الإنترنت قد بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، ففي العام 1996 عقدت في النمسا ندوة حول الفضاء السايبريّ؛ النظريَّات والمجازات بهدف فهم تأثيرات النمو المتزايد لشبكات الحواسيب الكونيَّة كالإنترنت وشبكة الويب العالميَّة من أجل تطوير نماذج هذه الشبكات؛ وكيف ستؤثِّر في الأفراد والمجتمع على المستويات كلها. ولقد كان التركيز على موضوعات السبرانيَّة؛ كنظريَّة اتّصالات ومعلومات وتحكُّم يمكن تطبيقها في بناء النماذج الماديَّة للشبكات، مع الأخذ بالحسبان منظورات علم الاجتماع وعلم المستقبليَّات والذكاء الاصطناعي والنظم المعقَّدة وتفاعل الإنسان مع الحاسوب وعلم النفس.
في العالم العربي، هناك العديد من الدراسات التي عالجت موضوع المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ، كدراسة الكاتب الليبي «محمد علي رحومة»، والتي هي في الأساس عبارة عن أطروحة دكتوراه، تحت عنوان «الإنترنت والمنظومة التكنو- اجتماعيَّة- بحث تحليلي في الآليَّة التقنيَّة للإنترنت ونمذجة منظومتها الاجتماعية»، صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة. وله كتاب آخر تحت عنوان «علم اجتماع الآلي مقاربة في علم الاجتماع العربي والاتصال عبر الحاسوب»، صادر عن سلسلة عالم المعرفة، العدد 347، كانون الأوَّل 2008.
كما يمكن اتّخاذ دراسات «الصادق الحمامي» أيضًا أنموذجًا، والتي يمكن تصنيف العديد منها في سياق البحث عن المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ، خصوصًا في بعدها الإبستمولوجيّ[1] والسيكولوجيّ[2]، كما في كتابه الميديا الجديدة، الإبستيمولوجيا والإشكاليَّات والسياقات؛ فقد تناول في هذا الكتاب مسألة الميديا الجديدة (الإعلام الجديد) في أبعادها المتعدّدة المعرفيَّة والسوسيولوجيَّة والثقافيَّة والتاريخيَّة. وذلك لتأسيس مقاربة معرفيّة تعالج الميديا الجديدة عبر مفاهيم العلوم الاجتماعيَّة ومناهجها. وهي مقاربة تحاول أن تتجاوز الخطابات الانطباعيَّة والعفويَّة التي تجعل من التكنولوجيَّات الجديدة ظاهرة مستقلّة بذاتها ومنفصلة عن سياقاتها الثقافيّة.
وسائل التواصل الاجتماعيّ، ليست مجرّد وسائل وأدوات تقنيَّة، بل تحمل في داخلها رسالة، ولها تداعيات على شبكة العلاقات الإنسانيَّة والمنظومة الحضاريَّة التي ينتمي إليها الناشط على هذه المواقع والمستخدم لها. لقد أوجدت هذه الوسائل «فجوة ثقافيَّة»، إذا استعرنا تعبير «وليام أوجبرن»[3]، والفجوة الثقافيَّة هي الظاهرة التي تُحتّم على المجتمع أن يعيد تنظيم نفسه بعد كلّ اختراع وتقدّم تقنيَّ، حتى تتكيّف جميع عناصره وتسير جوانب الثقافة ماديّة ومعنويّة جنبًا إلى جنب.
نحن اليوم، نعيش في عمق هذه الفجوة الثقافيَّة التي سبَّبها التطوَّر التكنولوجي، ممَّا يحتّم على مجتمعنا الإيماني والجهات المعنيَّة بالقرار الثقافيّ، بالمعنى العام، إعادة تنظيم المجتمع نتيجة هذه التطورات بما ينسجم مع المنظومة العقائديَّة والقيميَّة والتشريعيَّة الدينيَّة، وبما يساهم في المشاركة على هذه الوسائل بنحوٍ يحافظ فيه الناشط على الضوابط القيميَّة والشرعيَّة، ويجعل هذه الوسائل منصَّات لتحقيق الأهداف الرساليَّة أو على الأقل الحدّ من المؤثِّرات السلبيَّة لهذه البيئة الجديدة.
في هذا السياق، تأتي هذه الدراسة محاولةً مختصرةً لتُسلط الضوء على هذا الموضوع، وتُقاربه بنحوٍ تبرز فيه المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ مستفيدةً من عشرات المصادر والمراجع من كتب ومقالات ورسائل وأطروحات جامعيَّة. وتحتاج هذه الدراسة، كما يظهر في الخلاصة، إلى تتميمها بدراساتٍ فكريَّةٍ واجتماعيَّةٍ ونفسيَّةٍ وتربويَّةٍ أخرى، لتكتمل الصورة حول وسائل التواصل الاجتماعيّ.
كيفيَّة تشكّل المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ
رأى علماء الاجتماع أنَّ علاقات العالم الافتراضيّ الجديدة باتت تشكِّل نوعًا ثالثًا وسيطًا بين العلاقات المباشرة والعلاقات الثانويَّة (الرسميَّة)، إذ يشعر مستعمل وسائل التواصل بأنَّ مجموعته الافتراضيَّة قريبة منه وعلاقته بهم شخصيَّة، غير أنّ الواقع الفيزياويّ يخبرنا بغير ذلك، فالفرد مفصول عن مجموعته بآلاف الكيلومترات، بالإضافة إلى احتماليَّات الكينونة غير الحقيقيَّة لأفراد المجاميع في العالم الافتراضيّ المليء بالهويَّات غير الحقيقيَّة (فيما يخصَّ جنس المتَّصل مثلًا) أو صورته أو المعلومات التي يقدِّمها عن نفسه، أو ادّعاء الاهتمامات أو احتماليَّة مشاركة معلومات والادَّعاء بملكيَّتها زورًا.
كما أنَّ وسائل الضبط الاجتماعيّ لا تزال غير واضحة المعالم تتراوح بين النمط غير الرسميّ القائم على الأعراف والتقاليد، والنمط الرسميّ القائم على قوانين شركات الإنترنت أو شبكات العالم الافتراضيّ.
من هنا يمكن لنا وضع أهمّ المباني الفكريَّة التي تساهم في صنع التواصل الاجتماعيّ:
- الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ يميل إلى التشكُّل مع الأفراد الآخرين داخل وحدات يؤمّن بواسطتها حاجاته.
- تتحقق أهداف التشكُّل الاجتماعيّ البشريّ من خلال وسائل تُمكّن البشر من إيصال مراداتهم والتشارك فيها، فالاتّصال والتواصل أساس الحياة الاجتماعيَّة.
- عرفت البشريَّة تشكُّلات اجتماعيَّة متنوِّعة من مدن وقرى، ومساجد وكنائس، وأحزابٍ، وجمعيَّاتٍ، ونقاباتٍ، ومؤسَّساتٍ... يلجأ إليها الأفراد من أجل تلبيَّة حاجاتهم المختلفة؛ الفكريَّة والروحيَّة والعاطفيَّة والبدنيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة... وكانت عمليَّات التواصل الاجتماعيّ قديمًا تحصل غالبًا بالحضور الفيزيقي[4] المباشر لأطراف العلاقة في حيِّزٍ جغرافيٍّ واحدٍ ولحظةٍ زمنيَّةٍ مشتركةٍ.
- تواصل الإنسان مع الآخرين عبر التاريخ بواسطة وسائل متنوِّعة كالإِشاراتِ والنقوشِ، والمشافهةِ والكتابةِ المباشرتين. ثم مع التطوّر العلميّ دخلت وسائل جديدة، كالتلغراف، والهاتف، والمذياع، والتلفزيون... ثم تقدّم الإنسان في تكنولوجيا الاتّصال والتواصل، مبدعًا الفضاء السيبيريّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ.
- مع تطور وسائل الاتصال والتواصل (تلفزيون- إذاعة- هاتف...) بدأ العالم بالتحوّل إلى ما يشبه قرية كونيَّة واحدة (العولمة)، فبعد أن كان ينظر الأفراد أو الدول إلى الظواهر والمشاكل والتحدِّيات على أنَّها ذات طبيعة محليَّة أو خاصَّة، أدَّى تطوّر وسائل الإعلام إلى اطّلاع البشر على ما يحصل في البلدان الأخرى، وأصبحت الظواهر والمشكلات والتحدِّيات (الإرهاب، الأوبئة، تغيُّر المناخ، أزمات اللاجئين... إلخ) ذات صبغة دوليَّة وعالميَّة.
- لم يعد بمقدور التشكيلات التقليديَّة العمل على حلّ هذه التحدِّيات العالميَّة ومواجهتها، بشكلٍ منفردٍ، لذا تحتاج البشريَّة اليوم إلى تشكيل بنية تحتيَّة اجتماعيَّة عالميَّةً تُمَكّن البشريَّة من تحقيق أهدافها المشتركة والاستجابة العالميَّة في مواجهة المشكلات والتحدِّيات الكبرى العابرة للدول والقارات.
- تُشَكِّل وسائل التواصل الاجتماعيّ مواقع يستعملها الأفراد، بما ينسجم مع كينونتهم الاجتماعيَّة وتطوّر أشكال الاتّصال والتواصل في الحياة البشريَّة، من أجل تأمين حاجاتهم وإقامة العلاقات والتعارف وتكوين صداقات حول العالم، وفقًا لاهتمامات أو انتماءات مشتركة، وهذا يساهم في تكوين البنية التحتيَّة الاجتماعيَّة العالميَّة الجديدة.
- إنّ مشاركة أي فرد في فتح حساب على مواقع التواصل الاجتماعيّ تجعله عضوًا تلقائيٍّا في بناء البنية التحتيَّة للمجتمع العالميّ الجديد. فالانخراط في مواقع التواصل الاجتماعيّ هو انتماء إلى عضويَّة مجتمعيَّة جديدة، وهنا يأتي السؤال الكبير عن القواعد والضوابط التي تحكم طبيعة هذه العضويَّة الاجتماعيَّة الجديدة من ناحية الانتماء والهويَّة والدور والوظيفة.
- وسائل التواصل الاجتماعيّ هي في النتيجة وسائل، والوسيلة تعني الطريق الذي يعتمده الإنسان من أجل الوصول إلى تحقيق هدفٍ ما، فثمَّة أهداف مسكونة في ذهن الآباء المؤسِّسين يريدون تحقيقها ويسعون في ذلك. فالذي عمل على إنشاء وسائل التواصل الاجتماعيّ لم ينظر فقط إلى «كيف؟» بل كان في ذهنه سؤال: «لِمَ؟».
- القيّمون على هذه الوسائل عندهم نوعان من الأهداف: أهداف ثابتة، وأخرى متحرِّكة ومرنة؛ يُطوِّرون نظرتهم إليها في ضوء الكثير من المعطيات والوقائع، فيعدّلون في هذه الوسائل ويبرمجونها ويصمِّمونها بما يتلاءم مع خدمة أهدافهم الجديدة.
- إنَّ الأشخاص الذين عملوا على تأسيس وسائل التواصل الاجتماعيّ ينتمون إلى محيط حضاريّ وفلسفة حياتيَّة خاصَّة أدَّت دورًا في تصميمها وهندستها وبرمجتها بكيفيَّة خاصَّة، وذلك لأنّ سلوك الإنسان وليد أنماط تفكيره ورؤيته عن الحياة، فمبادئ الفلسفة الحياتيَّة تتحوَّل إلى إطار ثقافيّ يعيشه الإنسان بشكل تلقائيّ ويوجّه سلوكه في الحياة، فمهما بالغوا في التقنيَّة وتوغَّلوا فيها لن يستطيعوا عزل DNA عالم الأفكار عن أن يصبغ عالم الأشياء.
- أنشأت الأجهزة الأمريكيَّة هذه الوسائل في البدايات لأغراضٍ عسكريَّةٍ واستخباراتيَّةٍ، تتمحور حول جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها لصناعة القرارات في ضوئها، بهدف قيادة العالم والتحكُّم به والسيطرة عليه، فهذه الوسائل انطلقت من فلسفة خاصَّة تكمن في الشعور الأمريكيّ بضرورة التفوّق عبر فائض القوَّة بأشكالها المختلفة.
- مع مرور الوقت، تطوَّرت الأهداف وتمدَّدت هذه الوسائل
خارج الإطار الأمنيّ والعسكريّ لتصبح لها أهداف ثقافيَّة واجتماعيَّة. فوجود أهداف استخباراتيَّة وعسكريَّة لهذه الوسائل لا يعني إعلان موت الأهداف الأخرى التي تخدم السياسة الأمريكيَّة العامَّة في مختلف المجالات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة... وهذا ما أكَّده المدير التنفيذيّ لشركة غوغل «أريك شميدت».
- ليس من الضروري أن تخدم هذه الوسائل السياسة الأمريكيَّة النظاميَّة أو الرسميَّة فقط، بل تخدم فلسفة الحياة الأمريكيَّة ومنظومة القيم الأمريكيَّة، من خلال انتماء القيّمين على إدارة هذه المواقع وبرمجتها إلى تلك الفلسفة الحياتيَّة. وهذا ما نلمسه في تصريحات مؤسِّس فيسبوك «مارك زوكربيرغ».
- استخدام الناشطين لهذه المواقع، وما يطرحونه عليها من آراء وعواطف ومشاعر و... يخدم الأهداف الأمريكيَّة في بناء بنك معلومات عن شخصيَّات المشاركين في؛ تحليل أنماط الشخصيَّات وكشف العلاقات البينيَّة وأنحاء الارتباطات ومعرفة اتّجاهات الرأي العام ورصد المشكلات الداخليَّة ونقاط الضعف والثغرات؛ ثم توظيف هذه المعطيات والبناء عليها والتسلُّل منها لتحقيق الأهداف الثقافيَّة والسياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة...
- كان اختراع الآلة البخاريَّة، في انجلترا، في أثناء الثورة الصناعيَّة الأولى، حجر الدومينو الأوَّل الذي أدَّى إلى تغيّر صورة العالم، حيث أحدثت الثورة الصناعيَّة تغيّرات جذريَّة في عالم الأفكار والفلسفات والعلوم والمعارف وتحوّلات كبيرة في النظم السياسيّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة ... ويلاحظ المتتبِّع للحقبات التاريخيَّة أنّ كل مرحلة من مراحل التطوُّر التقنيّ،
والمصحوب باكتشاف وسائل وصناعات جديدة، كان يُحدث تغييرًا في طبيعة الحضارة البشريَّة، ويُدخل الإنسان في عصر جديد. كما في اختراع «يوهان غوتنبرغ» لآلة الطباعة، فقد قال «فرنسيس بيكون» [5]عنها بأنَّها غيّرت وجه الأشياء وحالها في أنحاء العالم. وكما أثبت «ماكلوهان»[6] أنَّ آلة الطباعة تعدّ ثورة في طريقة تفكير البشر وإدراكهم للعالم الذي يعيشون فيه.
- التحوَّل في الآلات والوسائل لا يقتصر على الفضاء التقنيّ والشكليّ، بل يتعدَّاه إلى إحداث تحوّل في بنية الحياة الإنسانيَّة وشكل الحضارة البشريَّة ونظمها وقيمها وأفكارها وعلومها وفلسفاتها... فتكنولوجيا الاتّصال عمومًا، ووسائل التواصل الاجتماعيّ خصوصًا، ستعيد رسم شكل العالم ومضمونه. فلم يعد بالإمكان النظر إلى التقدّم في الوسائل أنَّه مجرَّد تطوّر في ميدان تقنيّ، بل التطور التقنيّ أو الآلي له تداعيات في المضمون والرسالة، فالوسيلة تعيد صياغة شكل العالم ومضمونه.
- ثمَّة آثار وبصمات تتركها هذه الوسائل على شخصيَّة المُستخدِم لها، وإن لم تكن مقصودة له أو للمؤسِّسين، إلّا أنَّها تترتب على تراكم استخدام هذه الوسائل، كترتّب المعلول على عِلَّته، وإن لم يكن له علاقة مباشرة بالقصد والاختيار الواعي والحر. فالأعراض الجانبيَّة لاستخدام هذه الوسائل تتراكم تدريجيًّا، بشكلٍ خفيف، في المحتوى
الداخليّ للشخصيَّة وتؤثِّر فيه وتتفاعل داخله حتى تطفو على السطح فجأةً.
- بعد أن كانت المنابر التقليديَّة حكرًا على النخبة الدينيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة... أتاحت مواقع التواصل الاجتماعيّ فرصة لعامَّة الناس للتعبير عن آرائهم، وذلك بنحوٍ يمكن عدّ هذه الوسائل مكانًا للشعبيَّة الكونيَّة، حيث جعلت فكرة الديموقراطيَّة أكثر تجسيدًا، لأنَّها تعطي الفرد الإنترنتيّ فرصة في أن يكون طرفًا في المجال العموميّ، وتمنحه الحقّ في التعبير عن رأيه، والمشاركة بصورة مساوية للآخرين، وهذا ما اصطلح عليه اسم «دمقرطة الاتّصال».
- عزّزت وسائل التواصل الاجتماعي من النزعة الفرديَّة في هذا العالم الجديد، حين أتاحت لكل فرد أن يكون له صوته الخاصّ ويعرض أفكاره ووجهات نظره ويكون عنصرًا فاعلًا في البنية الاجتماعيَّة العالميَّة ومشكلاتها وتحدِّياتها. وكذلك حين أمّنت لكل فردٍ منصَّة ساعدت الناس في أن يكونوا مؤثِّرين في العالم. فهذه الوسائل كما صرّح «زوكربيرغ» تسعى إلى «تعظيم الأثر الإيجابيّ للأفراد»، أي إعطاء الفرصة لأيّ أحد كي يكون مؤثِّرًا أينما كان؛ مما يمنح الإنسان شعورًا بالأهميَّة والمكانة والدور في هذا العالم.
- عزّزت دمقرطة الاتّصال من الشعور بقوَّة حضور الأنا، لأنَّها أخرجت آليَّات التعبير من أسر السلطة واستئثارها بحقّ الكلام، والتي كانت تتمثَّل في قادة المجتمع والدولة والمسجد إلى أيدي الناس جميعًا، حيث وجد الفرد الإنترنتيّ نفسه وجهًا لوجه ورأسًا لرأس مع النخبة، بل قد يفوقها حضورًا في هذا الفضاء العموميّ، فهو شخص صاحب رأي وموقف يجادل ويناقش ويعلّق بحرية، فبرزت صورته
الفرديَّة وتضخّمت معها قوَّة حضور الأنا والنرجسيَّة وتضخّم الذات. فبعد أن كانت ذاته ذائبة في هويَّة سلطة الجماعة والحزب والدولة، أصبح الفرد الإنترنتي الذي لا يكون له حيثيَّة اجتماعيَّة في الواقع، عندما يرى عنده آلاف الأصدقاء والمتابعين، ومئات الإعجابات. يرى نفسه من منظار متضخِّم عن حجمه الواقعيّ.
- تتَّصف هذه الوسائل بالتفاعليَّة، والتي تعني تحوّل الإنسان من مجرد متلقٍّ للخطاب وعنصر سلبيّ في استهلاك المضمون، كما في وسائل الاتّصال والتواصل التقليديَّة، إلى فرد منتجٍ للمضمون ومشاركٍ في وضع الأجندة، وله درجة التحكّم ذاتها في عمليَّة الاتّصال من حرية اختيار الوسيلة والمحتوى والزمان والمكان وتعديل المضمون وشكل الرسالة والحوار المتبادل... ويرتبط مفهوم التفاعليَّة بمفاهيم الحريَّة والديموقراطيَّة والمشاركة والحوار والتحرّر من قيود أي سلطة. فتحوَّلت الجماهير من الحال الصامتة إلى أفراد ومجموعات نشطة تكتب وتتجادل حول القضايا العامَّة باستمرار. وهذا يعني أنَّ تحوّلًا حدث في طبيعة المجتمع ذاته، وطبيعة السلطة، وطبيعة علاقة الأفراد بالمجتمع والسلطة.
- الفرد الإنترنتيّ الذي يترعرع، في ظل هكذا مناخ، يمارس فيه الدمقرطة بأشكالها كافَّة نتيجة فرص الحريَّة والمساواة وانعدام الرقابة الاجتماعيَّة والتحرّر من السلطة... لن يبقى الأثر الذهنيّ والنفسيّ والاجتماعيّ لتغيُّره مقتصرًا على خصوص المشاركة في الفضاء الرقميّ، بل تصبح هذه الخصائص جزءًا من هويَّته وتركيبته العقليَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، والتي سيحملها معه إلى الواقع الاجتماعيّ،
فسيتوقَّع أن يطالب الدولة والحزب والمؤسَّسة التي ينتمي إليها بأن يكون شريكًا في صناعة الرأي، وأن لا تهمّش وجهة نظره، أو بالحد الأدنى ستكون قوَّة الاعتراض والنقاش والجدل للرأي حاضرة في القرارات والقضايا كافَّة.
- وضعت وسائل التواصل الاجتماعيّ الفرد أمام مجموعة هائلة من الخيارات السياسيَّة والإعلاميَّة والثقافيَّة بنحوٍ لا تستطيع جهة واحدة سواء أكانت حكوميَّة أو دينيَّة أو حزبيَّة أن تقود الجمهور المتعدّد الآراء والتوجّهات على مواقع التواصل الاجتماعيّ وتتحكَّم بخياراته. إذ بدأ الجمهور يتعرَّف أكثر على الخيارات المتنوِّعة، وبات لا يجدُ نفسه مجبرًا على أن يستمع إلى وجهة نظر جهة واحدة.
- أدَّت التعدّديَّة الثقافيَّة والديمقراطيَّة وانفتاح الخيارات والحريَّة والمساواة والتحرّر من السلطة والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعيّ إلى تحوّل أيديولوجي لدى الجيل الرقميّ، فقد غلب عليه خيارات فكريَّة ذات توجّهات ليبراليَّة. وأصبح يؤمن أكثر من أيّ وقتٍ مضى بمبدأ الحريّة الفرديَّة، وحريَّة التعبير، وحريَّة الاختيار، والأهم تعدّد الطروحات. كما أنَّه لم يعد يحتمل أحاديَّة الطرح والفكر المنغلق.
- أدَّت دمقرطة الاتّصال والنِّديّة التفاعليَّة بالعديد من النخب الثقافيَّة والدينيَّة إلى الابتعاد عن الانخراط في الفضاء الرقميّ، وإن انخرطوا نلاحظ انسحابهم أو عدم فعاليَّتهم... ولعلّ ذلك لشعبويَّة هذه البيئة، أو كما يعبِّر الباحث الإيطالي «أمبرتو إيكو»[7]: «إنَّ الميديا الاجتماعيَّة أتاحت حقّ التعبير إلى
جموع من الحمقى». ومن هنا يرى بعض الباحثين في علوم الاتّصال أنَّ «الخطأ الشائع الذي يمكن أن يهدِّد المثقَّف هو أن يصبح ناشطًا فيسبوكيًّا». وقد صرّح بعض المبلّغين الدينيِّين الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أنّ أحد دوافع انسحابهم هو هذا.
- أدخلت وسائل التواصل الاجتماعيّ الفرد الإنترنتيّ في حال من الذاتيَّة والعزلة الاجتماعيَّة، والتي تعدّ من إفرازات الفردانيَّة، ممَّا أدَّى إلى إضعاف النسيج الاجتماعيّ الواقعيّ، وتتداعى البنية التحتيَّة الاجتماعيَّة التقليديَّة، وتناقص عضويَّة المؤسَّسات التقليديَّة في المجتمع العصريّ. فبدأ نطاق التشبيك الاجتماعيّ عبر الاتّصال المواجهيّ يضيق شيئًا فشيئًا في المجتمعات العربيَّة كلّا، في مقابل اتّساع نطاق التشبيك الاجتماعيّ الافتراضيّ. ولم يعد الناس يتواصلون فيزيقيًّا ويتزاورون كما كانوا يفعلون من قبل، فقد أغنتهم الرسائل النصِّيّة القصيرة ورسائل البريد الإلكترونيّ والبطاقات الإلكترونيَّة، وما يكتبونه ويتبادلونه على فيسبوك وتويتر وواتس آب عن العلاقات الاجتماعيَّة الفيزيقيَّة. ومن هنا لم تعد صورة الأسرة أو العائلة هي تلك التي تعيش في بيت واحد، بعد أن أخذ كلّ فرد من أفرادها في الانهماك بعالمه الافتراضيّ الخاصّ، فثمَّة حضور مغيّب في التجمّعات العائليَّة حيث تتواجد الأجساد في المكان نفسه، بينما تظلّ العقول والعيون منشغلة بالهواتف الذكيَّة.
