ماهي الدروس التي استفدناها من غربة الإمام الرضا عليه السلام؟
مقدّمة
لا يزال مصطلح الحرب الناعمة ومفهومها يثير الفضول لدى الباحثين والمتخصّصين والمهتمّين، فثمّة غموض في أصل المفهوم، وثمّة فجوات بين المفهوم والنظريّة من جهة وبين السياسات والإجراءات والتطبيقات المنفّذة من جهة أخرى، وهو ما يحتاج إلى قراءة ودراسة جديدة في ضوء تجربة المواجهة مع القوّة الأميركيّة الناعمة على مدى عقد ونصف من الزمن.
حقيقةً، لم يعد مفهوم القوّة الناعمة هو نفسه الذي نظّر له البروفيسور جوزيف ناي، فقد خضع للنقد والتقييم والتعديل من قبل الأكاديميّين والباحثين والخبراء من جهة، ومن قبل صنّاع القرار في الإدارة الأميركيّة من جهة ثانية.
تشير تجربة 15 عامًا من تاريخ صعود النظريّة على المستوى الأميركيّ والدوليّ منذ العام 2004م بأنّ بعض الدوائر التنفيذيّة في الإدارة الأميركيّة أخذت بعضًا ممّا ترى أنّه إيجابيّات ونقاط القوّة في النظريّة، وأنّها تتناسب مع سياساتها واتّجاهاتها، مع إضافة قناعاتهم وأجنداتهم وأساليبهم، ما أخرج إلى الواقع مفهومًا متحوّرًا وجديدًا للحرب الناعمة، يحتاج إلى دراسة جديدة، في سبيل تحسين أساليب تركيز المواجهة والاشتباك وأولويّاتها ونقاطها معها.
الإشكاليّة المنهجيّة التي تتمحور حولها هذه الدراسة تتلخّص في رصد التحوّلات والنقاشات والتحويرات العميقة التي دخلت إلى مفهوم القوّة الناعمة واستخداماته وتطبيقاته في الميدان الفعليّ من قِبل الجهات التنفيذيّة والأجهزة والمراكز اللصيقة بدوائر صنع القرار في الإدارة الأميركيّة، وعلى وجه الخصوص البنتاغون الذي يشنّ الحروب الخشنة، والخارجيّة الأميركيّة التي تشنّ الحروب الناعمة، ومن خلال التنسيق والتكامل في الأدوار والوظائف بينهما تحت إشراف مجلس الأمن القوميّ الأميركيّ، بعيدًا عن المباحث الأكاديميّة ونقاشاتها.
وإذا كان قادة محور المقاومة قد كشفوا عن الحرب الناعمة مبكّرًا منذ العام 2009م، لكنّ هذه الحرب تغيّرت بفعل عوامل كثيرة سنأتي على ذكرها تفصيلًا، وهو ما يفرض علينا رصد المتغيّرات في الجبهة المعادية لمعرفة ما استجدّ في الاستراتيجيّة على مستوى المفهوم والتطبيق. ما سيتمّ توجيه النظر إليه في هذه الدراسة من خلال النقاط الآتية:
1. مدى تآكل القوّة الناعمة الأميركيّة نتيجة الإفراط في استخدامها خلال العقدين الأخيرين.
2. تطوّر قدرات الدول والقوى المناهضة لأميركا لناحية مقدرتها على تقويض القوّة الناعمة الأميركيّة.