- أدَّى الاتّصال التكنولوجيّ البارد إلى طغيان البعد التقنيّ على البعد الإنسانيّ في العمليَّة التواصليَّة فإنسان العالم الافتراضي «الأنسوب» (الإنسان/ الحاسوب) يتعامل مع الآخر كرقم من آلاف أو ملايين الأرقام. وبعبارة أخرى أصبح
الفرد الإنترنتيّ أو الإنسان المرقمن كائنًا بشريًّا يشارك كائنًا بشريًّا آخر علاقة رقميَّة عبر الحاسوب. وتكون هذه العلاقة اجتماعيَّة، أو سياسيَّة، أو اقتصاديَّة، أو عاطفيَّة، لكن هذه العلاقة ليست إنسانيّة بالمطلق، بل هي مركّب من إنسان وآلة أو إنسان وحاسوب.
- تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعيّ إلى منصَّات تنشئة اجتماعيَّة لا تنبني محتوياتها وفقًا لمقتضيات بناء المجتمع الواحد والحفاظ على تماسك ذلك المجتمع عبر توارث قيم ثقافيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة متجانسة، فالفرد الإنترنتيّ لا يكون منطلقه المعرفيّ والاجتماعيّ والثقافيّ مجتمع الانتماء الحقيقي الذي يحتضنه فقط، بل الجماعة الافتراضيّة التي يتأثّر بها، عبر مختلف أشكال الزخم الفكريّ والأيديولوجيّ المتداول، في مختلف منصّات التواصل بمختلف المرجعيّات الأيديولوجيّة ومختلف ثقافات العالم.
- فسحت المجتمعات الافتراضيَّة للفـرد بأن يضع هويّته محل استكشاف وتجريب، أي بإمكانه أن يقدِّم نفسه كما يشاء، وعلى النحو الذي يريد. والفرد الإنترنتيّ يمكن أن يكون أي عدد من الشخصيَّات التي يريد. فهو جماعة بل جماعات بحسب تمثّلاته. وكلّ فرد أو بالأحرى «فرد جماعة» له صياغته الخاصَّة بحسب البرمجة التي تقيّده بشكلٍ أو آخر.
- برزت مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعيّ مشكلة تقمّص الشخصيّات الافتراضيّة، من ناحية السنّ والأنوثة والذكورة والدور الاجتماعيّ، فأصبح الفرد الإنترنتيّ قادرًا على خلق هويَّة افتراضيَّة، وهي عبارة عن الشخصيَّة التي يتم إنشاؤها من طرفه لتكون صلة وصل بينه وبين باقي المستخدمين
وبعبارة أخرى، الهويَّة الافتراضيَّة هي السمات والمواصفات التي يقدّمها الفرد الطبيعي للآخرين عن نفسه عبر الإنترنت، ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه من خلالها.
- أتاح تفكيك الهويَّة الشخصيَّة، في العالم الافتراضي، عدم الشعور بالحرج في الكتابة عمَّا يجول في الخاطر ولا في تجاوز اللياقات الاجتماعيَّة وآداب الحوار إلى حدود تبادل السباب والشتائم. فعندما يستخدم الناشطون أسماءهم الحقيقيَّة، طالما أنَّهم ليسوا في مواجهة مباشرة وجهًا لوجه لا يشعرون بالحرج أو الارتباك نفسه الذي يشعرون به في المواجهات الواقعيَّة. لذلك، تعدّ مجتمعات العالم الرقميّ فضاءات رحبة للتمرّد على الخجل والانطواء مرورًا بالتمرّد على الأخلاق العامَّة واللياقات الاجتماعيَّة، انتهاءً بالثورة على الأنظمة السياسيَّة.
- أصبحت هذه البيئة الاجتماعيَّة الجديدة موضوعًا للدراسة من وجهة نظر علوم مختلفة؛ كعلم الاجتماع وعلم النفس، وتمّ تأسيس فرع جديد من فروع علم النفس، يصطلح عليه إسم «علم نفس الإنترنت» أو «علم نفس وسائل التواصل الاجتماعيّ»، وظيفته دراسة الظواهر الإدراكيَّة والنفسيَّة التي تنشأ عن تفاعل الإنسان مع الحاسوب واستخدام الإنترنت وتكنولوجيَّات الاتّصال والتواصل، للإجابة عن مجموعة من الأسئلة: كيف يتفاعل الدماغ البشري مع الإنترنت أو الواقع الافتراضيّ؟ كيف يؤثِّر الفضاء الإلكترونيّ والرقميّ في سيكولوجيا الأفراد والجماعات؟. ويطال البحث في سيكولوجيا وسوسيولوجيا الإنترنت موضوعات مثل: الهويَّة الافتراضيَّة، والفردانيَّة، والعلاقات الاجتماعيَّة بين الناشطين، والإدمان، وسيميا الإيموجي، وتغيير الجنس، والدمقرطة، والانطوائيَّة، والتشبيك الاجتماعيّ... إلخ.
المبحث الأوَّل: التواصل وعناصره- الإنسان كائنٌ تواصليّ
يتميّز الإنسان عن باقي الكائنات المشاركة له في وحدة الحياة بخصائص عدة، منها أنَّه كائن جهّزته اليد الإلهيَّة بمجموعة من الميول الفطريَّة التي تساعده على تحقيق أهدافه الحياتيَّة عن وعيٍ وإرادةٍ. ومن ميوله الفطريَّة أنَّه كائن اجتماعيّ يندفع نحو التشكّل مع الأفراد الآخرين، داخل وحدات عضويَّة يؤمّن بواسطتها حاجاته، ويلبِّي متطلباته في مختلف الأبعاد والساحات.
لا تتحقَّق أهداف هذا التشكَّل الاجتماعيّ إلّا إذا كانت ثمّة وسيلة تمكّن البشر من إيصال مراداتهم إلى بعضهم البعض، والتعبير عنها والتشارك فيها. فلو عجز البشر عن إيصال ما يدور في أذهانهم من أفكار ومفاهيم، ويختلج في قلوبهم من مشاعر وعواطف، ويعايشونه في واقعهم من حوادث، إلى بعضهم البعض لما استقامت الحياة الاجتماعيَّة. فيمكن القول إنّ «الاتّصال أساس الحياة الاجتماعيَّة»[8]. وبعبارة أخرى إنَّ التواصل هو الظاهرة التي تجعل الحياة الإنسانيَّة ممكنة بصورتها التي نعيشها.
فما هو التواصل والاتّصال؟
لم تبرز كلمة اتّصال أو تواصل في قاموس المفردات العلميَّة إلا منذ زمن قريب جدًّا. ويُعدّ مفهوم التواصل من المفاهيم التي تُحيل إلى دلالاتٍ عديدة، لذلك هو من الموضوعات التي تشكّل محورًا مشتركًا بين حقول معرفيَّة مختلفة، فيتم تسليط الضوء عليه ومعالجته في الفلسفة والسياسة والألسنيّة والهندسة وعلم الاجتماع والمعلوماتيَّة، وغيرها. فعندما تتكاتف هذه الحقول المعرفيَّة فيما بينها تمنح موضوع التواصل صبغة جديدة، وتجعله ذات قيمة علميَّة.
لقد تطوَّرت المسألة، في القرن العشرين، ليتجاوز البحث عن الاتّصال كونه مسألة للدراسة في علوم متفرِّقة، ليتّخذ طابع الاستقلال بجعله موضوعًا لعلم قائم بذاته، بنحوٍ لم يلغِ الإبقاء عليه كمسألة يبحث عنها وتُدَرَّس في علوم أخرى، يعالجها كلّ علم بمقدار حاجته البحثيَّة عنها.
أمَّا إذا رصدنا هذه الحقول المعرفيَّة، والتي درست موضوع الاتّصال، نعثر على تعريفات عديدة قدّمت لمفهومه. فقد عرّفه شرام Wilbur Schramm [9] أﻧّﻪ «اﻟﻌﻤﻠﻴَّﺔ اﻟﺘﻲ يتمّ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﺒﺎدل المعلومات والأفكار واﻟﻤﺸﺎﻋﺮ واﻻﺗّﺠﺎﻫﺎت ﺑﻴﻦ ﻓﺮد وآخر أو مجموعة أﻓﺮاد واﻟﻤﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻴﻬﺎ»[10]. ويعرّفه Berelson Steinerg[11] بأنَّه: «عملية نقل المعلومات والرغبات والمشاعر والمعرفة والتجارب
إمّا شفويًّا أو باستعمال الرموز والكلمات والصور والإحصائيَّات بقصد الإقناع أو التأثير على السلوك»[12].
عرّفه آخرون بأنَّه «العمليَّة أو الطريقة التي تُنقَل بها الأفكار والمعلومات بين الناس داخل نسق اجتماع معيَّن يختلف سواء من ناحية الحجم أو محتوى العلاقة المتضمِّنة فيه، بمعنى أنَّ هذا النسق الاجتماعيّ قد يكون مجرد علاقة ثنائيَّة نمطيَّة بين شخصين أو جماعة صغيرة، أو مجتمع محليّ أو قوميّ، أو حتى المجتمع الإنسانيّ ككل»[13].
على كلِّ حال، لا نريد الخوض في جميع التعريفات التي ذُكِرت حول مفهوم الاتّصال. لكن، بعد رصد العديد منها، يمكن القول: «الاتّصال هو عمليَّة يقوم بها طرف ما، بنقل رسالة معيّنة، عن طريق الرموز، إلى طرف آخر، في ظرفٍ خاصٍّ وبيئةٍ معيَّنةٍ، من أجل تحقيق هدف يريد الطرف المرسِل الوصول إليه».
ما هي عناصر عمليَّة الاتصال؟
إذا أردنا تفكيك عمليَّة الاتصال - كما عرَّفناها سابقًا، نجد أنَّها تتضمَّن عناصر عدَّة، هي:
- المتصِّل أو المرسِل: هو الطرف (قد يكون شخصًا أو مؤسَّسة أو شركة...) الذي يبادر بتوجيه رسالته إلى الآخرين.
- الرسالة أو المحتوى: هي المعلومات والمعطيات والمفاهيم والأفكار والآراء والعقائد والعواطف والمشاعر والقيم والأنظمة والقوانين والحوادث والوقائع... إلخ، التي يرغب المتَّصِل بنقلها إلى الآخرين عبر الرموز.
- الوسيلة: هي الطريق الذي يعتمده المُرسِل لنقل الرسالة إلى الآخرين.
- الرموز: هي كل وسيلة تدلّ على المعنى المراد الذي يريده المُتّصِل، سواء كانت صوتيَّة كالكلام أو صوريَّة كالكتابة والصورة أو مرئيَّة كالفيديو أو حركيَّة كالإشارات، أو خليطًا منها.
- المرسَل إليه: هو الطرف الذي يتلقَّى الرسالة المنقولة إليه من المُرسِل.
- الظرف: هو البيئة الحضاريَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة... إلخ التي تتمّ فيها عمليّة الاتّصال.
- الهدف: هو النتيجة التي يسعى المتَّصِل إلى تحقيقها بواسطة عمليَّة الاتّصال.
المبحث الثاني: وسائل التواصل الاجتماعيّ وإشكاليَّة المفهوم
شهدت البشريَّة عبر التاريخ تقنيَّات ووسائل عديدة للتواصل، فتواصل الإنسان مع الآخرين بواسطة الإشارات والإيماءات الجسدية، والحركات الإيقاعيَّة، والرسوم، والنقوش. كان من أهمِّها التعبير اللفظي المباشر ثم الكتابة بصيغتها التقليديَّة، وحتى الأمس القريب كانت الكتب والرسائل والمطبوعات هي الأداة الأساس للاتّصال والتواصل.
دخلت، مع التطوّر العلميّ في المجال التكنولوجيّ، إلى الحضارة البشريَّة وسائل جديدة للاتّصال والتواصل، فاخترع الإنسان التلغراف، والهاتف، والمذياع، والتلفزيون... إلخ. ثم تقدّم الإنسان خطوات إلى الأمام في تكنولوجيا الاتّصال والتواصل، فتفتّق ذهنه عن ظاهرة في غاية التعقيد، مبدعًا الفضاء السيبيريّ[14] ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أحدثت تغيّرًا جذريًّا في طبيعة الاتّصال والتواصل في المجتمعات البشريّة.
تُعدّ وسائل التواصل الاجتماعيّ جزءًا ممَّا يُعرف بالإعلام الجديد، والذي يتمحور حول حركة تدفّق المعلومات عبر الشبكة العنكبوتيَّة والهواتف الجوّالة، ويتولّد منه الدمج convergence بين تكنولوجيَّات الاتّصال والبثّ الجديدة والتقليديَّة مع الكومبيوتر وشبكاته. الدمج هو مصطلح يُستخدم لوصف أشكال وأنواع الاتّصال الإلكترونيّ الذي أصبح ممكنًا باستخدام الكومبيوتر والهاتف الجوال. لذلك يعرّفه قاموس التكنولوجيا الرفيعة High-Tech Dictionary بأنَّه: «اندماج الكومبيوتر وشبكات الكومبيوتر والوسائط المتعدِّدة»[15].
قد عرّفه ليستر[16] بالقول: «الإعلام الجديد باختصار هو مجموعة تكنولوجيَّات الاتّصال التي تولّدت من التزاوج بين الكمبيوتر والوسائل التقليديَّة للإعلام، الطباعة والتصوير الفوتوغرافيّ والصوت والفيديو»[17]. وقد وضعت كليَّة شريديان التكنولوجيَّة Sheridan تعريفًا عمليًّا للإعلام الجديد بأنَّه: «كل أنواع الإعلام الرقميّ الذي يُقدَّم في شكل رقميّ وتفاعليّ».[18] وترى هذه الكليَّة أنَّ هناك حالين تميّزان الإعلام الجديد. تتمثَّل الأولى في الكيفيَّة التي يتم بها بث مادة الإعلام الجديد، والثانية في الكيفيَّة التي يتمّ من خلالها الوصول إلى خدماته. فهو يعتمد على اندماج النص والصورة والفيديو والصوت، فضلًا عن استخدام الكومبيوتر كآليَّة رئيسة له في عمليّة الإنتاج والعرض، أمَّا التفاعليَّة فهي تمثل الفارق الرئيس الذي يميِّزه، وهي سمته الأهم. كما سيتضح من خلال بحث هذه النقطة بالتفصيل.
بعبارة أخرى، يمكن القول إنّ مصطلح الإعلام الجديد يشير إلى المحتوى الإعلاميّ الذي يُبَثّ أو يُنشر عبر الوسائط الإعلاميَّة الجديدة. فمن الصعب إدراجها تحت أيٍّ من الوسائل التقليديَّة كالصحافة والردايو والتلفزيون، وذلك بفعل التطوُّر التكنولوجيّ الكبير في إنتاج المضامين الإعلاميَّة وتوزيعها. فبينما يقوم مبدأ وسائل الإعلام التقليديَّة على نظام ثابت ومعروف، إمَّا بطريقة الاتّصال من Point-to-point، ومثال ذلك الاتصال بالهاتف، أو Point-to-many ومثال ذلك التلفزيون والراديو، يقوم الإعلام الجديد في تطبيقاته المختلفة، خاصَّة المرتبطة بالإنترنت، على نمط آخر مختلف عنه بشكلٍ جذريّ، حيث مكّن الإنترنت الوصول إلى كلّ الأشكال المحتملة من نقاط الاتّصال[19].
إشكاليَّة المفهوم
تُعدّ وسائل التواصل الاجتماعيّ واحدة - كما أشرنا- من أهمّ الإنجازات التي تفتَّق عنها الذهن البشريّ العلميّ المعاصر، وهي نتيجة سياق تراكميّ من تطوُّر الثورة التكنو- معلوماتيَّة، والتي يمكن عدّها أعلى مرحلة من مراحل تطوُّر الحضارة البشريَّة في عالم الأشياء حتى اليوم. وقد أحدثت هذه الثورة تحوُّلات كبرى في طبيعة جمع المعلومات وتخزينها واسترجاعها ونشرها وإنتاجها واستهلاكها والتشارك فيها، فضلًا عن المتغيّرات الكبرى التي غيّرت من وجه العالم.
فوسائل التواصل الاجتماعيّ (أو غيره من المفردات: الإعلام الجديد، الإعلام الرقميّ، الإعلام السيبيريّ، الإعلام التفاعليّ، الإعلام الشبكيّ، إعلام الـ «نحن» we media، الإعلام الاجتماعيّ social media، صحافة المواطن...) مصطلحات حديثة العهد بالولادة، ويمكن أن نطبّق عليها قاعدة تعدُّد الألفاظ لشمول المعاني، إذ يُعبِّر كل مصطلح عن جانب من جوانب هذا الفضاء الواسع.
عرّفت وسائل التواصل الاجتماعيّ بأنَّها مواقع تُستعمل من قبل الأفراد، من أجل التواصل الاجتماعيّ وإقامة العلاقات والتعارف وتكوين صداقات حول العالم، وبناء جماعات افتراضيَّة وفقًا لاهتمامات أو انتماءات مشتركةـ ويمكن للمستخدِم عبرها أن ينشئ صفحته الخاصَّة، وينشر فيها سيرته وصورته ومعلوماته الشخصيَّة، ويكتب مقالات ونصوصًا، وينشر تسجيلات فيديو... إلخ[20].
فقد «نجح الفضاء السيبيري، والذي شكّله الإنترنت، في الجمع بين أفراد ينتمون إلى هويَّات مختلفةٍ في مجموعاتٍ تُعَدُّ تَجمُّعاتٍ اجتماعيَّةٍ تشكَّلت من أماكن متفرِّقة في أنحاء العالم بين أفراد يتقاربون ويتواصلون فيما بينهم عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكترونيّ؛ يتبادلون المعارف فيما بينهم ويُكوِّنون صداقات. ويجمع بين هؤلاء الأفراد اهتمام مشترك، ويحدث بينهم ما يحدث في عالم الواقع من تفاعلات ولكن ليس عن قرب. وتتمّ هذه التفاعلات عن طريق آليَّة اتّصاليَّة هي الإنترنت الذي بدوره ساهم في حركات التشكُّل الافتراضيَّة»[21].
لا يمكن إعطاء تعريف جامع مانع لوسائل التواصل الاجتماعيّ، لأنَّ هويَّتها لمّا تتبلور بعد بشكل نهائيّ. فلم تصل هذه الوسائل إلى قمَّة هرم الثبات في مجالها، بل هي تسير على خطّ التطوّر المستمرّ والسريع. وإذا أردنا وضع ثوابت لتعريف مفهومها وتحديده بناءً ﻋﻠـﻰ الوسائل الجديدة الآن، فهي بالتأكيد سوف تكون قديمة بمجرد ظهور مبتكرات أكثر حداثة.
لذلك، نلاحظ أنَّ المتخصِّصين في الإعلام الجديد، رغم تعريفهم للمفهوم، إلّا أنَّهم قد اعترفوا بهذه الإشكاليَّة حول المفهوم، فمثلًا ستيف جونز(Jones) - مؤلِّف موسوعة الإعلام الجديد- يُقِرّ بعدم وجود إجابة وافية وقاطعة للسؤال: ما هو الإعلام الجديد؟ ويبني إجابته على أنَّ هذا الإعلام هو في مرحلة نشوء[22].
في ضوء ما تقدّم، يتَّضح أنَّه كي تمسك يد الباحث أو جهات القرار بخيوط فَهْمِ طبيعةِ هذا الفضاء، لا يمكن الاكتفاء بالجمود والسكون على دراسة كينونة هذه الوسائل، أي ما هو كائن وواقع في هذه اللحظة الزمنيَّة، بل تحتاج القضيَّة إلى دراسة الصيرورة أيضًا أي التحوُّلات والمتغيِّرات التي تحدث وبشكلٍ يوميٍّ على هذه الساحة، وحركة متابعة مستمرَّة ومواكبة دائمة بسبب الطبيعة السيّالة لهذه الوسائل. ففي هذا الفضاء جديد اليوم يصبح تقليديًّا بعد فترة وجيزة من الزمن.
المبحث الثالث: الحقل الدلاليّ للمباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ
يمكن تحديد المعنى المراد بالمباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ بالنظر إليه من ثلاث زوايا:
الأولى: بلحاظ المبادئ، أي الأسس الثقافيَّة والفكريَّة والمنطلقات والقابليَّات الأيديولوجيَّة والسيسيولوجيَّة والسيكولوجيَّة والإبستمولوجيَّة، والتي سبقت ورافقت نشأة وسائل التواصل الاجتماعيّ وتأسيسها. وهي تؤدِّي دورًا في رسم معالم هويَّتها وتصميمها في ضوء هندسة معيَّنة وبرمجة خاصَّة. فيُمكن التساؤل: هل أنشطة الإنسان وسلوكيَّاته في الحياة بما يشمل الابتكارات العلميَّة والاختراعات التقنيَّة تنطلق من فلسفة حياتيَّة خاصَّة أو تتأثَّر بها؟ هل يمكن أن نعثر على سلوك بشريّ لا يستند إلى رؤية ونظريَّة معيّنة أو ينصبغ بها مهما بدا تقنيًّا في جوهره؟ أم أنَّ الإنسان يتحرَّك -وإن بصورة لا شعوريَّة- في ضوء الفلسفة الحياتيَّة التي ينتمي إليها وينصبغ بلونها؟.
يكمن الجواب عن هذا السؤال في تحليل طبيعة العلاقة بين المعرفة والعقيدة الحياتيَّة من جهة، وبين السلوك البشري من جهة أخرى. لا نشكّ في أنّ سلوك الإنسان وليد أنماط تفكيره ورؤيته عن الحياة، وهذا يعني أنَّ رؤيته الفكريَّة ستترك بصمتها بنحوٍ ما على نشاطه وحركته، وإن لم يدرك تفاصيل تلك الرؤية بصورة واعية،
فمبادئ الفلسفة الحياتيَّة تتحوَّل إلى إطار ثقافيّ يعيشه الإنسان بشكل تلقائيّ ويوجّه سلوكه في الحياة. وكما يعبّر الشهيد مطهري[23]: «إنَّ طريقة تفكير الإنسان وعقيدته حول العالم، والوجود، والله، والمادة، والروح، تؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على سلوكه في الحياة، فطريقة عمل أي فرد في الحياة ترتبط ارتباطًا تامًّا بكيفيَّة نظرته ونوعها عن الكون»[24].
إذًا، البحث عن هذا المعنى للمباني الفكريَّة يكمن في الجواب عن السؤال الآتي: هل أدّت الرؤية الفكريَّة عن الطبيعة البشريَّة والنظام الاجتماعيّ وفلسفة الحياة للسياق الحضاري والمحيط الثقافيّ، والذي يعيش فيه الآباء المؤسِّسون لوسائل التواصل الاجتماعيّ، دورًا في إنشائها وتصميمها وبرمجتها بالكيفيَّة الخاصَّة التي هي عليه؟ أم هي مجرَّد أمر تقنيّ وُلِد من رحم التطور الفنيّ في حقل الاتّصال وتكنولوجيا المعلومات؟.
في الواقع، لا يمكن إنكار أنَّ هذه الوسائل وُلِدت من رحم سياق حضاريّ- ثقافيّ له فلسفته الحياتيَّة الخاصَّة، ولكن السؤال: هل انعكست هذه الأُسُس القابليَّات الثقافيَّة، وإن بصورة الدوافع اللاشعوريَّة، على إنشاء هذه الوسائل وهندستها وبرمجتها بصورة معيّنة ومحدَّدة؟.
إنَّ الشخص الذي عمل على تأسيس وسائل التواصل الاجتماعيّ وتصميمها وهندستها وبرمجتها ينتمي إلى محيط حضاريّ معيَّن، وإلى فلسفة حياتيَّة خاصَّة، أي له نظرة إلى الحياة والمجتمع والإنسان. بناءً على ما تقدّم من عموم قاعدة انصباغ السلوك
البشريّ بلون التفكير، يمكن القول - بشكل عام - إنَّ الفلسفة الحياتيَّة للمؤسِّسين انعكست على هذه الوسائل، لأنَّهم مهما بالغوا في التقنيَّة وتوغَّلوا فيها لن يستطيعوا عزل DNA عالم الأفكار عن أن يصبغ عالم الأشياء. ولعلَّه بإمكاننا تصيّد هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[25].
الثانية: بلحاظ الغايات والأهداف المقصودة، أي ما هي الأهداف التي شكّلت المحرّك للآباء المؤسِّسين للاندفاع نحو تأسيس هذه الوسائل وإنشائها أو الاستمرار فيها؟. وهذا القيد الأخير يجدر التنبُّه إليه، لأنَّ الأهداف والمقاصد لهذه الوسائل -كما أشرنا- في حال سيلان وتجدّد مستمر، فالقيّمون على هذه الوسائل يضعون أهدافًا ثابتة، وأخرى متحرِّكة ومرنة، ثمَّ يُطوّرون نظرتهم إلى الأهداف في ضوء الكثير من المعطيات والوقائع، فيعدّلون في هذه الوسائل ويبرمجونها ويصمِّمونها بما يتلاءم مع خدمة أهدافهم الجديدة. فالآباء المؤسِّسون، وإن كانت لهم أهداف معيَّنة عند إرادة إنشاء هذه الوسائل، إلّا أنّ لائحة أهدافهم تتطوَّر وتتبدَّل وتتغيَّر مع مرور الوقت، سواء صرّحوا بهذه الأهداف المستجِّدة وحاضروا وكتبوا عنها، أم أخفوها وأضمروها.
فإذا كنا نعتقد -والأمر كذلك- أنَّ الإنسان كائنٌ هدفيٌّ، بمعنى أنَّه يتحرَّك وينشط في الحياة عن علمٍ واختيارٍ بدافع تحقيق بعض النتائج في المستقبل، وأنَّ دراسة الهدف والبحث عنه ذو طبيعة فكريَّة وفلسفيَّة، فهذا يعني أنَّ كلّ من ينشط في الحياة إنما يتحرَّك ليحقق أهدافًا معيَّنة، ترتسم هذه الأهداف في أفق ذهنه انطلاقًا من فلسفة حياة، فيكون البحث عن هذه الأهداف بحثًا فلسفيًّا وفكريًّا بامتياز. ولذا يُمكن أن يعدّ البحث عن الأهداف جزءًا من البحث عن المباني الفكريَّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ.
في المحصِّلة، إنّ وسائل التواصل الاجتماعيِّ هي وسائل، فإذا أخذنا المعنى الفلسفيّ للوسيلة، التي تعني الطريق الذي يعتمده الإنسان من أجل الوصول إلى تحقيق هدفٍ ما، فنسأل عنها: هي وسيلة إلى ماذا؟ ثمَّة أهداف مسكونة في ذهن الآباء المؤسِّسين، يريدون تحقيقها ويسعون في ذلك. فالإنسان الذي عمل على إنشاء وسائل التواصل الاجتماعيّ لم ينظر فقط إلى «كيف؟» بل كان في ذهنه سؤال: «لِمَ؟» الذي هو سؤال عن الأهداف التي تفاعلت في دماغه لتأسيس فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب أو غوغل بلس أو انستغرام، أو الاستمرار فيها.
أمَّا إذا قيل - كما يذهب إلى هذا الرأي العديد من الباحثين- إنَّ هذه الوسائل نشأت لهدف عسكريّ واستخباراتيّ يتمحور حول قيام الجيش الأميركيّ وأجهزة الاستخبارات الأميركيَّة بجمع المعلومات وتخزينها وتحليلها لصناعة القرارات في ضوئها، فإنَّما يكون ذلك لمبنى فكريّ سابق أو هدف استراتيجيّ أعلى يحكم هذا الهدف، وهو قيادة العالم والتحكُّم به والسيطرة عليه. فهذه الوسائل انطلقت من فلسفة خاصَّة تكمن في الشعور الأمريكيّ بضرورة التفوُّق عبر فائض القوَّة بأشكالها المختلفة. وفي النظرة إلى أمريكا على أنَّها قائد العالم الذي يسعى إلى امتلاك كل الوسائل التي تمكّنه من التحكم والسيطرة على العالم لأجل قيادته، فهذا يعني أنَّ هذه الوسائل انطلقت من عقيدة أمريكيَّة خاصَّة تتمحور حول قوَّة التفوُّق الأمريكيَّة والرغبة الوطنيَّة في إظهار هذه القوَّة واستعراضها على الساحة العالميَّة، لنشر القيم الأمريكيَّة ومصالحها من خلال قيادة العالم.
تجاوزًا لهذه المسألة، لا يمكن إنكار أنَّه مع مرور الوقت تطورت الأهداف، وتمدَّدت هذه الوسائل خارج الإطار الأمنيّ والعسكريّ لتصبح لها أهداف ثقافيَّة واجتماعيَّة. فوجود أهداف استخباراتيَّة
وعسكريَّة لهذه الوسائل لا يعني إعلان موت الأهداف الأخرى التي تخدم السياسة الأمريكيَّة العامَّة، في مختلف المجالات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة. فاستخباريَّة وسائل التواصل الاجتماعي لا تلغي وجود أهداف مغايرة ترتبط بخدمة المصالح الأمريكيَّة في مجالات أخرى، وهذا يعني أنَّ هذه الوسائل لها أهداف مثنى وثلاث ورباع، فهذه الوسائل هي منصَّات لنشر الثقافة الأمريكيَّة وقيمها. وهذا ما أكَّده المدير التنفيذيّ لشركة غوغل «أريك شميدت» عندما صرّح بأنَّ شبكة الإنترنت مرتبطة بأهداف السياسة الأميركيَّة الخارجيَّة ومصالحها[26].
ليس من الضروريّ أن تخدم هذه الوسائل السياسة الأمريكيَّة النظاميَّة أو الرسميَّة فقط، بل تخدم فلسفة الحياة الأمريكيَّة ومنظومة القيم الأمريكيَّة من خلال انتماء القيّمين على إدارة هذه المواقع وبرمجتها إلى تلك الفلسفة الحياتيَّة، كما يظهر خلال مقالة مارك زوكربرغ مؤسِّس فيسبوك. فقد صرَّح زوكربيرغ[27] في مقالٍ له تحت عنوان Building Global Community[28]، بأنَّ وظيفة فيسبوك هي المساهمة في تنمية الشخصيَّة وتعزيز القيم، فعن أي قيم يتَّحدث زوكربرغ؟! إنَّها قيم المجتمع الأمريكيّ ونمط الحياة الأمريكيَّة. هذا ما يُصطلح عليه في سيكولوجيا الإعلام والاتّصال وظيفة خلق الدوافع، أي دعم أهداف مجتمع ما من خلال تشجيع وسائل الإعلام والاتّصال على خيارات بعينها.
الثالثة: بلحاظ النتائج، أي ما هي الآثار التي تترتّب على استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ؟ وما هي الانعكاسات والتداعيات التي
تتركها عمليَّة استخدام هذه الوسائل في بناء هويَّة المستخدِم لها والناشط عليها في مختلف أبعاد شخصيَّته؟. وذلك بغضِّ النظر عن كون هذه الانعكاسات هي أهداف مقصودة للآباء المؤسِّسين، أم أنَّها أعراض جانبيَّة تقتضيها طبيعة الاستخدام والنشاط بنحوٍ لم يكن في الحسبان وغير ملتفت إليها. فثمَّة نتائج تظهر على شخصيَّة المُستخدِم، وإن لم تكن مقصودة له أو للمؤسِّسين، إلا أنَّها تترتَّب على تراكم استخدام تلك الوسائل كترتب المعلول على عِلَّته، وإن لم يكن له علاقة مباشرة بالقصد والاختيار الواعي والحر. فالأعراض الجانبيَّة لاستخدام هذه الوسائل تتراكم تدريجيًّا بشكل خفيف في المحتوى الداخلي للشخصيًّة، وتؤثِّر فيه وتتفاعل داخله حتى تطفو على السطح فجأة.
بناءً عليه، يُطْرح السؤال، هل تجعل برمجة هذه المواقع لخدمة الأهداف الأمريكيَّة، الناشط أو المشارك عنصرًا منخرطًا في تحقيق تلك الأهداف بشكل أوتوماتيكيّ؟ أم أنَّها متوقِّفة على إرادة الاستخدام وطبيعة سمات الشخصيَّة المستخدِمة؟. وبعبارة فلسفيَّة هل هذه الأهداف تترتَّب على استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ تُرتِّب المعلول على علَّته التامَّة، أم أنَّ مبادئ الفعل من البصيرة والوعي والرغبة والإرادة الحرّة تؤدِّي دورًا بنيويًّا في وظيفة الاستخدام وهدفيَّته؟ بل ألا يُمكن قلب المعادلة وتوظيف هذه الوسائل لأهداف أخرى غير التي وُضِعَت لها؟.
الجواب عن هذا السؤال متشابك ومعقّد، إلّا أنَّه يمكن القول إنَّ استخدام هذه المواقع يتم على نحوين؛ الأوَّل يخدم الأهداف الأمريكيَّة في بناء بنك معلومات عن شخصيَّات المشاركين من خلال ما يُدخله المستخدم من معلومات عن نفسه وعن الآخرين، وما يطرحه من آراء ووجهات نظر، وما يعبِّر عنه من عواطف
ومشاعر، فذلك يخدم أهداف الأجهزة الأمريكيَّة في تحليل أنماط الشخصيَّة وكشف العلاقات البينيَّة وأنحاء الارتباط لمستخدمي الشبكة ومعرفة اتّجاهات الرأي العام، ورصد المشكلات الداخليَّة ونقاط الضعف والثغرات، ثمَّ توظيف هذه المعطيات والبناء عليها والتسلّل منها لتحقيق الأهداف الثقافيَّة والسياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة.
هذا لا يعني أنَّه لا يمكن للمُستخدم أن يحصّن نفسه من ارتدادات الأهداف الأمريكيَّة، وإن بشكل نسبي من خلال مراعاة بعض القيم والضوابط والسياسات، بنحوٍ تجعله هذه القيم والضوابط يستخدم هذه المواقع لخدمة الأهداف التي ينتمي إليها رساليًّا، وإن كانت الأعراض الجانبيَّة التي تصيب الناشط جزءًا من أثمان المشاركة على هذه المواقع، إلَّا أنَّه يمكن تجنبها أو الحدّ من تداعياتها عليه بفعل الالتزام بالعديد من الضوابط الأخلاقيَّة والشرعيَّة والعرفيَّة والتنبُّه والبصيرة والوعي ورساليَّة الهدف.
إلَّا أنَّه رغم ذلك، تبقى النقطة الأساس هي أنَّ المستخدم سيتأثَّر بتصميم وبرمجة هذه الوسيلة في إحداث تحوّل ما في شخصيَّته، إذا نظرنا إلى طبيعة العلاقة بين الوسيلة والأثر المضموني الذي تتركه على شخصيَّة المستخدم. إذ تؤدِّي برمجة هذه الوسيلة بكيفيَّة خاصَّة إلى غرس مجموعة من المفاهيم والقيم التي تُحدِث فرقًا، وتوجد تحوُّلًا في الشخصيَّة أو تَكْسُر بعض الحواجز القيميَّة، وهذا يحيلنا إلى طبيعة البحث بين الوسيلة والمضمون.
الوسيلة شريكة في صناعة المحتوى والمضمون
شهدت الحضارة البشريَّة ثباتًا نسبيًّا، في عمليَّة الاتّصال والتواصل، إلى أن حدث التطوُّر الهائل في ميدان العلوم الطبيعيَّة،
والذي يمكن أن نصطلح عليه إسم «النهضة العلميَّة». هذا أدّى إلى التقدُّم العلميَّ- التكنولوجيِّ، والذي ساهم في تطوير صناعة الآلات والأدوات وتحديثها في مختلف المجالات، فحدثت الثورة الصناعيَّة الأولى، والتي بدأت باختراع الآلة البخاريَّة في انجلترا، وما تلاها من اختراع آلات ميكانيكيَّة قادرة على تنفيذ الأعمال، وإنتاج ما يفوق قدرة اليد العاملة البشريَّة بعشرات بل مئات الأضعاف. واستُكمل هذا التطور بالثورة الصناعيَّة الثانية بعد اكتشاف الكهرباء ودخول المحرِّكات الكهربائيَّة إلى حياة الإنسان.
لقد كان اختراع الآلة البخاريَّة، وما تلاها من صناعات، هو حجر الدومينو الأوَّل الذي أدى إلى تغيّر صورة العالم. فبعد أن كان أغلب الناس، ما قبل الثورة الصناعيَّة، يقيمون في تجمّعات صغيرة في الأرياف، تتمحور حياتهم فيها حول الزراعة -الفرديَّة غالبًا- ويُنتجون بأنفسهم ما يحتاجون في حياتهم من غذاءٍ ولباسٍ وأثاث بل حتى منازلهم كانوا يبنونها بأيدهم بالمواد المتوفِّرة من محيطهم الطبيعي، وكانت وسائل النقل هي الحيوانات والعربات، وكانت أنشطة الحياة بطيئة وتقتصر على النهار؛ - بعد أن كان نمط الحياة وصورة الحضارة كذلك- أحدثت الثورة الصناعيَّة تغيُّرات جذريَّة في مختلف جوانب حياة الإنسان والحضارة البشريَّة، فتغيَّر المشهد الفكريّ والاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ كله.
ظهر تغيُّر التنظيم المدنيّ وطبيعة العمران ببناء الجسور وتوسيع المواصلات وبناء سكك الحديد. وتغيُّر القطاع الزراعيّ بفضل المعدَّات المتطوِّرة التي زادت من نسبة الإنتاج؛ وتغيُّر القطاع الصحيّ بسبب الآلات الطبيَّة. وزادت إيرادات الدول ورجال الأعمال الذين احتكروا المصانع والمناجم والأسواق والشركات، وأصبحوا يملكون فائضًا من الأموال، ونشطت حركة البنوك والمصارف. فحقَّقت بعض الدول، بريطانيا على سبيل المثال، تقدّمًا عسكريًّا
بسبب هذا التطور، ما أدَّى إلى تصدّرها على باقي دول العالم، واشتدَّت المنافسة بين الدول على المواد الخام، والبحث عن أسواق لتصريف البضائع والإنتاج، وطرق المواصلات، فنشبت النزاعات والصراعات.
كما أنَّ تغيُّر النظام الاجتماعيّ، جعل المجتمع ينقسم إلى طبقتين؛ طبقة أصحاب رؤوس الأموال والمصانع والشركات التجاريَّة، وطبقة العمال النازحين من المناطق الريفيَّة بحثًا عن فرص العمل التي وفَّرتها لهم المصانع في المدن، ممَّا أدَّى إلى التزايد السكانيّ وتغيير الخارطة الديموغرافيَّة للمدن أيضًا. كما تغيّرت مسؤوليَّات الدولة ووظائفها - فمثلًا تدخَّلت الدولة بإصدار تشريعات لحماية العمال كالضمان الاجتماعي الذي يؤمّن العمال ضد الحوادث والمرض والبطالة، كما تغيّر شكل الأرياف وطبيعة الحياة فيها حيث تحسَّن المستوى المعيشيّ فيها.
طال هذا التغيير الحياة السياسيَّة، فنشأت ظاهرة الأحزاب التي تريد الدفاع عن حقوق العمال والمشاركة في الحياة السياسيَّة للدول، ومن رحم هذه التحوّلات وُلِدت أفكار فلسفيَّة ثوريَّة كالماركسيَّة والفكر الشيوعيّ واشتعلت ثورات عدَّة داخل بعض الدول، ودخلت الاشتراكيَّة في صراعٍ مع الفكر الرأسماليّ وأخذت الرأسماليَّة نتيجة بعض الاعتراضات والإشكاليَّات عليها في الفكر والممارسة بتطوير نفسها وظهرت بصورة مذهب وفلسفة حياة، وأصبح معيار التمدُّن يتمحور حول وجود المصانع التي ميّزت الحياة المدنيَّة عن الحياة القرويَّة وغيرها من التحوُّلات التي لا تخفى على الباحث في آثار الثورة الصناعيَّة وتداعياتها على طبيعة الحضارة البشريَّة.
أحدثت الثورة الصناعيَّة في تطوُّر الآلات والمعدَّات والأدوات تغيّرات جذريَّة في عالم الأفكار والفلسفات والعلوم والمعارف وتحوّلات كبيرة في النظم السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، إلخ. فالتحوُّل في الآلات والوسائل لا يقتصر على الفضاء التقنيّ والشكليّ
بل يتعدَّاه إلى إحداث تحوّل في بنية الحياة الإنسانيَّة، وشكل الحضارة البشريَّة ونُظمها وقيمها وأفكارها وعلومها وفلسفاتها.
ثمَّة مباني فكريَّة عديدة أدَّت إلى حدوث الثورة الصناعيَّة والتطوُّر في مجال صناعة الآلات في الغرب، منها أنَّ الإنسان الأوروبيّ يفكّر بطريقة رأسماليَّة حتى قبل أن تتبلور الرأسماليَّة بمفهومها المعاصر بصفتها مذهبًا فكريًّا اقتصاديًّا. فقد اعترف «آدم سميث»[29] في كتابه «ثروة الأمم» أنَّ التاجر الأوروبيّ لن يكتفي بتأمين احتياجاته الخاصَّة والأسريَّة في تجارته، بل سيقوم بتوظيف المزيد من العمال بفائض المال لإنتاج المزيد وتحقيق نسبة أعلى من الأرباح.
هذه الصورة البسيطة عن الرأسماليَّة التي تميل بشكل جامح نحو تنمية رأس المال وعدم الاكتفاء بتلبية الحاجات هي التي كوَّنت بيئة ثقافيَّة مناسبة لاحتضان الثورة الصناعيَّة، فالدماغ الأوروبيّ يتفاعل مع الأشياء بطريقة تقوم على تنمية رأس المال خارج حدود الكفاية والإشباع، الأمر الذي لم تشهده مثلًا الدولة العثمانيَّة -أو الصينيَّة آنذاك- رغم ما تمتلكه من ثروات. إلَّا أنَّه لم يتوفَّر فيها جموح الميول نحو الرأسماليَّة الأوروبيَّة ذاتها في التجارة والعمل، وإن كان هذا لا يعني أبدًا عدم سعي تلك الدول وأفرادها للربح ونمو رأس المال، لكنَّه ليس من الجموح والشطح في تفاعلات الدماغ والسيكولوجيا كما هو الحال عند الإنسان الأوروبي.
في الواقع، يلاحظ المتتبِّع للحقبات التاريخيَّة أنّ كل مرحلة من مراحل التطوّر التقنيّ، والمصحوب باكتشاف وسائل وصناعات جديدة كان يحدث فيها تغييرًا في طبيعة الحضارة البشريَّة، ويدخل
الإنسان في عصرٍ جديد له ملامحه ومعالمه التي تختلف عن العصر الذي يسبقه. فبالإضافة إلى مثال الثورة الصناعيَّ المتقدّم، يقدّم الباحثون شاهدًا آخرًا على ذلك، سببه اختراع «يوهان غوتنبرغ» لآلة الطباعة، فقد عبّر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي «فرنسيس بيكون» بوصفه للطباعة بالأحرف المطبعيَّة بأنَّها غيّرت وجه الأشياء وحالتها في أنحاء العالم[30].
لقد أثبت «ماكلوهان» في دراساته أنَّ آلة الطباعة تُعدّ ثورة في طريقة تفكير البشر وإدراكهم للعالم الذي يعيشون فيه، وذلك لأنَّه بفضل آلة الطباعة دخلت البشريَّة عصر الصحافة ونشأت أوَّل وسيلة إعلام، ودخلت طباعة الكتب عصرًا جديدًا، وأدَّت وفرة المطبوعات الصحفيَّة والكتبيَّة إلى أن تكون المعرفة في متناول الجميع، ولم تعد حكرًا على النخبة والطبقة المثقَّفة وهذا ما اصطُلِح عليه بإسم تعزيز ديموقراطيَّة المعرفة، فقد غيّر الإعلام بصورته تلك تركيبة المجتمع وبنيته بسبب انتشار المعلومات والأفكار الثوريَّة التي ألهمت الجماهير بالفكر الثوريّ والإصلاحيّ، وأدَّت إلى زيادة نسبة الوعي، وهدَّدت السلطة السياسيَّة والدينيَّة وغيرها.
ففي كلّ محطَّة من اكتشاف آلة، وما يليها من تحوّلات في وجه الحضارة البشريَّة، كان يفتح النقاش حول الكثير من القضايا الإشكاليَّة التي يثيرها التطوُّر التقنيّ في وجه الاجتماع البشريّ وصيغته التقليديَّة التي كانت قائمة. وبعبارة أخرى، كان التحوُّل من الوضع القائم إلى وضع آخر جديد يترك آثارًا جانبيَّة تُدخِل البشريَّة في مرحلة جديدة معرفيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وتربويًّا. وستسلك الحضارة البشريَّة المعاصرة طريق الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. وسنقدّم في المباحث اللاحقة التموضعات التي أحدثت وسائل التواصل الاجتماعيّ تغيّرًا فيها.
فلم يعد بالإمكان النظر إلى التقدُّم في الوسائل على أنَّه مجرَّد تطوُّر في ميدان تقني، بل التطوُّر التقنيّ أو الآلي له تداعيات في المضمون والرسالة، وهو حجر الدومينو الأول في ما يترك خلفه من تداعيات، ويجرّ وراءه من نتائج وانعكاسات. فلم تعد الوسيلة هي مجرد أداة، بل الوسيلة تعيد صياغة شكل العالم ومضمونه.
المبحث الرابع: نحو مجتمعٍ عالميٍّ جديد
وسائل التواصل الاجتماعيّ في ضوء نظريَّة «زوكربرغ»
ذكرنا سابقًا أنَّ الإنسان مخلوقٌ اجتماعيٌّ، يميل إلى العيش داخل وحدات اجتماعيَّة، يأنسُ بأفرادها ويؤمِّن متطلباته الحياتيَّة بواسطتهم. وتعدَّدت التشكُّلات الاجتماعيَّة عبر التاريخ، قبائل أو قرى أو مدن، كما عرفت البشريَّة تشكُّلات اجتماعيَّة متنوِّعة داخل الدول أو المدن أو القرى، كدُور العبادة من المساجد والكنائس، والأنديَّة الرياضيَّة، والجمعيَّات الأهليَّة، والمؤسَّسات التعليميَّة، والنقابات، والأحزاب، إلخ. يلجأ الأفراد إلى هذه المجتمعات من أجل تلبية حاجاتهم المختلفة؛ الفكريَّة والروحيَّة والعاطفيَّة والبدنيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وغيرها.
لقد كانت عمليَّات التواصل الاجتماعيَّ قديمًا تحصل غالبًا بالحضور الفيزيقي المباشر لأطراف العلاقة في حيِّزٍ جغرافيٍّ واحدٍ ولحظة زمنيَّة مشتركة. ومع تطوُّر وسائل الاتّصال والتواصل (تلفزيون- إذاعة- هاتف...) بدأ العالم بالتحوّل إلى أن وصل الأمر إلى ما يشبه قرية كونيَّة واحدة (العولمة). فبعد أن كان ينظر الأفراد أو الدول إلى الظواهر والمشاكل والتحدِّيات وغيرها على أنَّها ذات طبيعة محليَّة أو خاصَّة، أدَّى تطوُّر وسائل الإعلام إلى اطّلاع البشر
على ما يحصل في البلدان الأخرى، وأصبحت الظواهر والمشكلات والتحدِّيات ذات صبغة دوليَّة وعالميَّة، ولم يعد أي منها منحصرًا في المجتمع المحليّ. مثل: (الإرهاب، الأوبئة، تغيّرُ المناخ، أزمات اللاجئين، إلخ).
مع ذلك، تُعَدّ البنية التحتيَّة الاجتماعيَّة التقليديَّة التي عهدتها البشريَّة عاجزة عن تقديم الحماية والأمان في معالجة مثل هذه القضايا. لذا، تحتاج البشريَّة اليوم في مواجهة المشكلات والتحدِّيات إلى اجتماع من نوع آخر ليس بمقدور التشكيلات التقليديَّة من مدن وقرى العمل على حلّها ومواجهتها بشكلٍ منفرد. ذلك لأنَّها مشكلات وتحدِّيات كبرى تحتاج إلى استجابات عالميّة عابرة للدول والقارَّات، بل تحتاج إلى تشكيل بنية تحتيَّة اجتماعيَّة عالميَّة تمكّن من تحقيق أمور ذات أهداف مشتركة.