3. مدى جنوح الإدارات الأميركيّة للإفراط في استخدام القوّة الاقتصاديّة في حروبها وسياساتها الخارجيّة، وهي من موارد القوّة الصلبة والخشنة، سواء عبر الحصار التجاريّ والمصرفيّ أو من خلال العقوبات والإجراءات الماليّة على الشركات والأشخاص والكيانات المختلفة لإرغام خصومها وأعدائها على قبول السياسات الأميركيّة تعويضًا عن تآكل القوّة الناعمة من جهة، وسدًّا لعجز الآلة والقوّة العسكريّة الأميركيّة الخشنة أيضًا من جهة ثانية.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للدراسات الثقافيّة
أوّلًاـ الخطّ الزمنيّ لنشوء مفهوم القوّة الناعمة وتطوّره
على الرغم من أنّ مصطلح القوّة الناعمة ظهر في تسعينيّات القرن الماضي، إلّا أنّ البعض يراها ملازمة للتاريخ الإنسانيّ، وهي تظهر في كتابات الفلاسفة، أمثال: كونفيشيوس وسقراط. وفي المقلب الآخر تعدّ كتابات المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي، الذي وضع المقدّمات الفكريّة لظهور هذا المفهوم من خلال نظريّته حول الهيمنة الثقافيّة للرأسماليّة عبر المؤسّسات، كالمدارس والجرائد والصحف والإذاعات وغيرها من الأدوات الإعلاميّة والثقافيّة التي كانت متوفّرة على المستوى العامّ حتّى منتصف القرن العشرين، والتي كان من وظائفها صناعة صورة خلّابة وجيّدة لدى العامّة عن النخبة الرأسماليّة بهدف السيطرة على عقول هؤلاء وقلوبهم وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الرأسماليّ.
كما أنّ التأثير الثقافيّ عن طريق التعليم الذي حاولت فرنسا فرضه في مستعمراتها، من خلاله خلق صورة جيّدة عنها في ذهن الشعوب التي استعمرتها، يعدّ من النماذج المبكّرة للاستخدام الاستراتيجيّ للقوّة الناعمة، وقد جرى تطبيق هذه الاستراتيجيّة من خلال نشر المدارس والجامعات الفرنسيّة في لبنان وفي بلدان المغرب العربيّ، وإلى اليوم لا تزال الدول الفرنكوفونيّة مستمرّة في إقامة معارض الكتب الفرنسيّة على أرضِ المستعمرات القديمة للغرض والهدف ذاته، وهذا من مظاهر القوّة الناعمة [1].
[1] نضال صافي، مفهوم القوّة الناعمة- كيف نشأ؟ وما هي ظروف تطوّره؟ وكيف يمارَس؟ وأين مسرحه؟، جريدة البناء، 2-7-2020م.
بالعودة إلى الخطّ الزمنيّ لبروز مصطلح القوّة الناعمة ومفهومه، فقد بدأ التداول فيه على مستوى العلاقات الدوليّة كمفردة تحليليّة مركزيّة في فضاء السياسات الخارجيّة والدوليّة لأميركا ودورها في قيادة العالم، فقد نشأت الفكرة في تسعينات القرن 20 بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ من خلال مقال نشره جوزيف ناي نائب وزير الدفاع الأميركيّ في عهد الرئيس بيل كلينتون نشرته مجلّة «فورن أفيرز foreign affairs» الأميركيّة استخدم فيه مصطلح «قوّة الاستتباع غير القهريّة co-optive power» ثم طُوِّر لاحقًا المصطلح فأصبح القوّة الناعمة كأحد مصادر قوّة الاستتباع.
عاد المصطلح للظهور بقوّة إلى الواجهة بعد سنة 2004م تاريخ نشر كتاب القوّة الناعمة Soft Power وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة للبروفيسور جوزيف ناي، وقد ركّز على التأثير بقوّة الجاذبيّة والشرعيّة والمصداقيّة لا بقوّة الإرغام والقهر والإكراه أو بقوّة الرشاوى والمساعدات الماليّة والاقتصاديّة.
بقي هذا الخطّ المنهجيّ ثابتًا في أدبيّات البروفيسور جوزيف ناي وطروحاته ومؤلّفاته- المنظّر الأوّل للفكرة- حتّى عام 2009م عندما جرى بلورة هذه النظريّة من خلال برامج وسياسات تطبيقيّة مدعومة بانتشار منصّات التواصل الاجتماعيّ، بخاصّة في عهد الرئيس الديموقراطيّ باراك أوباما، ووزيرة خارجيّته هيلاري كلينتون، الذي شهد بداية عهده اندلاع الثورة الخضراء في إيران حزيران وتمّوز من عام 2009م، وتفجّر ما سمّي بثورات الربيع العربيّ بداية عام 2011م، التي أُطلق عليها «ثورات القوّة الناعمة» [1].