يدّعي مؤسِّس فيسبوك «مارك زوكربرغ»[31] أنَّ وسائل التواصل الاجتماعيّ عمومًا، وفيسبوك خصوصًا، يذهب في هذا الاتّجاه أي توفير فرصة لبناء مجتمع عالميّ جديد، تحدُث فيه حركة اتّصال عالميَّة وبناء تفاهم مشترك من أجل تعظيم الأثر الإيجابيّ في حلّ المشكلات ومواجهة التحدِّيات، وتُوَفِّر وسائل التواصل الاجتماعي ذلك من خلال إشراك أكبر عدد ممكن من البشر لتخصيص طاقاتهم في بناء البينة التحتيَّة الاجتماعيَّة العالميَّة. وبعبارة أخرى بحسب قوله: «أهم ما يمكننا فعله في فيسبوك هو تطوير البنية التحتيَّة الاجتماعيَّة لنعطي الناس القوَّة لبناء مجتمع عالمي يصبّ في صالحنا جميعًا»[32].
هنا يأتي دور وسائل التواصل الاجتماعيّ في تعزيز النزعة الفرديّة التي سنبحث عنها بالتفصيل لاحقًا. ففي هذا العالم الجديد، بإمكان
أي فرد أن يكون له صوته الخاصّ، ويعرض أفكاره ووجهات نظره ويكون عنصرًا فاعلًا في البنية الاجتماعيَّة العالميَّة ومشكلاتها وتحدِّياتها، لأنَّ وسائل التواصل الاجتماعيّ أمّنت لكلِّ فردٍ منصَّة، وساعدت الناس في أن يكونوا مؤثِّرين في العالم. فهذه الوسائل تسعى إلى «تعظيم الأثر الإيجابيّ للأفراد»، أي إعطاء الفرصة لأي أحد كي يكون مؤثِّرًا أينما كان؛ مما يمنح الإنسان شعورًا بالأهمِّيَّة والمكانة والدور في هذا العالم.
فهذا المجتمع العالميّ الجديد، هو بيئة حاضنة لتعرّف الناس على بعضهم البعض، وتقريبهم من بعض، وهو عالم انفتاح أي عضو على ثقافات وحضارات وأديان وطوائف مختلفة، وهو عالم يُعَظَّم فيه دور الفرد ومكانته العالميَّة. كما أنّ هذا المجتمع الكبير يحوي في داخله مجتمعات صغيرة جديدة تتشكَّل في ضوء الاهتمامات المشتركة، أو كما يعبّر زوكربرغ «مجموعات مؤثِّرة» في الحياة تربطها هموم مشتركة، وتدعم بعضها البعض في حياتها اليوميَّة على أرض الواقع من خلال لقاءات وتنظيم حفلات وغيرها.
بالنظر إلى هذه النقطة، يعتقد زوكربرغ أنَّ المجتمع الجديد بيئة لا تعمل على إضعاف النسيج الاجتماعيّ الواقعيّ، بل تؤدِّي إلى تقويته في عالم تتداعى فيه البنية التحتيَّة الاجتماعيَّة التقليديَّة. فهذه الوسائل تشكل فرصة حقيقيَّة لتقوية التجمُّعات الفيزيقيَّة التي يجتمع فيها الناس وجهًا لوجه لدعم بعضهم البعض وتلبية الحاجات الشخصيَّة والعاطفيَّة والروحيَّة. ويدَّعي زوكربرغ أيضًا أنَّ هذه الوسائل أعطت المؤسَّسات التقليديَّة، والتي تناقصت عضويَّتها في المجتمع وتراجعت نسبة حضورها وفاعليَّتها الاجتماعيَّة، فرصة لإعادة تقوية عضويَّتها الاجتماعيَّة وتثبيت حضورها في المجتمع عبر حضورها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فـ«فيسبوك» يدعم المؤسَّسات التقليديَّة في زمن تناقص عضويَّتها.
كان أنّ زوكربرغ يلتفت إلى إشكاليَّة العلاقة بين استخدام هذه
الوسائل والعزلة الاجتماعيَّة، إذ يرى أنّ ما تقدّم لا يعني أنَّه ليس من آثار هذا العالم الشعور بالعزلة الاجتماعيَّة، فالتكنولوجيا والشبكات الاجتماعيَّة قد تُسَبِب العزلة، إلّا أنَّها آثار جانبيَّة وينبغي العمل على تداركها ومعالجتها.
فوسائل التواصل الاجتماعيّ تُشَكّل نقطة مضيئة في مساعدة الناس، وطمأنة أي فرد أو جماعة بأنَّه ليس وحده مع وجود هذا المجتمع، بل هو أو نحن جزء من كيان أكبر من أنفسنا، تُشكِّل شبكة أمان للبشريَّة.
بناءً على ما تقدّم من رؤية زوكربرغ لوسائل التواصل الاجتماعي، يمكن القول إنّ مشاركة أي فرد في فتح حساب على مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ كفيسبوك أو تويتر أو غيرهما، وينشط في هذه المواقع تجعله عضوًا تلقائيًّا في بناء البنية التحتيَّة للمجتمع العالميّ الجديد، فالانخراط في مواقع التواصل الاجتماعيّ هو انخراط في عضويَّة مجتمعيَّة جديدة. وهنا يأتي السؤال الكبير عن القواعد والضوابط التي تحكم طبيعة هذه العضويَّة الاجتماعيَّة الجديدة، من ناحية الانتماء والهويَّة والدور والوظيفة؟.
علاقة البيئة ببناء الشخصيَّة
تُشكّل وسائل التواصل الاجتماعيّ بيئة جديدة تضاف إلى ما كانت تعرفه البشريَّة من أنواع البيئات الأخرى. ولا شك في أنَّ النفس البشريَّة لها نحوٌ من المرآتيَّة والاسفنجيَّة في خطّ علاقتها بالبيئة، حيث ينعكس فيها ما تتفاعل معه وتمتصّ ما تتعرّض له وتُخزِّنه في ذاتها[33]. وهذا لا يعني أنَّها تعكسه دائمًا كما تلقَّته من
الخارج، وإنَّما تخضع المُدخلات إلى مجموعة من التفاعلات الداخليَّة والعمليَّات الذهنيَّة والنفسيَّة التي تُخرج المدخلات بصورة تنطبع بذاتيَّة الفرد المتلقِّي.
إذ إنَّ الإنسان لا يكتسب تصوّراته وعقائده واتّجاهاته وقيمه وسلوكاته ومهاراته من تلقاء نفسه نتيجة لتأمّله الذّاتيّ، بل بفعل تأثّره بالمحيط الذي يمارس فيه حياته وأنشطته ويفرغ فيه طاقاته، فتتشكّل لوحة شخصيّته بفعل الانفعال والتأثّر بالبيئة الاجتماعيَّة والمحيط العام عبر التفاعل بين ذاته وبين بيئته في كلّيتها[34]. وهذا ما يُخبرنا عنه القرآن الكريم عن أولئك الذين كان النبيّ يدعوهم لاتّباعه فيُجيبون: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾[35]، ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾[36].
فقوَّة تأثير البيئة في بناء شخصيَّة الإنسان ممَّا لا يمكن لأحد إنكاره، فحتى الفطرة التوحيديَّة الصافية التي أودعها الله بأصل الخلقة في نفس الإنسان لا تصمد أمام تأثيرات البيئة الأسريَّة والمجتمعيَّة. وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: «ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه...»[37]. وفي هذا السياق ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أيضًا، أنَّه قال: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة»[38]. وباختصار كما يعبر الشيخ مصباح اليزدي[39]: «لا- أحد - يستطيع أن يُنكر أصل تأثير
البيئة الاجتماعيَّة ونفوذها في تكوين شخصيَّة كلّ واحد من أفراد الإنسان، وأنَّ هذا التأثير والنفوذ عميق وشامل بالنسبة للأكثريَّة الساحقة من الناس، فلا ريب أنّ الفرد في كثير من الأحيان تابع ومحكوم لإرادة المجتمع»[40].
البيئة الجديدة لمواقع التواصل الاجتماعيّ مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وأنستغرام، هي بيئة اجتماعيَّة واقعيَّة وليست مجازية أو افتراضيَّة إلّا بلحاظ المقارنة والنسبة الاعتباريَّة مع الواقع التقليديّ الذي اعتدناه. وذلك لأنَّ معيار الواقعيَّة والأصالة هو أن يكون الشيء منشأ لترتب الآثار الحقيقيَّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، أو ما يُسَمَّى العالم الافتراضيّ هي بهذا المعنى واقعيَّة على قدر الواقع الاجتماعيّ نفسه.
كما أنَّ البيئة والمحيط الاجتماعيّ الذي ينشأ الإنسان في مجاله الحيويّ بكافّة مؤسّساته (الأسرة، الحيّ، الجيران، الأقارب، المدرسة، الأصدقاء، مجموعات اللعب، الجمعيَّات الكشفيَّة، الأحزاب السياسيَّة، المساجد، الحسينيَّات، الأندية الرياضيَّة) يؤدِّي دورًا بارزًا في تحديد ملامح هويّة الإنسان الذهنيَّة والنفسيَّة والقيميَّة والسلوكيَّة والوجدانيَّة وعاداته وتقاليده ونظم تفكيره ...، كذلك البيئة التواصليَّة الجديدة، والتي تحضر البيئة التقليديَّة بكافَّة أشكالها عليها أيضًا.
منهجيَّة البحث بين الواقع والممكن
كي يكون البحث أكثر منهجيَّة، لا بدّ من التمييز بين نظرتين إلى انخراط الإنسان في مجتمع ما. الأولى؛ بلحاظ ما هو كائن وواقع في تجربة المجتمعات البشريَّة على مرّ التاريخ. والثانية؛ بلحاظ ما يُمكن أو ينبغي أن يكون. ففي الأساس الأوَّل؛ لا شكّ أنّ الإنسان بمعنى ما هو صناعة مجتمعه، فغالبًا ما يسبح الإنسان في بحر
عقائد المجتمع وقيمه وسلوكاته، والذي ينشط فيه، فيُفكّر ببرامج تفكير البيئة الاجتماعيَّة، ويتحدّث بلغة المجتمع، ويلتزم بعاداته وتقاليده وأعرافه، فتندكّ هويَّة الإنسان في هويَّة المحيط الاجتماعيّ العامّ. أمّا الأساس الثاني؛ فإنّ المجتمع ليس هو العامل الحصريّ الذي يحتكر صناعة شخصيَّة الإنسان وتشكيل هويّته بنحو قهريّ، إلى درجة يكون معها فاقدًا للهويَّة الفرديَّة، وتاليًا يكون علم الاجتماع علمًا واقعيًّا، في حين لا يكون علم النفس كذلك لعدم وجود هويّة فرديَّة[41]. إذ هناك جملة عوامل أخرى، أهمّها التفاعلات الداخليَّة في نفس الإنسان، في ضوء العقائد والقيم والانطباعات والخبرات الشخصيَّة، في خطّ علاقته مع الأشياء صحّةً وخطأ وقُبحًا وحُسنًا، لأنّه يملك الإرادة الحرّة التي زرعتها يد الله تعالى في تكوينه بنحوٍ تمنحه القدرة على اختيار ما يشاء من فعل أو ترك.
بعبارة مختصرة هناك حقيقتان:
الأولى: أنّ المجتمع مؤثّرٌ في صناعة شخصيّة الإنسان.
الثانية: أنّ تأثير المجتمع لا يصل إلى حدّ إلغاء خصوصيَّات الإنسان الفرديَّة بالكامل أو الجبر الاجتماعيّ وسلب العناصر الذاتيَّة والتفاعلات الخاصَّة.
هذا البحث، في تأثير البيئة الاجتماعيَّة على هويَّة الإنسان في مختلف أبعادها، يمتدُّ للبيئة الاجتماعيَّة الجديدة، والتي يصطلح عليها إسم المجتمع الافتراضيّ، فكلّ ما في هذه البيئة من منشورات وتعليقات وصور وفيديوهات ورموز وتفاعلات وتقنيَّات، وما تتضمَّنه من معانٍ ومفاهيم وأفكار وقيم ومشاعر وعواطف وغيرها سينعكس على شخصيَّة الناشط والُمستخدِم ويترك بصمته عليه.
فإذا أردنا أن نسلط الضوء على كيفيَّة تأثير الوسيلة على المضمون الفكريّ أو القيميّ من جهة، وتأثير البيئة التواصليَّة الجديدة على صناعة محتوى الشخصيَّة، من جهة أخرى، يمكننا أخذ الفيسبوك أنموذجًا. مثلًا، عندما يُصمّم مؤسِّسو فيسبوك هذه الوسيلة بوضع خيار إضافة صديق، بنحوٍ تشمل الصداقة الذكر والأنثى، ثم ينشط الشخص المتديّن والملتزم بالأهداف الرساليَّة على موقع فيسبوك، ويضيف إلى قائمة الأصدقاء الخاصِّين به شخصًا من الجنس الآخر، ويطلق عليه بكل أريحيَّة إسم صديقي أو صديقتي، ثم تمتدُّ دائرة استخدام هذا المصطلح إلى الخطاب العام في المحاورة بين الطرفين، فهذا له تداعياته النفسيَّة في الخطاب وأدبيَّات العلاقة وقيمها بين الجنسين. إذ يؤدِّي في مكانٍ ما إلى كسر العديد من الحواجز، والتي ترسمها ضوابط المجتمع الفيزيقي وأعرافه وقيمه إلخ، بنحوٍ تصبح الصداقة الاجتماعيَّة بين الجنسين أمرًا مقبولًا.
على سبيل المثال، كسر ما يمكن أن نصطلح عليه الخصوصيَّة الحميمة لحاجز الزمان. إذ لم يعد للزمان خصوصيَّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، كون هذا العالم هو عالم التجاوز للحدود الماديَّة جغرافيًّا وزمانيًّا، فليلُ بعض الدول هو نهار أخرى. وعندما تمَّ التوجُّه بسؤالٍ إلى بعض الناشطين المتديّنين على فيسبوك إذا كان لديهم أي مانع من الدردشة مع أصدقاء من الجنس الآخر في وقتٍ متأخِّرٍ من الليل، فأجابوا بالنفي -أي لا يوجد مانع- بل يمارسون ذلك بشكل طبيعي بذريعة سقوط الخصوصيَّة الزمانيَّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، مع أنَّ حميميَّة خصوصيَّة الزمان لها حساسيَّتها في الواقع الاجتماعيّ خارج صفحات الفيسبوك.
كذلك أيضًا النماذج المتعلِّقة بالإيموجي والرموز التعبيريَّة أو الصور الرمزيَّة (مثل القلب والقبلة والوردة الحمراء و...)، إذ يُرسل قلب ينبض مثلًا أو وجه مع قبلة... فهذه الرموز لها معانٍ ودلالات
تؤثِّر في طبيعة العلاقة بين الطرفين، لأنَّ الإنسان بطبيعته ينفعل شاعريًّا مع الرموز ويتأثَّر بها وتترك بصمتها على نفسيَّته وعواطفه وتكوين شخصيَّته.
هذا يعني أنَّ الوسيلة ليست مجرد أداة تقنيَّة، بل هي تحمل في داخلها رسالة، ولها تداعيات في مضمون شبكة العلاقات الإنسانيَّة والمنظومة الحضاريَّة التي ينتمي إليها الناشط على هذه المواقع والمستخدم لها. وقد تحدَّث وليام أوجبرن[42] (Ojbren,1957) في كتابه «الفجوة الثقافيَّة نظريةً «Cultural Lag as Theory» عن أن «الفجوة الثقافيَّة» هي الظاهرة التي تُحتّم على المجتمع أن يعيد تنظيم نفسه بعد كلّ اختراعٍ وتقدّم تقنيٍّ، حتى تتكيّف جميع عناصره وتسير جوانب الثقافة الماديّة والمعنويّة جنبًا إلى جنب.
هذا صحيح، فنحن اليوم، نعيش في عمق هذه الفجوة الثقافيَّة التي سبَّبها التطوُّر التكنولوجيّ، ممَّا يُحتّم على مجتمعنا الإيمانيّ والجهات المعنيَّة بالقرار الثقافيّ بالمعنى العامّ إعادة تنظيم المجتمع نتيجة هذه التطوّرات، بما ينسجم مع المنظومة العقديَّة والقيميَّة والتشريعيَّة الدينيَّة، وبما يساهم في المشاركة على هذه الوسائل بنحوٍ يحافظ فيه الناشط على الضوابط القيميَّة والشرعيَّة، ويجعل هذه الوسائل منصّات لتحقيق الأهداف الرساليَّة أو على الأقل الحدّ من المؤثِّرات السلبيَّة لهذه البيئة الجديدة.
فعندما يفتي فقهاؤنا مثلًا بحرمة قراءة كتب الضلال، أو بضرورة الهجرة، فذلك لأنَّ البيئة والمؤثِّرات الحسيّة والبصريَّة والسمعيَّة وغيرها تؤدِّي دورًا في التأثير على شخصيَّة الإنسان، وهكذا الأمر فيما يتعلق ببيئة وسائل التواصل الاجتماعيّ، ففيها الغث والسمين، وفيها الكفر والإيمان، وفيها الشك واليقين، وفيها الحقيقة والتزوير، وفيها المغريات والمثيرات، إلخ. وهي أكثر البيئات التي تعيش
فيها التناقضات العقديَّة والقيميَّة وتترعرع الاختلافات الحادَّة وتنمو التعدُّديَّة المفرطة، وأكثر البيئات الصالحة لنمو تلك النزعات السالبة، لأنَّها مفتوحة على كلّ شيء.
نلاحظ أنَّ الفقهاء يقيّدون جواز الاستفادة من كتب الضلال بمن «يقدر على معرفة وتشخيص ما فيها من الضلال لغرض إبطاله والرد عليه، إذا كان من أهله، ويطمئن من نفسه بعدم انحرافه عن الحق»[43]. كما يقيّدون وجه الاستفادة من التلفزيون والصحف وغيرها بما لو لم يؤدِ التفاعل مع هذه الوسائل إلى الانحراف والفساد، أو لم «تتضمَّن تعليم الأفكار الضالة وتزوير الحقائق وتحتوي على برامج اللهو والفساد»[44] وقد تُقاس وسائل التواصل الاجتماعيّ إلى ذلك، لمن يعلم من نفسه أنَّها ستؤدي إلى إفساد حاله الفكريَّة والعقديَّة والأخلاقيَّة والسلوكيَّة. وهذا يقتضي العمل على تحصين الذات وتهذيبها وجهادها، لمن يريد المشاركة على تلك الوسائل لما تحتويه من تناقضات تؤثِّر في هويَّة الفرد المستخدم. والحق، أن المشاركة في هذه الوسائل والتفاعل عليها يحتاج إلى جهاد كبير للنفس لما ذكر ويأتي.
الإنسوب أو الإنسان- الحاسوب
بالعودة إلى كيفيَّة تأثير البيئة الإلكترونيَّة على شخصيَّة الإنسان ثمَّة نظريَّة نحتها الباحث في علم الاجتماع «علي محمد رحومة»[45] اصْطُلِح عليها إسم الإنسوب أي الإنسان- الحاسوب. إذ يرى أنَّ البشريَّة أصبحت تعيش في وسط الاتّصال الإلكترونيّ (الإنترنت)، وقد أدَّت المشاركة في الفضاء الإلكترونيّ إلى تحوُّل الإنسان الطبيعيّ إلى
إنسان-آلة أو إنسان-حاسوب. يدرس «رحومة»، في أبحاثه، تفاعل الإنسان مع الحاسوب وتحوّله إلى إنسان رقميّ افتراضيّ يعيش على الشبكة المعلوماتيَّة، ويتواصل مع الآخرين في كافَّة أنحاء العالم، وينفعل ويفعل ويتفاعل في هذا العالم.
كما اهتمَّ «رحومة» فيما اصطلح عليه «علم الاجتماع الآلي»[46] بالحركة البشريَّة المرقمنة في العالم الافتراضيّ، وتناول أُسُس ومبادئ وأصول العلم الذي يدرس الإنسان المرقمن. وجمع في هذا العلم الجديد بين علوم الحاسوب وعلوم الاجتماع، إذ هدف إلى بحث مسألة الاتّصال عبر الحاسوب ونشوء ما يسمِّيه الكاتب «الاجتماعيَّة الإنترنيتيَّة». فهذه البيئة الاجتماعيّة الجديدة أصبحت موضوعًا للدراسة من وجهتَي نظر علم الاجتماع وعلم النفس، وكذلك تتمّ مقاربتها من منظار حقول معرفيَّة مختلفة.
ففي علم النفس، مثلًا، أدَّى وجود هذا الفضاء الجديد إلى تأسيس فرع جديد من فروع علم النفس، يُصطَلح عليه بإسم «علم نفس الإنترنت» أو «علم نفس الشبكة العنكبوتيَّة»، وكذلك «علم نفس وسائل التواصل الاجتماعيّ»، إلخ. وظيفة هذا العلم دراسة الظواهر الإدراكيَّة والنفسيَّة التي تنشأ عن تفاعل الإنسان مع الحاسوب واستخدام الإنترنت وتكنولوجيَّات الاتّصال والتواصل، للإجابة عن مجموعة من الأسئلة: كيف يتفاعل الدماغ البشريّ مع الإنترنت أو الواقع الافتراضيّ؟ كيف يؤثِّر الفضاء الإلكترونيّ والرقميّ في سيكولوجيا الأفراد والجماعات؟ ويطال البحث في سيكولوجيا الإنترنت موضوعات مثل: الهويَّة الافتراضيَّة، تعدُّد أنواع الشخصيَّة على مواقع التواصل، العلاقات بين الناشطين، إدمان الإنترنت، تغيير الجنس على مواقع التواصل الاجتماعيّ وغيرها.
يساعدنا «علم نفس الإنترنت» على فهم أنماط الشخصيَّة المعاصرة، والتي هي نمط مستحدث نتيجة الانخراط في هذه البيئة الاجتماعيَّة الجديدة. وقد كنَّا قد أشرنا إلى نقطتين؛ الأولى، أنَّ هناك آثار وانعكاسات تحدث في شخصيَّة المستخدم نتيجة انخراطه في البيئة التواصليَّة الجديدة. والثانية، أنَّ هذه البيئة التواصليَّة الجديدة، كباقي المجتمعات، ستترك بصمتها وأثرها على شخصيَّة المستخدم. هنا يأتي دور «علم النفس الإنترنتيّ» ليكشف لنا عن طبيعة التحوُّلات التي تحدث في الشخصيَّة نتيجة التفاعل بين الإنسان وتكنولوجيا الاتّصال.
على سبيل المثال، كلّ من يشارك على الفيسبوك، وينشط على هذا الموقع، يعرف بأنَّه يرى يوميًّا عشرات المنشورات والتعليقات والصور والفيديوهات المنشورة حول تجارب ومشاهد ولحظات يعيشها الناس، ويمرُّون بها (ترفيه، حضور حفلة، نجاح، شراء أغراض، سفر، زيارة...)، وعادة ما يُبرِز الناس أفضل ما لديهم وأجمل ما عندهم من لحظات. وذلك لأنَّ الإنسان بطبيعته يميل فيما يتعلَّق بنفسه إلى نشر العارفة وستر العائبة، فيشعر من يتابع هذه المنشورات، عندما يقارنها بنفسه، بتعاسته وأنَّه محرومٌ من كذا وكذا، وإن كان قادرًا على المنافسة يندفع للقيام بهذه الأشياء من باب المحاكاة والتقليد أو الغيرة أو الحسد. وبعبارة أُخرى يعيش الإنسان مشاعر سلبيَّة مع نفسه نتيجة الشعور بالحرمان أو بأفضليَّة الآخرين عليه في نمط حياتهم، وهذا يؤدِّي إلى تفاعلات سلبيَّة عديدة، وتأجيج الشعور بالغيرة أو الحسد أو هبوط المزاج.
تعقيبًا على ما تقدّم سابقًا من العلاقة بين الجنسين على وسائل التواصل الاجتماعيّ وقبول الصداقة بينهما، نرى أنَّ هذا النوع من علاقة الصداقة الإلكترونيَّة يفرض أنماط حياة تحترم طبيعة المجتمع الجديد وقوانينه وبرتوكولاته وأعرافه، مثل أن يعبّر أحد الجنسين
على منشور للجنس الآخر، ويضع له إعجاب أو رمز، أو يخاطب الأنثى وقد تكون متزوِّجة بمصطلح صديقتي، أو عزيزتي، إلخ، ويصل الأمر إلى مرحلة الاختلاط الإلكترونيّ، فيأتي الزوج أو الزوجة مثلًا ويعبِّر عن مشاعر غيرته تجاه هذا التصرُّف الإنترنتيّ، ممّا يؤدِّي إلى مشكلة تلو المشكلة وتتراكم وتتفاقم المشاكل، فتؤدِّي إلى الشكوك بين الطرفين، وقد أشارت بعض الدراسات إلى وجود علاقة بين استخدام الإنترنت وبين نتائج سلبيَّة في العلاقة بين الطرفين نتيجة تخلُّله لمشاكل تتعلَّق بطبيعة المشاركة على الفيسبوك أو غيره، وقد تؤدِّي إلى الطلاق[47].
وهكذا هناك العديد من الظواهر النفسيَّة والاجتماعيَّة المرتبطة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ وتأثيرها على الفرد، ينبغي أن تخضع للدراسة والبحث.
المبحث الخامس: الديمقراطيَّة الرقميَّة والفردانيَّة دمقرطة الاتّصال
دمقرطة الاتّصال مصطلح يعبّر عن الدور الذي تؤدِّيه البيئة الاجتماعيَّة الجديدة لمواقع التواصل الاجتماعيّ في منح عامَّة الناس فرصة للتعبير عن آرائهم، بنحوٍ يمكن عدّ الفيسبوك أو تويتر أو غيرهما مكانًا للشعبيَّة الكونيَّة. فقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو الفضاء العموميّ المعلوماتيّ، فكرة الديمقراطيَّة أكثر تجسيدًا، لأنَّها تعطي كل فرد الحقّ في التعبير عن رأيه والمشاركة بصورة مساوية للآخرين.
ثمَّة عدد من الباحثين يرى أنّ الفيسبوك، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعيّ، عزّز النزعة الديمقراطيَّة عند الفرد الإنترنتيّ. وهذا ما يُصطلح عليه إسم الديمقراطيَّة الرقميَّة أو الإلكترونيَّة، وهي العمليَّة التي يتمّ من خلالها توظيف الأدوات التكنولوجيَّة، وفي مقدِّمتها شبكات التواصل الاجتماعيّ، بغرض تجديد مضمون الممارسة الديمقراطيَّة وتوسيع فضائها ومجال فعلها[48].
يقول حمامي: «الفردانيَّة أيضًا من الأسباب التي ساهمت في تعزيز الإقبال على استخدام هذا الموقع الذي أدرك أهميَّة هذه القيمة الحضاريَّة التي أصبحت أساسيَّة، فأتاح للفرد فرصة أن يكون
له مجال خاصّ به وأن يكون طرفًا في المجال العموميّ ومنح الناس إمكانيَّة التعبير عن آرائهم بفعل التبجيل، ليتجاوز بذلك نخبويَّة «الميديا التقليديَّة» التي تقوم على نخبة تتحدَّث وجمهور يستمع. ويعود ذلك في البداية إلى ظهور الإنترنت، ثمَّ موقع الفيسبوك الذي وَسَّع هذا المجال نحو ديمقراطيَّة الاتّصال»[49].
لقد جعلت هذه الممارسة الديمقراطيَّة الأفراد الحاضرين على وسائل التواصل الاجتماعيّ يشعرون بقوَّة حضور الأنا، وزاد في ذلك قدرتهم على التشريع، أي أنَّهم شرَّعوا لأنفسهم مجموعة من القوانين والضوابط التي لم تشرّعها سلطة عليا، بل قام المستخدمون بأنفسهم بتشريعها من خلال تراكم نشاطهم على هذه المواقع. وتاليًا الميزة الأكثر أهميَّة -كما يُعبِّر عبَّاس صادق في دراسته الإعلام الجديد دارسة في مداخله النظريَّة وخصائصه العامَّة[50]- لوسائل التواصل الاجتماعيّ أنَّها أخرجت آليَّات التعبير من أسر السلطة التي كانت تتمثَّل في قادة المجتمع والدولة والمسجد إلى أيدي الناس جميعًا.
لا شكّ في أنَّ الفرد الإنترنتيّ الذي يترعرع، في ظلّ هكذا مناخ يمارس فيه الدمقرطة بكافَّة أشكالها نتيجة فُرَصْ الحريَّة والمساواة وانعدام الرقابة الاجتماعيَّة والتحرُّر من السلطة، يصبح متلبِّسًا بصفات تنعكس على شخصيَّته في كافَّة مجالات حياته. إذ ترتبط ظاهرة الدمقرطة بظاهرة التفاعليَّة والفردانيَّة والتعدُّديَّة والتوجّهات الليبراليّة، فإنّ التفاعليَّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ -حيث يجد الفرد نفسه صاحب رأيٍ وموقفٍ يجادل ويناقش ويعلِّق بحرِّيَّة- أبرزت صورته الفرديَّة وتضخَّمت معها قوَّة حضور الأنا بعد أن كانت ذائبة في هويَّة سلطة الجماعة والحزب والدولة.
فالانتقال من آليَّات تعبير تحتكرها الدولة والنخبة والزعيم إلى آليَّات فقدت فيها الدولة والنخب والزعيم القدرة على الاستئثار بحقّ الكلام، جعل الجماهير تتحوَّل من جماهير صامتة إلى أفراد ومجموعات نشطة، تكتب وتتجادل حول القضايا العامَّة باستمرار، وهذا يعني أنَّ تحوّلًا حدث في طبيعة المجتمع ذاته وطبيعة السلطة وطبيعة علاقة الأفراد بالمجتمع والسلطة. فأصبح كلّ فرد إنترنتيّ له رأيه كالزعيم والقائد والمسؤول، وباستطاعته محاكمتهم علنًا أمام الرأي العام.
فقد ساهمت تكنولوجيا الاتّصال في تحديث أشكال الأنماط التواصليَّة القديمة القائمة على احتكار النخب الدينيَّة والثقافيَّة والزعماء السياسيِّين للخطاب، ووضعتها على وسائل التعبير في الفضاء العموميّ، لأنَّ الإنترنت لم يوفِّر للفرد النفاذ إلى المعلومات فقط، بل أتاح له فرصة إنتاج المضامين ووضع الأجندة أيضًا. فوجد الفرد العادي نفسه مع النخب والزعماء وعلماء الدين وغيرهم وجهًا لوجه، ورأسًا برأس، ولسان حاله يقول: «لكم رأيكم ولي رأيي، ولكم قوَّة حضوركم ولي قوَّة حضوري، والتي قد تفوق قوَّة حضوركم في هذه البيئة التواصليَّة الجديدة، فليس بإمكان أحد أن يتجاوز ذاتي بعد اليوم».
هو يحسّ بذلك، لأنَّه أصبح أكثر شعورًا بقوَّة حضوره الشخصيّ، وأكثر جرأة، وأكثر فاعليَّة، فمواقع التواصل الاجتماعيّ هي بيئة يتساوى فيها الزعيم وعالم الدين وغيرهم مع الإنسان العادي أو عامَّة الجمهور والشعب إن صحّ التعبير، فكلّ طرف من أطراف عمليَّة الاتّصال والتواصل يمتلك نفس الدرجة من درجات السيطرة والتحكُّم على المحتوى المتبادل بين الطرفين[51]. فدمقرطة الاتّصال
والتفاعليَّة والفردانيَّة أدَّت إلى انقلاب النموذج الاتّصالي الموروث تاريخيًّا، عندما سمحت للإنسان العادي بإيصال رسالته إلى من يريد، وفي الوقت الذي يريد وبالكيفيَّة التي يريد. فلم يعد الخط الاتّصالي عاموديًّا من أعلى إلى أسفل بل أصبح أفقيًّا، ممَّا عزَّز الشعور بالمساواة والتكافؤ، مع ما يترتب على هذا الشعور من تداعيات في الحياة الاجتماعيَّة العامَّة في خطّ علاقة الفرد مع أي سطلة مفترضة.
في الخلاصة، إنَّ الفرد عندما يعيش الديمقراطيَّة والتفاعليَّة ويتحوَّل من مجرَّد متلقٍّ إلى فاعلٍ ومن مجرَّد مستهلكٍ للأفكار والآراء إلى منتجٍ للمضمون ومشاركٍ ومساهمٍ بطريقة نِدِّيَّة وتكافؤيَّة في طرح الأفكار والآراء؛ فإنَّ الأثر السيكولوجيّ لتغييره لا يبقى على خصوص المشاركة في الفضاء الرقمي، بل يصبح جزءًا من هويَّته وتركيبته النفسيَّة، والتي سيحملها معه إلى الواقع الاجتماعيّ.
وذلك لأنَّ الملكات والهويَّات لا تتجزَّأ أو على الأقل يصعب تجزيئها. وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعيّ تتيح فرصة المشاركة المتكافئة في إنتاج المضمون وحقّ التعبير عن الرأي والنقاش، فإنَّ العمليَّة التشاركيَّة في اتّخاذ القرار وصناعة الرأي تصبح مطلب الفرد الإنترنتيّ لأنَّها حالة نمطيَّة عنده في ضوء الخطّ البيانيّ لخصائص شخصيَّته. فسيتوقَّع أن يطالب الدولة والحزب أو المؤسَّسة التي ينتمي إليها بأن يكون شريكًا في صناعة الرأي، وأن لا تُهَمّش وجهة نظره، أو بالحدّ الأدنى ستكون قوَّة الاعتراض والنقاش والجدل للرأي حاضرة في القرارات والقضايا كافَّة.
لقد أدَّت دمقرطة الاتّصال بالعديد من النخب الثقافيَّة والدينيَّة بالابتعاد عن الانخراط في الفضاء الرقميّ، وإن انخرطوا نلاحظ سرعة انسحابهم أو إقفال حسابهم أو عدم فعاليَّتهم؛ ولعلَّ ذلك لشعبويَّة هذه البيئة، أو كما يُعبِّر الباحث الإيطاليّ «أمبرتو إيكو»، والذي نكرّره، هو: «إن الميديا الاجتماعيَّة أتاحت حقّ التعبير إلى جموع من
الحمقى»[52]. من هنا يرى بعض الباحثين في علوم الاتّصال ومنهم «الصادق الحمامي» أنَّ «الخطأ الشائع الذي يمكن أن يهدّد المثقَّف هو أن يصبح ناشطًا فيسبوكيًّا»[53]. فقد صرَّح بعض المبلّغين الدينيِّين الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أنّ أحد دوافع انسحابه وانكفائه عن الحضور في فيسبوك هو بسبب النظرة إليه على أنَّه ناشط فيسبوكيّ، وعلى حدِّ تعبيره أنَّه «فيسبوكيّ»[54].
إنَّ توسّع مروحة مشاركة عامَّة الناس ونشاطها في فيسبوك أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعيّ يُفقد المثقَّف أو عالِم الدين أو زعيم السلطة التي كان يتمتَّع بها كإنسان قادر على التأثير في الناس وتوجيه الرأي العام. فالمشكل الأساس في تحوُّل المثقَّف إلى ناشط على موقع الفيسبوك هو ابتعاده عن مهمَّته في إنتاج الأفكار وصناعة الرأي. ولذا، في فرنسا كما يقول الحمامي يُؤثّر المثقَّفون بشكل كبير في النقاش العام عن طريق الكتابة، وليس عن طريق الفيسبوك. ويتابع الحمامي تحليله بأنَّ ذلك يعود إلى طبيعة الحياة العامَّة في فرنسا التي تقوم على الكتابة وإنتاج الأفكار، على عكس البيئة العربيَّة التي غُيِّب فيها الجانب الفكريّ وعوَّضته التدوينات.
نزعة الفردانيَّة Individualism في المجتمع الإفتراضيّ
يمكن لنا تعميق فكرة دمقطرة الاتّصال من خلال البحث عن نزعة الفردانيَّة في المجتمع الإنترنتيّ، إذ كنَّا ذكرنا فيما سبق أنَّ الإنسان يسعى إلى سدّ حاجاته وتأمين متطلِّباته من خلال انخراطه في الجماعة. وهو بذلك يقايض قسطًا من حريَّته مقابل التحاقه بالجماعة، فيستبدل مركزيَّة الذات والشعور بالتمايز بالانتماء إلى الإطار الأوسع الذي يجلب له المصالح ويدفع عنه المفاسد،
فالحاجة إلى الانتماء إلى الجماعة تُرغم الفرد على الامتثال لضوابطها وأنظمّتها[55].
يشكّل هذا الانصهار في الهويَّة الجمعيَّة عامل ضغط على الفرد ومصدر إزعاج له، لأنَّ الفرد في هذه الوضعيَّة يقع بين خيارين؛ إمَّا أن يبلور هويَّته خارج الجماعة ممَّا يؤدِّي إلى عزلته وتاليًا لا يؤمّن حاجاته، وإما أن يعيش مع الجماعة على حساب تمايزه الفرديّ، لأنَّ الفرد لا يمكنه من حيث الانتماء إلى مرجعيَّة الجماعة وتبعيَّته لها أن يعيش فردانيَّته بحريَّة، فيضطر أن يمارس خياراته في الحياة، ويتصرَّف، ويقرِّر، في ضوء قوَّة ضغط الجماعة، وإلّا سيُعَدّ ذلك تهديدًا للنظام الاجتماعيّ، فيُضعف إظهاره لما يتمتَّع به من مزايا خارج الحدود المرسومة له.
إذا أراد الفرد أن يشعر بالتمايز، في سعيه الخاصَّ نحو تحقيق ذاته، فلا بدَّ أن يحصل ذلك داخل ضمانة من جماعته على اعترافها بتميّزه داخل منظومتها، بمعنى أنَّه انطلاق «منها وفيها ولها». وإلّا فإنَّ الانتماء الذي تتوافق فيه الظواهر المتنافرة: جماعة/ فرد، الأمان والحماية/ تحقيق الذات، الرتابة/ التمايز، لا تأخذ معناها من اعتماد الفرد على ذاته إلَّا في ظلّ الصلة بالجماعة.
إذ مع مرور الوقت، ومنذ عصر التنوير، بدأ يتبلور اتّجاهٌ يدور حول رفض أن يضحِّي الفرد بذاته الخاصَّة من أجل النظام الاجتماعيّ العام بنحوٍ تذوب فيه شخصيَّته بالهويَّة الجمعيَّة، وأنَّه لا بدَّ من احترام حقّ الفرد في تقرير طبيعة حياته بإرادته الحرَّة، وأنَّ الفرد هو الذي يحدِّد حدود هذا الوجود برغبته. فكانت الفرديَّة أو الفردانيَّة في مكانٍ ما إعلانًا ضدَّ سلطة الجماعة التي تذوب فيها هويَّة الفرد وإرادته، وصرخة ضد الإكراه الذي يحول دون تطوُّر الفرد وصيرورته. فأدخلت هذه الفكرة الحياة البشريَّة إلى عصر جديد، ممَّا أوجد تحوُّلًا
في مفهوم الفرد، فتحوَّل فيها الإنسان من كائن اجتماعيّ يذوب في الجماعة، بمختلف أشكالها، إلى كائنٍ يصنع وجوده الخاصّ ويصوغ كينونتَه، ممَّا جعله أكثر قدرةً على التمايز والإبداع في مجالات الحياة المختلفة.
من هنا، نشأ مفهومان في قاموس علم الاجتماع، مفهوم الفردانيَّة ومفهوم الجمعنة[56]، والفردانيَّة تعني الحال التي يكون فيها الفرد قادرًا على اتّخاذ قراراته استنادًا إلى إمكانيَّاته الخاصَّة وقدراته المستقلَّة عن أفراد الجماعة التي ينتمي إليها، ويكون الفرد كائنًا يمتلك الحرّيَّة والاستقلاليَّة ضمن الإطار الجماعي، فيتمايز عن الجماعة في تفكيره وأسلوب حياته، بنحوٍ لا يؤدِّي ذلك إلى عزلته[57] كما أكّد «دوركهايم»[58].
هذا أمر لم تشهده المجتمعات القديمة[59]، لأنَّ الجمعنة -مقابل الفردانيَّة- التي عرفتها المجتمعات التقليديَّة، تعني أنَّ الفرد صورة طبق الأصل أو نسخة مكرَّرة عن شخصيَّة العائلة أو القبيلة التي ينتمي إليها في أفكاره وأسلوب حياته وطبيعة نظرته إلى الأشياء. فالفردانيَّة تؤكِّد مبدأ أصالة الفرد وتفرُّده وتميّزه مقابل التماثل والتطابق. ثم تطوَّرت الفردانيَّة وتبلورت بصورة أكثر مع انحسار الدين عن الحضور في الحياة الاجتماعيَّة في أوروبا. وفي القرن التاسع عشر حقَّقت الفردانيَّة إنجازات مهمَّة في مجال الأدب والفن، وتحوَّلت من مجرَّد اتّجاه فلسفيّ لتكتسب صيغة حقوقيَّة مدوَّنة، وأُوجدت المؤسَّسات السياسيَّة وشُيّدت المؤسَّسات الاجتماعيَّة القائمة على
أساس المطالبة بحقوق الفرد، مثل: حريَّة المعتقد وحريَّة اختيار المهنة وحريَّة اختيار الزوجة وحريَّة مكان السكن وحريَّة التعبير وحريَّة التنقل وغيرها من الحريَّات.
دخلت بعد ذلك عوامل عدَّة على خطّ الفردانيَّة، أفقدتها تدريجيًّا تألُّقها التنويريّ، فأفرزت ظواهر اجتماعيّة سلبيّة، مثل: الأنانيَّة والعزلة والانطوائيَّة واللامبالاة الاجتماعيَّة وغيرها، ففي المدن مثلًا دائمًا ما يعيش الجيران سنين طويلة بنحوٍ لا يعرف بعضهم البعض الآخر، وولّدت الفردانيَّة حالًا من الفراغ القيميّ والأخلاقيّ عند الإنسان.
فبدأ الباحثون الاجتماعيُّون بالحديث عن بؤس الفردانيَّة والانتكاسات التي سبَّبتها للحياة الاجتماعيَّة. فمع تطوُّر نسق الفردانيَّة انغلق الإنسان على ذاته، وتصلَّب في الاستقلال والحريَّة، وأصبح الخير الفرديَّ هو المحور. فتحوَّلت الحياة الاجتماعيَّة إلى مسرح للصراعات، وما ترتَّب عليه من أشكال جديدة للقهر والظلم والحرمان والسيطرة، وأصبح العقل الأداتيّ ينظر إلى الآخر على أنَّه مجرَّد أداة في السوق تُوَظَّف في تحقيق الغايات التي لا تتجاوز حدود الربح لتأمين الرفاه والمتعة. وأخذ العقل الأداتيّ بالبحث عن حلول للمشكلات الاجتماعيَّة في ضوء المخارج التقنيَّة والتكنولوجيَّة، كما في تطوُّر التكنولوجيا الطبيَّة التي تجاهلت الجوانب الإنسانيَّة عند المرضى. وامتدَّت آثار هذه التكنولوجيا إلى الإنسان، فالمُمرِض مثلًا تحوَّل إلى امتداد آلي للأدوات الطبيَّ التكنولوجيَّة، وبدأ بعض الممرِّضين يفقدون المشاعر الإنسانيَّة النبيلة في ميدان العمل تحت تأثير الماكينات.
امتدَّت هيمنة التكنولوجيا، فيما يتعلَّق بالحياة الاجتماعيَّة، لتشمل عالم الاتّصال والتواصل، فقد وُلِد العالم الافتراضيّ الذي أسَّس لأغراض عديدة؛ منها أنَّه ساهم في إخراج الإنسان من عزلته وانطوائيَّته في الواقع الاجتماعيّ، لينتهي بكثيرين إلى عزلة جديدة
عن العالم الواقعيّ. وهذه هي المفارقة الكبرى في المجتمعات الافتراضيَّة[60]. مفارقة يلخّصها عنوان كتاب[61] لشيري تيركل Sherry Turkle: نحن معًا لكنَّنا وحيدون: لماذا أصبحنا ننتظر من التكنولوجيا أكثر مما ينتظر بعضنا من بعض؟[62].
تصاعد الفردانيَّة
لقد أدخل العالم الافتراضيّ الفرد (المُستخدِم) في حال الذاتيَّة التي تعدّ واحدة من إفرازات الفردانيَّة، إذ ساهم العالم الافتراضيّ في تنشيط الشعور بالأنا الفرديَّة، من خلال ما منحه للفرد من إحساس بقوَّة الحضور على مواقع التواصل الاجتماعيّ. فبعد أن كان الفرد (المُستخدِم) يعيش في دائرة ضيِّقة لا تُكسبه الشعور بالتميّز، دَخَلَ إلى عالمٍ تضخّمت فيه ذاته، بفعل عوامل عديدة أهمّها؛ التحرُّر من سلطة الدولة أو العائلة أو الحزب، والقدرة على التعبير عن آرائه وأفكاره بحرِّيَّة، وتقدير ذاته عبر ما يحصل عليه من إعجابات وتعليقات ومشاركات وغيرها.
لذا، ذهب جملة من الباحثين إلى أنّ الاتصال عبر الإنترنت يشجّع علـى إخراج الذات الداخليَّة للفرد وإظهارها، لأنّ نوع العلاقات القائمة فيها يعبَّر عنها عن طريق الفكر. فالهويَّة الشخصيّة للأفراد، في المجتمع الحقيقيّ، قد تتأثّر بالعناصر المعياريّة الاجتماعيّة، وكذا بالعناصر الفيزيولوجيّة ممَّا يؤدِّي إلى كبت الذات الداخليَّة. أما العالم
الافتراضيّ فإنّه يتـيح اتّصالًا قائمًا على التعبير عن الذات الداخليّة وتحقيق الأنا الأعلى، ويتيح أيضًا تثبيطًا للعناصر المعياريَّة للأنا الاجتماعيَّة أو الذات الاجتماعيَّة، وهو ما قد يُثري شخصـيَّة الفرد.
إنّ المجتمعات الافتراضيَّة تُفسح المجال للفـرد بأن يضع هويّته محل استكشافٍ وتجريب، أي بإمكانه أن يُقدِّم نفسه كما يشاء، وعلى النحو الذي يريد[63]. وهو السلوك الذي قد يتعذّر عليه ممارسته في المجتمع الواقعيّ؛ حتى إنّ بعض العلماء أطلقوا على العوالم الافتراضيّة إسم «ورشات الهويَّة» Work Identity، حين يستطيع الفرد اسكتشاف إمكاناته وقدراته المختلفة.
وعليه، فإنّ فـي المجتمـع الافتراضيّ وتفاعلاته ثمّة نزوع إلى الفرديَّة والانغزال عـن السـياق الاجتماعيّ المحيط بالفرد. فالفرد المنخرط في التفاعلات الافتراضيَّة - حتَّى لو كانت جماعيَّة- إلّا أنّه يدخله بوصفه فردًا من أمام الشاشة الذكيَّة. تأخذه من عالمـه الواقعيّ إلى عالم افتراضيّ، فيؤدِّي ذلك إلى نوعٍ من أنواع الاغتراب، يجعـل الفرد يتفاعل انطلاقًا من كونِه فردًا فيُقّدم غالبًا آراءه وأفكاره وتصوُّراته الشخصيَّة، وتكون غالبًا متحرّرة من أي تبعيّة دينيّة واجتماعيّة وقيميَّة[64].
فالفرد الإنترنتيّ يمكن أن يكون أي عدد من الشخصيَّات التي يريد. فهو جماعة بل جماعات بحسب تمثّلاته. وكلّ فرد أو بالأحرى «فرد جماعة» له صياغته الخاصَّة بحسب البرمجة التي تقيّده بشكلٍ أو آخر، أو القوانين والتقاليد المستخدمة في إطار تعامل استخدامي ما. إذًا، عنصر صياغة الموضوع للذَّات موجود، ولكن بصورة وكيفيّة مختلفة عن المجتمع الطبيعيّ. فالموضوع يصوغ ذواتًا متعدِّدة متنوِّعة؛ «صورًا» لأفراد متعدِّدين متنوِّعين متكاثرين. إنَّهم بذلك مصفوفة matrix، نسخ (لشخصيَّة حقيقيَّة واحدة) لو اسْتُعير تعبير بوديار[65].
ففي مجتمع الإنترنت يستمرُّ الفرد السيكولوجيّ (الذات) والثقافيّ (المجتمع)، ويتوقَّف البيولوجيّ (الجسد)، مع اختلاف المفاهيم والمعايير في الفرد الثنائيّ (السيكولوجيّ-الثقافيّ)، كونه مركّبًا جديدًا في مجتمع جديد. فالذات، كونَها صورة للفرد في نفسه، تبقى بشكلٍ ما في مجتمع الإنترنت. إذ إنَّه ليس هو هو، بل تمثّلاته بحسب رغباته وخياراته وإمكاناته. كما أنَّ قيمة الفرديّة الإنترنتيَّة مكتسبة بالاجتماع في مجتمع الإنترنت، وتتمثّل من خلال تفاعل الفرد مع أفراد آخرين في الفضاء السايبيريّ. فجميعهم يؤولون في حقيقة الأمر إلى شخصيَّات حقيقيّة لها خصوصيّاتها، تحاول أن تحافظ عليها بمختلف التحوّطات الأمنيَّة وبرمجيَّات الحماية في الإنترنت.
لقد أتاح تفكيك الهويَّة الشخصيَّة في العالم الافتراضيّ، عدم الشعور بالحرج في الكتابة عما يجول في الخاطر ولا في تبادل السباب والشتائم. وعندما يستخدم هؤلاء أسماءهم الحقيقيَّة لا يشعرون بالإحرج أو الارتباك نفسه الذي يشعرون به في المواجهات الواقعيَّة. ولذا، تُعَدّ مجتمعات العالم الافتراضيّ فضاءات رحبة مفتوحة للتمرُّد
والثورة، بدايةً من التمرُّد على الخجل والانطواء، وانتهاءً بالثورة على الأنظمة السياسيَّة، مرورًا بالتمرّد على الأخلاق العامَّة واللياقات الاجتماعيَّة.
الفردانيَّة ونمو نزعة الأنانيَّة والنرجسيَّة
أدَّى تصاعد نزعة الفردانيَّة ونموِّها، على مواقع التواصل الاجتماعيّ، إلى تعزيز مرض أخلاقيّ بل ونفسي، وهو حال النرجسيَّة وتضخّم الأنا عند المشارك عليها. فالفرد الإنترنتيّ الذي لا يكون له حيثيَّة اجتماعيَّة في الواقع، أو يكون له لكنَّها غير مفعّلة، عندما يرى عنده آلاف الأصدقاء والمتابعين، ومئات الإعجابات... تتعزز عنده نزعة الأنا، ويرى نفسه من منظار متضخِّم عن حجمة الواقعيَّ. فثمَّة علاقة بين الفردانيَّة من جهة وتضخّم الأنا على مواقع التواصل الاجتماعيّ من جهة أخرى. هذا التضخّم الذي ينقله الفرد إلى حياته الواقعيَّة في سلوكاته مع الآخرين، ولا نريد هنا الدخول في بحث مفصّل حول حب الأنا السلبيّ وآثاره على هويَّة الفرد، إلّا أنَّ الملاحظة التي ينبغي تسجيلها هي ما ذكرناه، وقد أُجريت دراسات عِدَّة حول هذه المسألة المرتبطة بعلم النفس وعلم الأخلاق سويًّا.
الأنماط التواصليَّة- الاجتماعيَّة الجديدة
يُلاحظ، أنّ العالم الافتراضيّ بفعل انفتاحه وكونيَّته وتعدُّديَّته قد وجّه ضربةً قويةً إلى الهويَّة الجمعيَّة الوطنيَّة أو القوميَّة، وساهم في انهيار فكرة الجماعة المرجعيَّة بمعناها التقليديّ، والتي يحدّدها الإطار الجغرافيّ أو القبليّ أو غيرهما، لتحلّ محله الجماعة القائمة على أساس الاهتمامات المشتركة كما أوضحنا فيما سبق. فلم تعد الجغرافيا ولا الانتماء العرقيّ أو الدينيّ أو القبليّ أو غيرها من أشكال
الانتماء التقليديّ هي التي تتحكَّم في وجهة الانتماء[66].
كما أدَّى تطوُّر المجتمعات الافتراضيَّة إلى مزيدٍ من الانهيار في العلاقات الاجتماعيَّة التقليديَّة، فلم يعد الناس يتواصلوان فيزيقيًّا ويتزاورون كما كانوا يفعلون من قبل، فقد أغنتهم الرسائل النصيّة القصيرة ورسائل البريد الإلكترونيّ والبطاقات الإلكترونيَّة وما يكتبونه ويتبادلونه على فيسبوك وتويتر وواتس آب عن العلاقات الاجتماعيَّة الفيزيقيَّة. من هنا، لم تعد صورة الأسرة أو العائلة هي تلك التي تعيش في بيتٍ واحدٍ، بعد أن أخذ كلُّ فردٍ من أفرادها في الانهماك بعالمه الافتراضيّ الخاصّ.
ففي الواقع، أنَّ تكنولوجيّات الاتّصال الجديدة أثَّرت من خلال فرضها لأنماطٍ وسلوكيَّاتٍ تواصليّة جديدة على طبيعة العلاقات الاجتماعيَّة السائدة داخل المجتمعات العربيَّة، فالتشبيك الاجتماعيّ عبر الاتّصال المواجهيّ ما فتئ نطاقه يضيق أكثر فأكثر في كلّ المجتمعات العربيَّة، في مقابل اتّساع نطاق التشبيك الاجتماعيّ الافتراضيّ. وهذا التوجُّه يزيد أكثر عند الفئة العمريَّة الفتيَّة (16-25 سنة).
تُبَيِّن دراسة أُجرِيَت، في العام 2018، على عيِّنة من شباب العالم العربيّ[67] بأنَّ هذا الجيل لم يعد يقضي سوى أوقاتًا رمزيّة في التفاعل الاجتماعي داخل العالم الحقيقي. وقد أورد الكثير من المستجوبين ظاهرة سلبيَّة تتمثّل بـ: «الحضور المغيّب في التجمّعات العائليَّة حيث تتواجد الأجساد في نفس المكان، بينما تظلّ العقول والعيون منشغلة بالهواتف الذكيَّة للاطلاع على الرسائل المرسلة
أو للردّ عليها». كما ظهرت تحويرات افتراضيَّة لسلوكيَّات اجتماعيَّة كانت إلى وقتٍ قريب تُمَارَس في المجتمع الحقيقيّ عبر الاتّصال المواجهيّ، كالمعايدات أو تقديم التعازي التي أصبحت عبر الهواتف الذكيَّة. وهذه سلوكيَّات ينبذها الجيل القديم ولا يتقبّلها بسهولة.
تُبْرِز هذه المؤشرات واحدة من الحتميَّات التي نتجت عن تكنولوجيَّات الاتّصال الجديدة، وهي القطيَّعة التي بدأت تتشكَّل بين الجيل الرقميّ وجيل ما قبل العالم الرقميّ، من خلال تباين إدراك أفراد الجيلين للأولويَّات الاجتماعيّة وطبيعة الروابط داخل المجتمع. لقد أضحى تبنِّي العالم الرقميّ بتطبيقاته واستخداماته وثقافته من ضروريَّات الحياة، حتى بالنسبة إلى أشدّ المقاومين لثورة الرقمنة. فبات لا بدّ من تقبّل هذا العالم ومسايرته، وإلّا بقي خارج السيرورة التاريخيَّة.
إنّ هذا التوجّه، كونه واحدًا من الحتميَّات الأساسيَّة التي نتجت عن التقنيَّات الحديثة المستخدمة في التواصل قد ولّد حتميَّة أخرى نشأت عنه، تتمثّل في تغيُّر طبيعة العلاقات الاجتماعيَّة بتحوّلها من علاقات اجتماعيَّة ساخنة إلى علاقات اجتماعيَّة باردة. أي تلك العلاقات الافتراضيَّة التي لا تخضع في محدّداتها للضوابط الساخنة لمجتمع الانتماء. وهذا ما يجعل أطراف الاتّصال في العالم الافتراضيّ يتحلُّون ببرودة أكثر تجاه الضوابط التي تحكم التعبير عن الأفكار والمشاعر تجاه الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى، أو تجاه مختلف المواضيع التي تُثار في الفضاء الافتراضيّ بشكل عامّ.
إن تلك البرودة أضفت على التعبير عن الذات عفويّة وتلقائيّة لا نظير لهما. فباتت أشكال التعبير في العالم الافتراضيّ تنتهج طرقًا مختصرة. لأنَّها لا تخضع سوى لأدنى مستويات الأنا الأعلى. لذلك، بات كل شيء مسرّعًا وإلى أقصى الحدود في العالم الافتراضيّ، انطلاقًا من التعبير عن مشاعر الود التي يتمّ الجهر بها بجرأةٍ وسرعةٍ
قياسيَّتين، وصولًا إلى مشاعر الغضب أو الحقد أو الكراهيَّة التي يتمّ التعبير عنها بفظاظة أكبر أيضًا. هذا ما يفسّر سرعة تشكّل الروابط الاجتماعيّة وسرعة تفكّكها في العالم الافتراضيّ.
وصف «جوليان ريفيت» Julien rivet تلقائيَّة الاندفاع نحو التعبير المفرَّط فيه في العالم الافتراضيّ بقوله: «كلّنا ومهما كنّا، ومهما كانت استعمالاتنا للإنترنت، نكون قد عشنا ذلك الانطباع الغريب والمقزّز في الوقت نفسه، بأنّ الإنترنت يعمل وكأنّه محفّز لانفعالاتنا بل مسرّع للجزيئيّات العاطفيَّة، فبينما كنَّا متعوِّدين على سلوكيَّات اجتماعيَّة غير مفرّط فيها، ها هو الإنترنت يرغم طبيعتنا وحيويّتنا على التغيُّر وبطريقة جدّ سريعة»[68].
إنّ واحدة من أهمّ الصفات السلبيَّة للاتّصال التكنولوجيّ البارد هو طغيان البعد التقنيّ عن البعد الإنسانيّ في العمليّةَ التواصليَّة، فإنسان العالم الافتراضيّ، والذي أسماه علي محمد رحومة بـ «الأنسوب»، يتعامل مع الآخر كرقم من آلاف أو ملايين الأرقام. كما أنَّه يتعامل مع ذلك الرقم عبر وسائط تقنيّة وتطبيقات تفرض عليه، في الكثير من الأحيان، أُطُرًا نفسيّة وفكريّة تحدّد طبيعة ذلك التعامل. وقد عرّف نديم منصوري ذلك الأنسوب بقوله: «هو ذلك الكائن البشريّ الذي يشارك كائنًا بشريًّا آخر علاقة رقميَّة عبر الحاسوب، وتكون هذه العلاقة اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو عاطفيَّة أو غيرها لكن هذه العلاقة ليست إنسانيّة بالمطلق، بل هي مركّب من إنسان وآلة أو إنسان وحاسوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكائن البشري قد يُجري علاقاته الإنترنتيَّة مع برامج (برامج واقع
افتراضيّ) وليس مع أفراد حقيقيِّين، ما يجعل الفرد فردًا انترنتيًّا يتمظهر في سلوكيَّات رقميَّة عبر الحاسوب»[69].
الانتماء إلى المجتمع الرقميّ والتنشئة الاجتماعيَّة
إنّ التحدي الكبير، والذي سيشكّله هذا التغيّر لاحقًا على المجتمعات، يكمن في تحوّل المنصَّات الاجتماعيَّة إلى منصَّات تنشئة اجتماعيَّة لا تنبني محتوياتها وفقًا لمقتضيات بناء المجتمع الواحد وبمقتضيات الحفاظ على تماسك ذلك المجتمع عبر إنتاج وتوارث قيم ثقافيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة متجانسة. وبذلك، ستُزاحم تلك المنصّات مؤسَّسات التنشئة التقليديَّة التي تخضع في محدّداتها لتصوّر واضح المعالم والتوجّه والأهداف، بينما تتضارب المحدّدات الرقميّة في معالمها وتوجّهاتها وأهدافها.
فالفرد على الإنترنت لا يكون منطلقه المعرفيّ والاجتماعيّ والثقافيّ مجتمع الانتماء الحقيقيّ الذي يحتضنه فقط، بل الجماعة الافتراضيَّة التي يتأثّر بها عبر مختلف أشكال الزخم الفكريّ والأيديولوجيّ المتداول في مختلف منصّات التواصل بمختلف المرجعيّات الأيديولوجيّة وبمختلف لغات وثقافات العالم. هذا ما يشكّل تداخلًا بين الفعل الخارجيّ للتنشئة الاجتماعيَّة والفعل الداخليّ الذي يُقوّض أهداف هذا الأخير[70].
يقول «بيتر دراكر» Drucker [71]في كتابه تحدّيات الإدارة للقرن الحادي والعشرين[72]: «بعد عدَّة مئات من السنين، عندما يكتب
المؤرِّخون عن عصرنا الحالي، على الأرجح أنَّ أهم ما سوف يلحظونه ليس التكنولوجيا أو الإنترنت أو التجارة الإلكترونيَّة، إنّما التغيُّر الجذريّ وغير المسبوق في السلوك الإنسانيّ، لأوَّل مرَّة في تاريخ البشريَّة يوجد أعداد كبيرة ومتزايدة من البشر يمتلكون مجموعة واسعة من الخيارات، ويقفون أمام تحدِّي إدارة أنفسهم بأنفسهم والمجتمعات مؤهَّلة لذلك»[73].
في يومنا هذا، وبعد سنوات عدَّة وليس عدة مئات من السنوات، نرى أنفسنا ومجتمعاتنا أمام مجموعة هائلة من الخيارات السياسيَّة والإعلاميَّة والثقافيَّة، ولا تستطيع جهة واحدة سواء أكانت حكومة أو وسيلة إعلام أو منظَّمة، أن تقود الجمهور المتنامي الذكاء والمعرفة والمتعدّد الآراء والتوجُّهات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد بدأ ذلك الجمهور يتعرَّف أكثر على خياراته المتوفِّرة، فلا يجد نفسه مجبرًا على أن يستمع إلى أخبار وتقارير قناة معيَّنة، لأنَّ الانتقال إلى أخرى بالنسبة إليه هو مجرَّد كبسة زر. ولا يجد ذلك الجمهور والمواطن العادي نفسه ملزمًا بالانتماء الجغرافيّ لمنظَّمة ما أو لوطنٍ أو لجماعةٍ، فمن الممكن أن ينتمي إلى إحدى آلاف المنظَّمات أو التجمّعات أو الشبكات الإلكترونيَّة التي تحيا في الإنترنت وتنشر فكرها على الشبكة، وتمارس طقوسها الخاصَّة، وتعطي لمنتسبيها الشعور بالانتماء، ويقابلونها بالولاء، فيُلاحظ أنّ قوَّة الولاء للوطن الافتراضيّ أقوى من قوَّة الولاء للوطن الجغرافيّ على الشبكات.
ولاتزال تلك التوجّهات البشريَّة، في مقتبل عمرها، خصوصًا وأنَّ جيل الشباب اليوم قد تعلَّم أدوات وتقنيَّات الإنترنت في مرحلةٍ متقدِّمة من عمره، بينما سوف يولد الجيل القادم بين الشبكات الإلكترونيَّة
الاجتماعيَّة، وسوف يبني علاقاته الإلكترونيَّة منذ نعومة أظفاره[74].
تحوّل إيديولوجي ذو توجّه ليبرالي[75]
عطفًا على تلك النقطة، يمكن القول أيضًا إنَّ هذه التغيَّرات في تقنيَّات الاتّصال، وما نجم عنها من تغيَّرات سيكولوجيَّة وأخلاقيَّة، ساهمت في حدوث تغيُّرٍ آخر لعلَّه أخطر، وهو التحوّل الايديولوجيّ الذي بات يترتّب على الفضاءات الرقميّة بحكم المحدّدات النفسيَّة، والمعرفيّة، والفكريَّة التي تفرضها تلك التقنيّة. فقد أصبح الجيل الرقميّ يغلب عليه خيارات فكريَّة ذات توجّهات ليبراليَّة. فقد أصبح يؤمن أكثر من أيّ وقتٍ مضى بمبدأ الحريّة الفرديَّة، وحريَّة التعبير، وحريَّة الاختيار، والأهم تعدّد الطروحات. كما أنَّه لم يعد يحتمل أحاديَّة الطرح والفكر المنغلق[76].
المبحث السادس: المجتمع الافتراضيّ والهويَّة الافتراضيَّة
ساهم الإعلام الجديد والإنترنت، والذي يعدّ أحد منجزات الثورة الاتصاليَّة، في تشكيل فضاءٍ جديدٍ وهو الفضاء الرمزيّ CYBER SPACE الذي يُشكِّلُ إطارًا جديدًا لعلاقات اجتماعيَّة عابرة للقوميَّات والأماكن. فالمتعارف عليه سابقًا أنَّ الجماعة الاجتماعيَّة هي مجموعة من الأفراد يجمع بينهم قيم مشتركة وشعور بالانتماء، يعيشون في بيئة جغرافيّة واحدة، تحكمهم قيم وأعراف يجتمعون عليها، ويتَّفقون فيما بينهم على وسائل الردع وقواعد الضبط الاجتماعي التي تحكم ما يحدث بينهم من علاقات.
لكنّ الإنترنت قد ساهم في تشكيل نوعٍ جديد من العلاقات تتجاوز الإطار الفيزيقي المكانيّ وتفاعُل الوجه بالوجه، إلى إحداث نوع جديد يقوم على كسر حدود الزمان والمكان. فشكّل مستخدموه، وخاصَّة الذين يجمع بينهم اهتمامات مشتركة جماعات يُطلق عليها المجتمعات الافتراضيَّة Virtual Communities[77].
لقد تدرّج العالم الافتراضيّ، وتطوَّر في استخداماته منذ أن قام المصوِّر السينمائيّ مورتون إيليج Morton Ei- ، في العام 1950، ببناء رؤيةٍ لاستخدام وحدةٍ واحدةٍ تسمى Sensorama lig اشتملت على عرض مجسّم، ومراوح مكبّرات صوتيّة وكرسي متحرّك، فقد مكّن هذا الاختراع المستخدم من مشاهدة التلفزيون بطريقة ثلاثيّة الأبعاد.
مفهوم المجتمع الافتراضيّ
يمكن تعريف المجتمعات الافتراضيَّة، كما وصفها هاورد راينجولد Raingold[78] بأنَّها «تجمّعات اجتماعيَّة تنشأ من الشبكة، حين يستمرّ أناسٌ بعددٍ كافٍ، في مناقشاتهم علنيًّا، لوقـتٍ كافٍ من الزمن، بمشاعر إنسانيَّة كافية لتشكيل شبكات من العلاقات الشخصيّة فـي الفضاء السيبيريّ»[79]. أمَّا «إريكسون»[80] فيرى أنَّ المجتمع الافتراضيّ، بصفته مصطلحًا يشير إلى المحادثة والحوار، المبني على الكومبيوتر، وهو يشير إلى أنَّ الحوار مهما كان نوعه هو مبني أساسًا على التفاعليَّة بين العديد من المتَّصلين والمستخدمين[81].
الهويَّة الافتراضيَّة
يعدُّ مفهوم الهويّة من المفاهيم التي أخذت حيِّزًا كبيرًا من تفكير الباحثين. ومصطلح الهويَّة له دلالاته اللغويَّة والفلسفيَّة والاجتماعيَّة والمنطقيَّة. فالهويَّة في اللغة العربيَّة مصدر صناعيّ مركب من ضمير الغائب «هـو» المعرّف بأداة التعريف «أل»، ومن
اللاحقة المتمثّلة في الياء المشدّدة وعلامة التأنيث، وهي تأتي بمعنى ذات الشيء. وعند الفلاسفة والمناطقة تُعدّ هويَّة الشيء أو ماهيَّته ذاته التي يتميّز بها عن باقي الموجودات، والتي يتفرَّد بها بنحوٍ لا يقع بينه وبين غيره الاشتراك فيما يتميّز به.
كان الحديث في الفلسفة والمنطق يتمركز حول الهويَّة بلحاظ التشخيص الفرديّ لها، وإن اختلف الفلاسفة فيما بينهم بمشخَّصات الهويَّة، بين من يرى أنَّ الهويَّة تتشخَّص بالوجود كما هو رأي الفيلسوفَيْن أبو نصر الفارابي وصدر المتألهين الشيرازي، وبين من يعتقد أنَّ الهويَّة تتشخَّص بالعوارض المشخّصة كالزمان والمكان والشكل والصفات كما هو رأي ابن سينا، ثم تطوَّر البحث عن الهوية، ليتجاوز الهويَّة الفرديَّة إلى الهويَّة الاجتماعيَّة، صيغةً تعبّر عن وحدة جماعة ما في الانتماء إلى قاسم مشترك يجمع بينهم.
مع انتشار الإنترنت وظهور المجتمعات الافتراضيَّة، برزت مشكلات تقمّص الشخصيّات الافتراضيّة، من حيث السنّ والأنوثة والذكورة والدور الاجتماعيّ. وبحسب موسوعة الويب webopedia تُعرَّف الهويّة الافتراضيّة Virtual Identity على أنَّها الشخصيَّة التي يُنشِئها المُستخدِم، أي الإنسان الذي يعمل كصلة وصل بين الشخص الطبيعيّ والشخص الظاهريّ للمستخدمين. وبحسب هـذا التعريف فإنَّ الهويَّة الافتراضيَّة هي السمات والمواصفات التي يقدّمها الفرد الطبيعيّ للآخرين عبر الإنترنت، فتتمّ عمليَّة الاتّصال بين ثلاثة أطراف، وليس طـرفين وهم؛ الشخص العادي والهويَّة الافتراضيَّة والأشخاص الآخرين. كما يمكن تعريف الهويَّة الافتراضيَّة بأنّها مجموع الصفات والرموز والبيانات التي يستخدمها الأفراد في تقديم أنفسهم للآخرين، في المجتمعات الافتراضيَّة، ويتفاعلون معهم من خلالها[82].
لقد كشفت العديد من الدراسات التي لها علاقة بالاستخدامات والإشباعات بأنَّ مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعيَّ، وخاصَّة موقع «الفيسبوك»، يستخدمونه لتحقيق إشباعات اجتماعيَّة بالدرجة الأولى، وذلك للحفاظ على العلاقات القائمة والتعرُّف على أصدقاء جدد. ويميل المستخدمون إلى استخدام الشبكات الاجتماعيَّة نظرًا إلى التفاعليَّة اللامحدودة التي توفِّرها. وتوصَّلت دراسة قام بها «بارك» وآخرون (2009) إلى أن المنتمين إلى مجموعات فايسبوكيَّة يستخدمونها لتقديم أنفسهم وتطوير علاقاتهم المهنيَّة. وتتكامل الإشباعات مع الشخصيَّة الواقعيَّة بمقدار الكشف الذاتي الذي تتيحه الشبكات الاجتماعيَّة لمستخدميها، والتي تمكّنهم من الاتّصال[83].
خصائص المجتمع الافتراضيّ
يتمتَّع المجتمع الافتراضيّ بخصائص عدّة تُمَيّزه عن المجتمع الواقعيّ، نشير إلى أهمِّها:
- يشير مصطلح الجماعات الافتراضيَّة إلى تجمّعات اجتماعيَّة لا مكانيَّة، بمعنى أن أعضاءها لا يشكِّلون تجمّعًا مكانيًّا، ولا يتقاسمون إطارًا جغرافيًّا واحدًا، بل تشمل هذه التجمّعات أفرادًا ينتمون إلى هويَّات وقوميّات مختلفة. أصبحت معه الشبكة الدوليَّة للمعلومات هي الإطار الذي يجمع بين أعضاء هذه المجموعات التي تنتشر في الفضاء الرمزيّ. ولأنّ حدود الجغرافيا لم تعد تؤدِّي دورًا في تشكيل المجتمعات الافتراضيَّة فهي مجتمعات لا تنام، فصباح مجتمع هو ليل آخر، وليلُ مجتمعٍ هو ظهر آخر، وهكذا يستطيع المرء أن
يجد من يتواصل معه في المجتمعات الافتراضيَّة على مدار الساعة.
- يُعدّ وجود اهتمامات مشتركة هو الجامع بين أعضاء المجتمع الافتراضيّ، إذ إنَّ عضويَّة الفرد في إحدى الجماعات رهينة بالتوافق في ذات الاهتمامات بشكلٍ مستمرٍّ أو متقطِّع.
- يتمكَّن الفرد في المجتمع الافتراضيّ من المشاركة، في أكثر من جماعة، بحسب ميوله واهتماماته.
- تتيح هذه التجمّعات الافتراضيَّة حريّةً للفرد قد لا تكون متوافرة في العالم الواقعيّ.
- تتيح هذه المجتمعات لروّادها إخفاء هويَّتهم الحقيقيَّة.
عوامل نشأة الشعور بالمجتمع الافتراضيّ عند ماكميلان وتشافيز
تسعى المجتمعات الافتراضيَّة إلى خلق ما يسمّيه المهتمون بهذا الشأن الشعور بالمجتمع والجماعة، ويُوجِز ماكميلان وتشافيز McMillan and Chavis 1986 العوامل التي ينشأ من خلالها هذا الإحساس فيما يلي[84]:
- الشعور بالانتماء belonging إلى جماعة من خلال عضويَّتها ومتابعة ما يحدث فيها وسهولة التفاعل مع أفرادها وأحداثها.
- الشعور بالقدرة على التأثير influence/ impact في تلك الجماعة أو المجتمع الافتراضيّ، من خلال ردود الأفعال التي يتلقّاها الفرد من بقيَّة أعضاء الجماعة أو أفراد المجتمع الافتراضيّ، وكذلك التأثّر بما يحدث في ذلك المجتمع.
- تبادل الدعم support وإشباع الحاجات النفسيّة والشعوريّة والارتباط الوجدانيّ بأفراد الجماعة من خلال تبادل التهاني والتعازي والمواساة والنصيحة وبطاقات المعايدة وما إلى ذلك.
- الحضور والتواجد availability، وهما نقيض العزلة والغياب اللذين نتجا عن هيمنة القيم الماديّة وانشغال الجميع بتأمين أسباب الحياة. لا يُتصوّر أن يبقى المرء طويلًا في مجتمع افتراضي ليس فيه من يتواصل معه فلا يسمع فيه إلا صدى صوته.
- الثقة trust، إذ لا يستطيع الفرد أن يشعر بالانتماء إلى جماعة أو مجتمع لا يثق بأحد أفراده ولا يشعر بالأمان فيه.
لكن، في الواقع، تبقى المجتمعات الافتراضيّة في مُجمَلِهَا هَشّة ما لم تتأسّس على علاقات سابقة في العالم الواقعيّ، وما لم تحفظ سكّانها من تطفّل المتطفّلين واحتيال المحتالين. ولا بُدّ أن يبذل أفراد المجتمعات الافتراضيّة جهدًا مُضنِيًا في التحقّق من هويّات من يتفاعلون معهم، ما لم يكن هناك سابق عهد أو معرفة على أرض الواقع. فعواقب الوقوع في براثن المحتالين قد تكون وخيمة. وفي سبيل الشعور بالثقّة، يلجأ مستخدمو المواقع الاجتماعيَّة وسكّان المجتمعات الافتراضيّة إلى أصدقائهم في عالم الواقع.
الخلفيّة المُشتَركَة common background، إذ تزداد قوّة العلاقات الافتراضيّة كلما تأسّست على خلفيّة مُشتركة في العالم الواقعيّ أو على اهتمامات وهوايات وميول مُشتركة في العالم الافتراضيّ. فنلاحظ أن مواقع التواصل الاجتماعيّ والخدمات الإلكترونيَّة يتجمّع فيها الأفراد من الخلفيّات العلميّة والمهنيّة والتجاريّة المشتركة من منطلق أنّ «الطيور على أشكالها تقع». وقد تنشأ تجمّعات افتراضيّة حول قضيّة أو نجم فني أو رياضي أو حول مفكّر أو عالم أو شخصيّة سياسيّة.
المبحث السابع: التفاعليَّة وإنتاج المضمون
يُعدّ مصطلح التفاعليّة من أكثر المفردات التي كثر الحديث عنها عند البحث عن وسائل الإعلام الجديد. ويصعب تناول هذا المفهوم من منظار واحد، وهناك مشكلات عديدة تكتنف هذا المفهوم عند إرادة تعريفه من المشتغلين في حقل علوم الاتّصال الرقميّ، منها تعدُّد استخداماته، فالتفاعليَّة تُستَخدم بمعانٍ مختلفة وإن تقاربت في المضمون.
رغم أن مفهوم التفاعليَّة أُستخدم في حقول معرفيَّة كثيرة، إلّا أنّ استخدامه في حقل الاتّصال الجماهيريّ يعود إلى السنوات الخمسة عشرة الأخيرة. ويحتوي التراث العلميّ في هذا الموضوع على نماذج تعريفيّة كثيرة للتفاعليّة. فالباحثون في علوم الحاسوب عادة ما يميلون إلى التفكير في كلمة «تفاعليَّة» على أنَّها التفاعل بين المستخدم والحاسوب، ثم فإن التفاعل يعنى «قدرة المستخدمين على الاتّصال المباشر بالحاسوب، على نحوٍ يؤثِّر في الرسالة». فتكون التفاعليَّة عبارة عن «طريقة المعالجة بالحوار وتعديل اشتغال البرنامج من خلال مراقبة النتائج»[85]. وتعبّر عن مدى إمكانيَّة مشاركة المستخدمين في تعديل شكل بيئة وسائطيَّة ومحتواها في الزمن الحقيقي[86]. في حين أنّ باحثين آخرين يميّزون بين
نوعين من التفاعليَّة هما: التفاعليَّة البشريَّة human interactivity، وتفاعليَّة الوسيلة medium interactivity.
يفرّق باحثون آخرون بين التفاعليَّة البشريَّة، والتي يطلق عليها كلّ من Massey and Levy إسم التفاعليَّة الشخصيَّة، وبين تفاعليَّة الوسيلة. وتقوم التفاعليَّة الأولى على فكرة من مستخدم إلى مستخدم آخر، والثانية على أساس فكرة المستخدم-الوسيلة، أو ما أسماه Massey and Levy تفاعليَّة المضمون.
تصف Stromer-Galley، التفاعليَّة البشريَّة أنَّها أكثر أهميَّة من تفاعليَّة الوسيلة؛ لأنَّها أقرب إلى إعادة تشكيل الاتّصال المواجهي (وجهًا لوجه)، وتُعرِّفها بأنَّها اتّصال بين إثنين أو أكثر من المستخدمين، يحدث بواسطة قناة اتّصال مثل استخدام لوحة الرسائل، أو استخدام روابط البريد الإلكترونيّ. أما تفاعليَّة الوسيلة فهي اتّصال تفاعليّ بين المستخدمين والتكنولوجيا، وتقوم على طبيعة التكنولوجيا نفسها، وما تتيحه للمستخدمين من أفعال مثل استخدام الروابط الفائقة للتنقُّل من قصَّة إخباريَّة إلى قصَّة أخرى[87].
لقد عرّف وليام ورايس وروجرز التفاعليَّة بأنَّها «درجة تحكّم المشاركين في عمليَّة الاتصال في الحوار المتبادل، وقدرة كلّ منهم على تبادل الأدوار في العمليَّة الاتصاليَّة»[88]. ويقترب منه ما يذكره Williams من أنَّ التفاعليَّة هي «الدرجة التي تنتج من تحكُّم المشاركين في عمليَّة الاتّصال، وقدرتهم على تبادل الأدوار في أحاديثهم المتبادلة». ويُعرّفها ste[89]uer بأنَّها: مدى قدرة المتلقِّي على تعديل مضمون وشكل الرسالة الاتّصاليَّة في الوقت الحقيقي للاتّصال real time. إنَّ هذا التعريف
مبنيٌّ على أساس تقني تتمثّل أبعاده في السرعة speed التي يتمّ نقل استجابة المتلقي بها إلى المرسل عبر نفس وسيلة الاتّصال ومجال الاختيار range.
يُشار في هذا المضمار إلى عدد الاختيارات المتاحة أمام المتلقي في أي وقتٍ من أوقات عمليَّة الاتّصال والقدرة التنظيميَّة للوسيلة mapping capabilities of medium، وقدرة المتلقي على السيطرة على عمليَّة الاتصال. كما يربط steuer بين التفاعليَّة والوجود الاتّصاليّ للفردtelepresenc [90].
فتعريف Steuer للتفاعليَّة يُقدّمها بوصفها المدى الذي تسمح فيه الوسيلة للمستخدم لتعديل المحتوى أو تشكيل بيئة وسيطة في الوقت الفعليّ. ويعتبر McMillan أنّ التفاعليَّة ذات بعدين أساسيين، هما: «درجة مباشرة الاتّصال، ومستوى تحكُّم المستقبل في عمليَّة الاتّصال»[91].
بهذا يتبيَّن، أنَّ التفاعليّة تعني تغيّر دور المُستخدِم من المُستقبِل إلى دور المُرسِل في عمليَّة الاتَّصال عبر نفس الوسيلة ليطوِّر خاصيَّة التفاعليَّة. فالتفاعليَّة عند «ويليامز» تُعبِّر عن الدرجة التي يسيطر فيها المتلقّي على عمليَّة الاتّصال ويتبادل الأدوار مع المرسل، وهو ما يجعل التفاعليَّة تُركِّز على قدرة المتلقي على الاستجابة للرسالة. هنا نرى أسلوب التحوُّل من التأكيد على القنوات والاتّجاه أكثر نحو العلاقات الارتباطيَّة بين الرسائل المتبادلة. كما يشير «ويليامز» أيضًا إلى تبعيّة «الإرسال الثالث»، ومن أمثلتها تفاعل الرسالة الثالثة التابعة في غرف الدردشة بالكومبيوتر. ويُلاحَظ هنا اتّخاذ التفاعليَّة اتّجاهًا أُحاديًّا من المستقبِل إلى المرسِل عبر قناة الاتّصال.
في الواقع، أنَّ إدراك المشاركين للتفاعليَّة يتوقّف عند هدف الاتّصال، والمتمثّل في التفاعل والإخبار وليس الإقناع. وعليه، كون التفاعليَّة خاصيَّة الوسيلة، والوسيلة التفاعليَّة هي التي تتيح للمستقبل فرص التفاعل مع المرسل ومع المضمون في آن واحد[92].
إذ يرتبط مفهوم التفاعليَّة بمفاهيم الحريَّة والديمقراطيَّة والمشاركة والحوار والتحرُّر من قيود أي سلطة، فهي تشير إلى ما أصبح يتمتّع به المستخدم من حريَّة اختيار ما يريد من الوسائل، وما يرغب من المحتويات في أيِّ وقتٍ وبأيِّ مكان، على عكس الوسائل التقليديَّة. وهذا ما عبَّر عنه Lucien Sfez بقوله «الحريَّة.. تتجسَّد عن طريق التفاعليَّة، الناتجة عن تقدُّم آلات الاتّصال، والتي تترك للإنسان وللفرد حريَّة التدخُّل أمام حتميّة الآلات»[93]. كما افترض كلّ من McMillan 1998 وWilliams 2002 أنَّ المستخدِم في الاتّصال التفاعليّ يكتسب السيطرة أكثر على عمليَّة الاتَّصال.
لقد ربط Rafaeli التفاعليَّة بفكرة التراكميَّة، بمعنى أنَّ صياغة رسالة ما تتطلب الأخذ بالحسبان الاستجابات اللاحقة للمتلقي وليس الاعتماد على الرسائل السابقة عليها باعتبارها استجابة ورد فعل فقط، لقد ركَّز على تراكم تبادل الرسائل، إذ عدّ أنَّ التفاعليَّة تعبيرٌ عن المدى الذي يعطي سلسلة من الاتّصالات المتبادلة، أي انتقال ثالث أو رسالة لاحقة. فالتفاعليَّة ترتبط بدرجة التبادلات المتراكمة على الاتّصال الأوَّلي. ولقد أطلقت sisuoik 2002 على هذه الخصائص مصطلح التبعيَّة الثالثة. وبناءً على ذلك أمكن تحديد خمس عناصر للتفاعليَّة: التبادل، والحوار، والسيطرة، والاتّصال ثنائيّ الاتّجاه، وتبعيَّة الأمر الثالث.
أمَّا «رافائيل» فقد حدَّد الإشباعات بصفتها مجموعة العوامل المحدِّدة للموقف الاتّصاليّ التفاعليّ، والتي يشعر بها المتلقي من التفاعل مع الرسالة، وكذلك التقبُّل. وهي بذلك مرتبطة بعدَّة عناصر تتمثَّل في: جودة الأداء، والدوافع التي تشجِّع المتلقي على الرد على المرسل، ومدى توافر روح الدعابة، والرغبة في التعلُّم والمعرفة، والتفتُّح الذهنيّ openness والوضوح frankness والرغبة في التواصل الاجتماعيّ[94].
يُلاحَظ ممَّا تقدّم، أنَّ التفاعليَّة تتميّز بقدرة المستخدم على التحكُّم في الاتّصال بشكلٍ أكبر، إذ يتَّسم الاتّصال بأنَّه يسير في اتّجاهين لا اتّجاهٍ واحد، هذا بالإضافة إلى حدوث الاتّصال في أوقات مرنة لا ثابتة، ويكون مصحوبًا بشعورٍ قويّ بأنَّه يحدث في مكانٍ مُصطنع.
هذه الرؤية التي تربط بين التفاعليّة في الإعلام الجديد والاتّصال المواجهيّ تجد جذورها في نظريَّة «مارشال ماكلوهان» حول كون وسائل الاتّصال امتدادٌ لحواس الإنسان. فالكتابة امتدادٌ لحاسَّة البصر، والراديو امتدادٌ لحاسَّة السمع، والتلفزيون والسينما امتدادٌ لهما معًا. إذ يؤكِّد ماكلوهان أنَّه لا بد من الاعتماد على كلّ حواسنا لنفهم ما يدور حولنا، فإنَّ وسائل الاتّصال التقليديّ عجزت عن مجاراة الاتّصال الشخصيّ في استثمار كلّ حواس الإنسان بما يحقّق له الانغماس الكامل في العمليَّة الاتّصاليَّة. وهذا ما اقترب الإعلام الجديد من تحقيقه، بحيث يمكن القول إنَّ التفاعليَّة في الإعلام الجديد تُمثِّل امتدادًا للاتّصال الشخصيّ وتوسيعًا له، بحيث يشتمل على خواصّ الاتّصال الجماهيريّ من الشيوع والانتشار والقدرة على مخاطبة شخصٍ واحد أو مخاطبة ملايين البشر الذين يمكن لمن يشاء منهم التفاعل والتواصل مع المرسل ومشاركته الموقف الاتصاليّ[95].
إجمالًا، يمكن القول إنّ التفاعليَّة تُعزِّز قدرة الإعلام الجديد على تمكين الجمهور empowerment. وتشمل عمليَّات التمكين محاولة الحصول على التحكُّم والحصول على المصادر المطلوبة. وتكون العمليَّة تمكينيَّة إذا ساعدت الناس على تطوير مهاراتهم وأن يصبحوا في وضع يُمكّنهم من حلّ مشاكلهم بأنفسهم[96].
هذا النمط الجديد من الاتَّصال الذي تتغيّر فيه العلاقة بين أطراف العمليّة الاتّصاليَّة، أدّى إلى ظهور دعوات لإعادة النظر في مناهج البحث السائدة التي تناسب الإعلام التقليديّ، واستخدام مناهج جديدة تستوعب تلك التغيّرات، ممَّا جعل بعض الخبراء يولي مسألة التفاعليّة اهتمامًا كبيرًا، يتمثَّل في محاولته تطوير مقاييس خاصَّة به[97].
جماهير أكثر نشاطًا وقدرة على صناعة المحتويات
بعدما كانت الجماهير في الإعلام التقليديّ تُسمَّى بالمفتتنة والسلبيّة، بحسب تعبير «راسل نيومان» [98]Neuman، تغيَّرت موازين القوى وأصبحت الجماهير أكثر نشاطًا وقدرة على صناعة المحتويات أو على الأقل الاختيار بين المحتويات المعروضة عليها بفضل السمة التحرّريّة للميديا الجديدة. وتشير «آنا ايفرت» Everret وجون كالدويل Caldwell إلى أنّ الخصائص التي تفرزها المواقع الإلكترونيَّة وشبكات التواصل الاجتماعيَّ ومحرّكات البحث المدمجة فيها تسمح للجمهور بالوصول إلى أي محتوى عن طريق كبسة زرّ واحدة، وذلك بدلًا من التعرض لمحتويات معيّنة كانت مفروضة ضمن نطاق الإعلام التقليديّ. وهذا ما يسمَّى بنظريّة «الكبسة الواحدة». ويضيف الباحثان بأنّ هذه النظريَّة
تعدّ مفتاحًا رئيسيًّا لفهم مجمل طرق إنتاج واستهلاك المواد والخطابات المتناقلة عبر الميديا الجديدة، وذلك بفضل جملة من المفاهيم الرئيسة على غرار المشاركة والانتقاء والتفاعليَّة والتخصيص.
أما «جنكنز» Jenkins يرى في نظريَّة التلاقي أو الدمج Convergence Theory، بأنّ المشاركة الفاعلة للجماهير في إنتاج المحتويات تشكّل الرابط الأساس، بحيث تتداخل الأدوار بين حُرّاس البوابة القُدُم والجماهير. فتؤدِّي هذه الأخيرة دور هؤلاء الحراس نفسه، في مقابل دورها السلبي السابق. يسمّي جينكينز هذا الدور بثقافة المشاركة، وهي في رأيه أكثر من عمليَّة تكنولوجيَّة، وإنَّما تتضمن أبعادًا اجتماعيَّة وسياسيَّة[99].
نظريَّة «لولب الصمت» بين الفضاء الواقعيّ والفضاء الافتراضيّ
بالنظر إلى ما تقدّم من تحوُّلات وتغيُّرات يحدثها العالم الافتراضيّ في الفرد الإنترنتيّ، قد يَعُدُّ بعضهم أن الفرد الإنترنتيّ أكثر تحرّرًا في صناعة المضمون من الفرد الواقعي. لأنَّ الفرد الإنترنتيّ- كما برز في المباحث السابقة- يتمتَّع بنزعة الفردانيَّة والحريَّة والتفاعليَّة والتحرُّر من السلطة. ممَّا يعني أنَّه يصوغ آراءه بحريَّة ويرسم اتّجاهاته بخياراته ويتحرَّر من رأي الغالبيَّة والأكثريَّة.
إلّا أنَّ «نويل نيومان»[100] E.Noelle Neuman أعدّت نظريَّة أسمتها لولب الصمت، تنطلق من افتراض أساس مفاده أنّ معظم الناس لأنّهم يخشون أن يكونوا في حالة عزلة، يحاولون، عندما يصوغون آراءهم،
التماهي مع آراء الآخرين أو يتبعون الرأي العام أي رأي الأكثريَّة. وبما أنّ وسائل الاتّصال تشكّل المصدر الأساسيّ للمرجعيَّة في الأخبار للجمهور، فإنّ الصحفيّين هم الذين لهم سلطة القرار في تحديد ما هو «مهم» بخصوص موضوع معيّن. والناس الذين يؤيِّدون وجهة نظر مهيمنة - معلنة في وسائل الاتّصال - يتحدَّثون عنها بكثرة، بينما يلوذ من له وجهة نظر مخالفة بالصمت كي لا يفقد شعبيَّته. والخطوة التالية في هذه العمليَّة هي أنَه من يقتسم وجهة النظر المهيمنة ذاتها سيُنتج تداولها بشكل أكبر، هكذا يصبح الرأي المهيمن مرئيًّا أكثر فأكثر، بينما يحتفظ الآخرون حتى لو كانوا الأكثريَّة بالصمت الذي سيتَّسع باستمرار.
فعندما يُلاحظ الفرد بأنَّ رأيه ليس مُعبَّرًا عنه في وسائل الاتّصال، فإنَّه ينسحب ويغادر الفضاء العموميّ وينطوي على ذاته في فضائه الخاصّ[101]. والأمر نفسه ينطبق في الفضاءات الرقميّة الجديدة، إذ يشترك مجموعة من الأشخاص المنتسبين إلى ايديولوجيا أو ثقافة معيّنة، في شبكة صداقات مشتركة عبر الفيسبوك مثلًا، قد تصل إلى أكثر من 2000 صديق مشترك بين مستخدمين اثنين. في حين أنّ الحدّ الأقصى لعدد الأصدقاء للحساب الواحد هو 5000 صديق. يهيمن عليهم الرأي الواحد غالبًا في القضايا الاعتقاديَّة الأساسيَّة، ويلوذ أغلب المستخدمين الذين لديهم رأي آخر بالصمت.
إنَّ نسبة المتجرئين على التغريد خارج السرب، في الفضاءات الرقميّة، هي أكبر بكثير من تلك الملاحظة في الفضاء العموميّ الواقعيّ. وفي بعض المواقف الإشكاليَّة، تتحوّل بعض الفضاءات الخاصَّة بجمهور معيّن إلى جيش افتراضيّ يخوض حربًا كلاميَّة مع جيش افتراضيّ آخر. ولقد أصبح الفرد قادرًا على البحث عن مجموعة أخرى للانتساب إليها بسبب تعدّد الفضاءات أو إنشاء الفضاء الخاصّ به.
الخاتمة
لا تمثِّل مواقع التواصل الاجتماعيّ العامل الأساس للتغيير في المجتمع، لكنَّها أصبحت عاملًا مهمًّا في تهيئة متطلبات التغيير عن طريق تكوين الوعي، في نظرة الإنسان إلى مجتمعه والعالم. فالمضمون الذي تتوجّه به عبر رسائل إخباريَّة أو ثقافيَّة أو ترفيهيَّة أو غيرها، لا يؤدِّي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة فقط، بل أنَّه يساهم في تكوين الحقيقة، وحلّ اشكاليَّاتها.
فمن بين مزايا المكان الافتراضي هو نهاية فوبيا المكان، إنَّ الخوف من المكان دليل على تملُّكنا لمكان آخر، وعندما ندخل في منظومة المكان الافتراضيّ نصبح لا نخشى شيئًا بحكم عدم مقدرتنا على تملُّك الافتراضيّ كونه فضاءً، لذلك وصفت شبكة الإنترنت كفضاء افتراضي بأكثر الأمكنة تحرُّريَّة، وعدم مقدرة أي طرف على امتلاكها.
فـ«الزمن الميدياتيكي»، والذي أطلق على شبكة التواصل الاجتماعي، هو الزمن الذي نحقّقه في صِلَاتنا المستمرّة مع وسائل الاتصال بوصفنا أفرادًا اجتماعيين، ولا يعدو أن يكون زمنًا وسائطيًّا لاعتمادنا، في الإنتاج والتفكير والتواصل والتفاعل، على تقنيات الإعلام والاتّصال. ويحتضن ميول الأفراد واتّجاهاتهم بوصفهم متابعين، مستهلكين ومنتجين للصّناعات الإعلاميّة المتدفّقة بأقدار لم يشهدها تاريخ صناعة المضامين. فكلّ مجتمع ينتج تمثّله
للزمن عن طريق الأنشطة التي يقوم بها، في المقابل كل مجتمع تقوده منظومة القيم الميدياتيكيّة إلى بناء تمثّله للزّمن.
يمكن القول إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي، تسهم بتفاعليَّة غير مسبوقة في تاريخ البشريَّة، بإعادة تركيب الذهنيَّة الفكريَّة والأداء الاجتماعيّ للمجتمعات، فضلًا عن دورها البارز في تشكيل مفاهيم جديدة للهويَّات المحليَّة الخاصَّة. ويمكن تحديد أهم هذه الأدوار بالآتي :
- إثارة الرأي العام أو إعادة توجيهه.
- تشتيت الرأي العام.
- التشويه السياسي الإلكترونيّ.
- التسويق السياسيّ، من جهة والتعبئة السياسيَّة من جهة أخرى.
- دعم «الأنا» لدى الفئات المهمَّشة، وتعزيز مفهوم المواطنة الافتراضيَّة لديهم.
في ضوء هذه التحديدات، يمكن القول إنَّ المجتمع الافتراضيّ يتّسم بمجموعة من السمات الآتية:
- المرونة وانهيار فكرة الجماعة المرجعيّة بمعناها التقليديّ، فالمجتمع الافتراضيّ لا يتحدّد بالجغرافيا بل بالاهتمامات المشتركة التي تجمع سويًا أشخاصًا لم يعرف كلٌ منهم الآخر بالضرورة قبل الالتقاء إلكترونيًّا.
- لم تعد تؤدِّي حدود الجغرافيا دورًا في تشكيل المجتمعات الافتراضيّة، فهي مجتمعات لا تنام، يستطيع المرء أن يجد من يتواصل معه في المجتمعات الافتراضيّة على مدار الساعة.
- من سماتها وتوابعها أنّها تنتهي إلى عزلة، على ما تعد به من انفتاح على العالم وتواصل مع الآخرين. هذه المفارقة يلخّصها عنوان كتاب لشيري تيركل «نحن معا، لكنّنا وحيدان/ وحيدون»، وفق ما مرّ معنا في متن البحث.
- لا تقوم المجتمعات الافتراضيّة على الجبر أو الإلزام، بل تقوم في مجملها على الاختيار.
- في المجتمعات الافتراضيّة وسائل تنظيم وتحكّم وقواعد لضمان الخصوصيّة والسريّة، قد يكون مفروضًا من القائمين، وقد يمارس الأفراد أنفسهم في تلك المجتمعات الحجب أو التبليغ عن المداخلات والمواد غير اللائقة أو غير المقبولة.
- أنّها فضاءات رحبة مفتوحة للتمرّد والثورة - بدايةً من التمرّد على الخجل والانطواء وانتهاء بالثورة على الأنظمة السياسيّة.
- تتَّسم المجتمعات الافتراضيَّة بدرجة عالية من اللامركزيَّة، وتنتهي بالتدريج إلى تفكيك مفهوم الهويّة التقليدي. ولا يقتصر تفكيك الهويّة على الهويّة الوطنيّة أو القوميَّة بل يتجاوزها إلى الهويّة الشخصيَّة، لأنَّ من يرتادونها في أحيانٍ كثيرة بأسماء مستعارة ووجوه ليست وجوههم، وبعضهم له أكثر من حساب.
- التفسير الذي قدَّمه بعض المفكرين «في اختلاف معدل التغير في كلٍّ من الثقافة الماديَّة واللاماديَّة، نتيجة التأثير التقنيّ في المجتمعات يعدُّ الأساس في التحليل الاجتماعيّ لتقنيَّة الاتّصال»، مع احتمال «حدوث تصادم بين التغيُّر التقنيّ والتغيُّر الثقافيّ»، ويترتب عليه خلل وظيفيّ ممَّا يؤثِّر في تفكير أفراد المجتمع، وتغيُّرٍ في القيم والأيديولوجيَّات السائدة.
- نستطيع القول إنَّ الثقافة فقدت السيطرة على المجال التقنيّ، وتحوَّلت إلى أداة تطوُّع ما تفرضه هذه التكنولوجيا من متطلِّبات. ويبرز ذلك في تقليد «الحتميَّة التقنيَّة» ثم لاحقًا في «الحتميَّة الإعلاميَّة».
- ينحدر الإعلام الجديد من مرجعيَّة عفويَّة وغير منظَّمة تأخذ من مبدأ حريَّة التعبير والإستقلال عن كل الإلتزامات الأيديولوجيَّة أو الاقتصاديَّة القائمة من دون أيَّة قيود. وهو ما يشير إلى أنَّ الإعلام الجديد هو حصيلة مواقف فكريَّة، تعمل بالإعتماد على قاعدة التشكُّل الذاتيّ.
بعيدًا عن النظرة القيميَّة، يجب أن نتعامل مع هذه الظاهرة الاتصاليَّة والاعتراف بها بحثيًّا وتأطيرها ضمن تحوُّلات المُثل الجماعيَّة التي تشقُّها العديد من الإفرازات وتُنتجُ سلطات رمزيَّة خصوصيَّة.
[1] مصطلح الابيستمولوجيا يعود أصله لكلمة يونانيَّة الأصل، وهي Epistemology، مكوَّنة من مقطعين Episteme وهي تعني معرفة، و Logos وتعني نظريَّة أو دراسة أو فلسفة. وبتركيب هذين المقطعين تصبح معنى الكلمة نظريَّة المعرفة، أو دراسة المعرفة.
[2] المذهب السَّيكولوجيّ(علوم النفس) الاتِّجاه إلى جعل علم النَّفس محورًا لمنهج البحث في شتَّى نواحي المعرفة.
[3] عالم الاجتماع الأمريكي وليم أوجبرن (1886 - 1959) الذي شغل منصب أستاذ علم الاجتماع في جامعة شيكاغو في عشرينيَّات القرن الماضي. كما شغل العديد من المناصب المهمَّة في جامعات ومؤسَّسات علم الاجتماع في الولايَّات المتَّحدة. وهو صاحب نظريَّة «الفجوة الثقافيَّة» التي تنصّ على أنَّ التغيَّرات التكنولوجيَّة الماديَّة عادة ما تحدث بسرعة أكبر من التغيّرات اللاماديَّة أو القيميَّة في المجتمعات الإنسانيَّة.
[4] يُقصد به الحضور الفعلي الحيّ الذي تحيط به ظروف ماديَّة ملموسة.
[5] فرانسيس بيكون (1561-1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي، معروف بقيادته للثورة العلميَّة عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على «الملاحظة والتجريب».
[6] «ألبرت مارشال ماكلوهان» (1911-1980) هو صاحب النظريَّة التكنولوجيَّة لوسائل الإعلام، وهي من النظريَّات الحديثة التي ظهرت عن دور وسائل الإعلام وطبيعة تأثيرها على مختلف المجتمعات.
[7] هو فيلسوف إيطالي، وروائي وباحث في القرون الوسطى، ويُعرف بروايته الشهيرة إسم الوردة. وهو أحد أهم النقّاد والمفكِّرين الذين ساهموا في صنع فكر «ما بعد الحداثة». وهو الفكر الذي يعمل على تهديم القيم الأخلاقيَّة والأيديولوجية، واستبعاد السرديَّات الكبرى في العالم.
[8] جون بيار هوغ وآخرون، الجماعة والسلطة والاتّصال، ترجمة نظير جاهل، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1996، ص117.
[9] يعدّ وليبر شرام لنغ مؤسِّس ميدان دراسات الاتّصال في الجامعات الأميركيَّة، وكان ذلك بمثابة نقطة تحوّل في عالم الاتّصالات والإنترنت.
[10] ياسر عبده حيمري، دراسة لبعض مهارات الاتّصال الأساسيّة لدى المرشدين الزراعيِّين المحليِّين في محافظة سوهاج، مصر، جامعة المنيا، 2003م. ص15.
[11] هما من أشهر علماء الاجتماع في الولايات المتحدة الأميركيَّة، حيث يُعرفان باشتغالهما العميق على تحليل المضمون الأعلاميّ والسيبيريّ.
[12] فضيل دليو، مقدِّمة في وسائل الاتّصال الجماهيريّ، ديوان المطبوعات الجامعيَّة، الجزائر، 1998م، ص17.
[13] محمد عودة، أساليب الاتّصال والتغيُّر الاجتماعيّ، ط1، 1996م، دار المعرفة، الاسكندريَّة، ص5.
[14] هو الفضاء الإلكترونيّ، وهو الوسط الذي تتواجد فيه شبكات الحاسوب ويحصل من خلالها التواصل الإلكترونيّ. واستخدم مصطلح الفضاء الإلكترونيّ للمرة الأولى ويليام جيبسون (William Gibson) وهو كاتب في الخيال العلمي، وبالأخص في نوع الأدب الذي يعرف باسم الشر الإلكترونيّ، إلَّا أنَّ المفهوم كان قد تم شرحه سابقًا، مثلًا في رواية جون فوردز (John M. Ford›s) بيت الملائكة العنكبوتيّ (Web of Angels).
[15] نقلاً عن: شروق سامي فوزي، تكنولوجيا الإعلام الحديث، مؤسَّسة طيبة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2015م، ص230.
[16] هو كيلي ملرتن ليستر، أحد المنظرين لدور الإعلام الجديد في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة.
[17] نقلاً عن: فيصل محمد عبد الغفار، شبكات التواصل الاجتماعيّ، الجنادرية للنشر والتوزيع، ط1، 2015م، ص82.
[18] المصدر نفسه، ص84.
[19] الإعلام الجديد، دراسة في تحوُّلاته التكنولوجيَّة وخصائصه العامَّة، شبكة الصحفيين العرب، 2014م.
[20] رضا هميسي، الإعلام الجديد بين حرِّيَّة التعبير وحماية الأمن الوطنيّ، دراسة قانونيَّة، كلّيَّة الحقوق والعلوم السياسيَّة، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة، الجزائر.
[21] نوال بركات، الفضاء السيبيريّ والعلاقات الاجتماعيَّة في المجتمع الافتراضيّ بين جغرافيا الواقع والجغرافيا الافتراضيَّة، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، 2014م، ص273.
[22] Steve Jones, Encyclopedia of New Media: An Essential Reference to Communication and Technology. SAGE Publications. 2002
[23] هو الشيخ مرتضى مطهري (1920-1980)، عالم دينيّ وفيلسوف ومفكِّر إسلاميّ. يعدّ من الوجوه التي برزت مع تصاعد الثورة الإسلاميَّة في إيران مع الإمام الخمينيّ الراحل{. وكان دوره فاعلًا ومؤثّرًا، لذا أغتيل على يد جماعة إرهابيَّة في إيران.
[24] مرتضى مطهري، محاضرات في الفلسفة الإسلاميَّة، نقله إلى العربية عبد الجبار الرفاعي، دار الكتاب الإسلامي، ط1، 1415ه، ص32.
[25] سورة الإسراء، الآية 84.
[26] قبل انتقاله إلى رئاسة الشركة خلال مقابلة مع جوليات أسانج ضمّنها في كتابه «عندما التقى غوغل بويكيليكس».
[27] في المقال الذي نشره بتاريخ 16 شباط 2107 تحت عنوان بناء مجتمع عالمي، وضع فيه رؤيته لمستقبل فيسبوك، والذي يمكن أن نعدّها المباني الفكرية- الاجتماعية لفيسبوك-.
[28] facebook, Mark Zuckerberg, Building-Global community, 16/2/2017.
[29] آدم سميث (1723-1790) فيلسوف أخلاقيّ وعالِم اقتصاد اسكتلندي. يُعدّ مؤسِّس علم الاقتصاد الكلاسيكيّ ومن روَّاد الاقتصاد السياسي. اشتُهر بكتابيه الكلاسيكيين: «نظريَّة المشاعر الأخلاقيَّة» (1759)، وكتاب «بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» (1776). وهو من أهم آثاره، وأوَّل عمل يتناول الاقتصاد الحديث، وقد اشتهر اختصارًا، باسم «ثروة الأمم». دعا إلى تعزيز المبادرة الفرديَّة، والمنافسة، وحريَّة التجارة، بوصفها الوسيلة الفضلى لتحقيق أكبر قدر من الثروة والسعادة.
[30] أنا الكتاب وهذه سيرتي، دار المؤلف، بيروت، ط1، 2010م، ص29.
[31] فيسبوك، مارك زوكربرغ، 16 شباط 2107، بناء مجتمع عالمي.
[32] م.س.
[33] ولعلَّه يُمكن استفادة هذا المعنى مما يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «إنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته».
[34] محمد لبيب النجيحي، التربية وأصولها الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ص 124.
[35] سورة البقرة، الآية 170.
[36] سورة الزخرف، الآية 23.
[37] أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، مؤسَّسة الأعلمي- بيروت، طبعاة العام 1986، ج2، ص49، ح1668.
[38] محمد بن يعقوب بن إسحاق المشهور بثقة شيخ الإسلام الكليني، الكافي، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميَّة- طهران، الطبعة الخامسة، ج6، ص47.
[39] آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (1934 -..) فيلسوف وعالم دين إسلامي شيعيّ، مؤسِّس مؤسَّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والبحث العلميّ، عضو مجلس خبراء القيادة في إيران وأحد أبرز علماء الدين الإيرانيين من تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلاميّ محمد حسين الطباطبائي، وهو أشهر فيلسوف إسلامي شيعي في الوقت الراهن.
[40] محمد تقي مصباح اليزدي، النظرة القرآنيَّة للمجتمع والتاريخ، دار الروضة- بيروت- طبعة العام 1996، ص49.
[41] يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص57-58.
[42] «Cultural Lag as Theory» في كتابه «الفجوة الثقافيَّة نظريَّةً» (Ojbren,1957).
[43] العقيدة الإسلاميَّة - بحوث ومعتقدات، الموقع الإلكتروني لجمعيَّة المعارف الإسلاميَّة.
[44] م.ن.
[45] الإنترنت والمنظومة التكنو- اجتماعيَّة: بحث تحليل في الآليَّة التقنيَّة للإنترنت ونمذجة منظومتها الاجتماعيَّة، صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه (53)، 2005م.
[46] علي محمد رحومة، علم اجتماع الآليّ مقاربة في علم الاجتماع العربي والاتّصال عبر الحاسوب، صادر عن سلسلة عالم المعرفة، العدد 347، كانون الأول، 2008م.
[47] Clayton, Russell B.; Nagurney, Alexander; Smith, Jessica R. (October 2013). «Cheating, Breakup, and Divorce: Is Facebook Use to Blame?». Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking. 16 (10): 717- 720. doi:10.1089/cyber.2012.0424
[48] يحيى اليحياوي، «في التكنولوجيا كحاضنة للديمقراطيَّة».
[49] الصادق الحمامي، «صُمّـم الفيسبوك ليبتلع البشرية».
[50] عباس صادق، الإعلام الجديد - المفاهيم والوسائل والتطبيقات، دار الشروق - بيروت، 2008، ص 69.
[51] زينب إبراهيم عقيل، التبليغ الديني على فيسبوك تجربة مبلّغي حزب الله نموذجًا، الجامعة اللبنانيَّة كليَّة الإعلام التوثيق، بيروت، 2018م.
[52] الصادق الحمامي، صُمّـم الفيسبوك ليبتلع البشريَّة، مرجع سابق.
[53] م.ن.
[54] زينب إبراهيم عقيل، التبليغ الدينيّ على فيسبوك تجربة مبلّغي حزب الله نموذجًا، مصدر سابق.
[55] الجماعة السلطة الاتّصال، مصدر سابق، ص9.
[56] علي أسعد وطفة، الاغتراب والانسنة في مفهوم الفردانيَّة، مجلة تعريب، المركز للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، العدد28، ص129، دمشق، 2005.
[57] إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار معد- دمشق، 1990.
[58] إميل دوركايم (1858 - 1917) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسيّ أحد مؤسِّسي علم الاجتماع الحديث، وقد وضع لهذا العلم منهجيَّة مستقلَّة تقوم على النظريَّة والتجريب في آن معًا. أبرز آثاره «في تقسيم العمل الاجتماعيّ» و«قواعد المنهج السوسيولوجيّ».
[59] لويس دومون، ترجمة بدر الدين عردوكي، مقالات في الفردانيَّة: منظور أنثروبولوجيّ للأيديولوجيَّة الحديثة، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، 2006.
[60] بايوسف مسعودة، الهويَّة الافتراضيَّة- الخصائص والأبعاد، مجلة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، عدد خاص الملتقى الدوليّ الأوَّل حول الهويَّة والمجالات الاجتماعيَّة في ظلّ التحوَّلات السوسيوثقافيَّة في المجتمع الجزائري، 2011.
[61] Alone Together: Why We Expect More from Technologies than from Each, New York: Basic Books, 2011.
[62] شيري تيركل Sherry Turkle أستاذة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهي باحثة في علم الاجتماع وعلم النفس، وقد قضت ما يزيد على 20 عامًا في تقصّي طبيعة التفاعل بين البشر والحواسب الإلكترونيَّة (ومثيلاتها من المنتجات الإلكترونيَّة)، كما أنَّها ألّفت كتابين غير مسبوقين في هذا الموضوع هما: «الذات الثانية: الحواسب وطبيعة البشر»، و«الحياة على الشاشة: الهويَّة في عصر الإنترنت».
[63] من المهم هنا التوقف عند نظريَّة الذات الثانية yroeht «self dnoces» لشيري تيركل Turkle التي تفترض أنّ الناس يرتبطون بالميديا الجديدة لأنَّها تجسيد للواقع بشكل متماثل. وترى تيركل بأنّ ما يوجد في الميديا الجديدة ليس سوى نمطًا ثانيًا من الحياة يتقمّص فيها الناس ما تسميه «ذاتًا ثانية» أو «ذواتًا ثانية». ووفقًا لتصوُّرها، فإنّ الناس يجدون في الميديا الجديدة فضاءً لممارسة هويَّتهم بحرِّيَّة أكبر بعيدًا عن تلك التي يفرضها التفاعل في التواصل اليومي. وقد مكّنت الميديا الجديدة الناس بفضل مميِّزاتها التقنيَّة والاجتماعيَّة من أن يؤدوا أدوارًا عديدة تؤسِّس لذواتٍ جديدة. (أنظر: نور الدين هميسي، الأطر النظريَّة والمنهجيّة لدراسة الميديا الجديدة: قراءة نقديَّة، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، كليّة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، جامعة بسكرة، ص 61، الجزائر، 2014).
[64] بايوسف مسعودة، الهويَّة الافتراضيَّة- الخصائص والأبعاد، مجلة العلوم الانسانيَّة والاجتماعيَّة، عدد خاص الملتقى الدوليّ الأوَّل حول الهويَّة والمجالَّات الاجتماعيَّة في ظلّ التحوّلات السوسيوثقافيَّة في المجتمع الجزائري، 2011،
[65] علي محمد رحُومة، الإنترنت والمنظومة التكنو-اجتماعيَّة، مصدر سابق.
[66] على كل حال، لم يقتصر تفكيك الهويَّة على البعد الوطنيّ والقوميّ بل تجاوزها إلى الهويَّة الفرديَّة ذاتها، لأنَّ المشاركين على المجتمعات الافتراضيَّة يتقنَّعون، في الكثير من الأحيان بأسماء مستعارة، وبعضهم له أكثر من حساب بأكثر من هويَّة وفق أهدافه التي يريد تحقيقها.
[67] كمال حميدو، الإعلام الاجتماعي وتحوّلات البيئة الاتّصاليَّة العربيَّة الجديدة، مركز الجزيرة للدراسات، قطر، 2018
[68] Rivet, Julien, «Psychologie du clash sur Internet: y a-t-il un surmoi numérique à l’heure du web social», slate.fr,10 juillet 2009, (Visited on 7July 2017).
[69] نديم منصوري، سوسيولوجيا الإنترنت، منتدى المعارف، بيروت 2014، ص 22.
[70] كمال حميدو، الإعلام الاجتماعيّ وتحوّلات البيئة الاتصاليَّة العربيَّة الجديدة، مصدر سابق.
[71] يتر فردناند دراكر (Peter Ferdinand Drucker) كاتب إقتصادي أميركي من أصل نمساوي يهودي، ولد في فيينا في 1909م وعاش معظم حياته في الولايات المتحدة الأمريكيَّة. أجمع الكل أنَّه الأب الروحيّ للإدارة، فهو الذي حدّد مفهوم الشركة في تحليله لشركة جنرال موتورز. توفيّ في العام 2005م.
[72] Management Challenges for the 21st Century, 1999
[73] www.poplas.org/uploads/member_studies/6760/study/________.docx
[74] أحمد شريف بسَّام، الشباب الإعلام الجديد في رسم خارطة طريق لعمليَّة التغيير السياسي، ورقة بحثيَّة مقدَّمة لمؤتمر الشمال إفريقي التركي للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة: التحـــــوُّلات الاجتماعيَّة و الشبـاب، اسطنبول، 2012.
[75] الليبرالية هي فلسفة سياسيَّة أو رأي سائد، تأسَّست على أفكار الحرِّيَّة والمساواة. يتبنَّى الليبراليُّون مجموعة واسعة من الآراء تبعًا لفهمهم لهذين المبدأين، ولكن يدعم الليبراليون بصفة عامَّة أفكارًا مثل حريَّة التعبير، وحريَّة الصحافة، والحريَّة الدينية، والسوق الحر، والحقوق المدنيَّة، والمجتمعات الديمقراطيَّة، والحكومات العلمانيَّة ومبدأ الأمميَّة.
[76] كمال حميدو، الإعلام الاجتماعيّ وتحوّلات البيئة الاتصاليَّة العربيَّة الجديدة.
[77] نوال بركات، الفضاء السيبيريّ والعلاقات الاجتماعيَّة في المجتمع الافتراضيّ بين جغرافيا الواقع والجغرافيا الافتراضيَّة، مصدر سابق.
[78] هاورد رينجولد «Haward Rhingold»، من الأوائل الذين استخدموا هذا المصطلح في كتابه المجتمعات الافتراضيّة، والذي يؤكد فيه بأنَّ هذه المجتمعات تجمعات اجتماعيَّة تشكَّلت من أماكن متفرِّقة في أنحاء العالم تربطهم اهتمامات مشتركة، ولا تربطهم بالضرورة حدود جغرافيّة أو أواصر عرقيّة أو قبليّة أو سياسيّة أو دينيّة، يتفاعلون عبر وسائل الاتّصال ومواقع التواصل الاجتماعيّ الحديثة.
[79] سعاد إبراهيم العزازي، مواقع التواصل ّ وانعكاساتها على منظومة العلاقات الاجتماعيَّة.
[80] إريك اريكسون (1902 - 1994) عالم نفس تطوريّ ومحلل نفسيّ دنماركي-ألماني-أميركيّ معروف بنظريَّته في التطوُّر الاجتماعيّ للإنسان.
[81] الهوية الافتراضية الخصائص والأبعاد.
[82] الهويَّة الافتراضيَّة - الخصائص والأبعاد، مصدر سابق.
[83] مريم نريمان نومار، استخدام مواقع الشبكات الاجتماعيَّة وتأثيره في العلاقات الاجتماعيَّة: دراسة عيِّنة من مستخدمي موقع الفيسبوك في الجزائر. مذكَّرة مكمِّلة لنيل شهادة الماجستير في علوم الإعلام والاتّصال تخصُّص الإعلام وتكنولوجيا الاتّصال الحديثة. الجزائر. جامعة الحاج لخضر، 2012.
[84] الفضـــــاء الإلكتروني وأسلحـــة الانتشـــــار الشـــامــــل بين الردع وسباق التسلح.
[85] https://manifest.univ-ouargla.dz/index.php/archives/facult%C3%A9-des-sciences-sociales-et-sciences-humaines/177
[86] زعموم، خالد، وبو معيزة، السعيد، التفاعليَّة في الإذاعة: أشكالها ووسائلها، اتّحاد إذاعات الدول العربية، تونس، 2007م.
[87] حسني محمد نصر، اتجاهات البحث والتنظير في وسائل الإعلام الجديدة، ورقة بحثيَّة مشاركة في مؤتمر وسائل التواصل الاجتماعيّ: التطبيقات والإشكالات المنهجيَّة، الرياض، 2015.
[88] م.ن.
[89] https://platform.almanhal.com/Files/2/65916
[90] عبيدة صبطي، الإعلام الجديد والمجتمع، المركز العربيّ للنشر والتوزيع، مصر، 2108م.
[91] Fetterman, D. M. (1996), ’Empowerment evaluation: An introduction to theory and practice’ in Empowerment evaluation: knowledge and tools for self-assessment & accountability, Thousand Oaks, California: Sage.
[92] فضيلة تومي، التفاعليَّة ووسائلها في التلفزيون الجزائريّ. مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علوم الإعلام والاتّصال. جامعة الجزائر، 2008م.
[93] فضيلة تومي، تكنولوجيا الاتّصال-التفاعليَّة- وعلاقتها بالبحث العلميّ في الجامعة الجزائرية. مجلة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيّة. ص494.
[94] عبيدة صبطي، الإعلام الجديد والمجتمع، مصدر سابق.
[95] حمد بن ناصر الموسى، العلاقة التفاعليَّة بين المشاركين في العمليَّة الاتصاليَّة عبر الإعلام الجديد. الرياض. الجمعيَّة السعوديَّة للإعلام والاتّصال، 2013م.
[96] مصدر سابق، Fetterman, 1996.
[97] العلاقة التفاعليَّة بين المشاركين في العمليَّة الاتّصاليَّة عبر الإعلام الجديد، مصدر سابق.
[98] هو أستاذ تكنولوجيا الإعلام، في كليَّة الثقافة بجامعة نيويورك شتاينهارت للثقافة والتعليم والتنمية البشريَّة وأستاذ دراسات الاتّصالات بجامعة ميشيغان، من العام 2001 إلى العام 2013 ، كان الدكتور نيومان أستاذًا في جون ديربي إيفانز لتكنولوجيا الإعلام بجامعة ميشيغان.
[99] نور الدين هميسي، الأطر النظريّة والمنهجيّة لدراسة الميديا الجديدة: قراءة نقديّة، مجلة علوم الإنسان والمجتمع. (61)، 2014م.
[100] دوَّامة الصمت spiral of silence، هي نظريَّة علوم سياسيَّة واتّصال جماهيريّ اقترحتها العالِمَة السياسية الألمانيَّة إليزابث نويل-نويمان، في العام 1974. تُعدُّ هذه النظريَّة واحدة من النظريَّات التي تؤكِّد على قوَّة وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام، وهي تهتم برصد آثار وسائل الإعلام على المجتمع. وترى نيومان عمليَّة تكوين الرأي العام كونها عمليَّة ديناميكيَّة، تتدخَّل فيها عوامل نفسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام المحوري في تكوين الاتّجاه السائد حول القضايا المثارة في المجتمع.
[101] جوديت لازار، سوسيولوجيا الاتّصال الجماهيريّ، (ترجمة علي وطفة، هيثم سطايحي). دمشق. دار الينابيع، 1994م.