[1] علي حرب، ثورات القوّة الناعمة في العالم العربيّ من المنظومة إلى الشبكة، الدار العربيّة للعلوم - ناشرون، 2012م.
لكنّ التطبيقات الأميركيّة لنظريّة القوّة الناعمة كانت دائمًا مركّبة، وعبارة عن خلطة اندماجيّة بين مجموعة عناصر وسياسات مأخوذة من القوّتين الصلبة والناعمة، تهيمن عليها القوّة الخشنة بسبب قوّة تيّار القوّة الخشنة المتجذّر في الإدارات الأميركيّة بخاصّة لدى كوادر الحزب الجمهوريّ، من جهة، ولحداثة فكرة القوّة الناعمة وحاجتها إلى صياغة كاستراتيجيّة عمليّة تتطلّب عمليّات تخطيط وتدريب وتحضير لعموم النخبة الأميركيّة المنخرطة في المواجهات على مستوى العالم من جهة ثانية.
لذلك، كان يجري هندسة النسب والحصص المخصّصة لكلّ قوّة بين الأذرع التنفيذيّة الأميركيّة سواء في وزارة الدفاع أو في وزارة الخارجيّة أو التابعة للبيت الأبيض ومكتب الأمن القوميّ حسب كلّ حالة وتبعًا لكلّ وضع دوليّ، وفق توجّهات الإدارة المتولّية للبيت الأبيض واستراتيجيّتها للأمن القوميّ التي تصدر في وثيقة فور بدء كلّ ولاية رئاسيّة، فما يخطّط من حرب ناعمة ضدّ الصين العملاقة ديموغرافيًّا والقويّة اقتصاديًّا والمتواجدة في محور آسيا يختلف عن ما يصاغ ضدّ روسيا القويّة عسكريًّا والقريبة جغرافيًّا من بلدان أوروبا وحلف شمال الأطلسيّ، ويختلف عن ما يخطّط لإيران المقتدرة ميدانيًّا في عموم الشرق الأوسط، وبطبيعة الحال تختلف مخطّطات الحرب الناعمة بمواجهة دول عن المواجهة مع منظّمة كـحزب الله تقاتل الكيان الصهيونيّ والنفوذ الأميركيّ والغربيّ، وهي من أقوى المنظّمات تسلّحًا بترسانة من الصواريخ في الشرق الأوسط والعالم حسب وصف قادة العدوّ الصهيونيّ والحلف الأطلسيّ وخبرائهم.
وفي الإطار نفسه، بدأت الدول المنافسة أو المعادية لأميركا بالاهتمام بمفهوم القوّة الناعمة منذ تمّ تداوله عالميًّا عام 2007م، فكان تصريح الأمين العامّ السابق للحزب الشيوعيّ الصينيّ والرئيس الصينيّ هوجينتاو عام 2007م عن حاجة الصين إلى زيادة قوّتها الناعمة، وقد جرى تكثيف جهود بناء القوّة الناعمة الصينيّة في عهد الرئيس الصينيّ شي جينبينغ، الذي أعلن عام 2014م أنّه «يجب زيادة القوّة الناعمة للصين، ويجب طرح سرديّة صينيّة جيّدة ورسائل تواصل أفضل إلى العالَم» [1].
[1] قوه شياو يينغ، القوّة الناعمة الصينيّة في العالَم العربيّ، نشر مؤسّسة الفكر العربيّ، بتاريخ 12/9/2017م.
فيما أعلنت إيران خطوات لمواجهة القوّة الناعمة الأميركيّة عام 2009م، فأطلق الإمام الخامنئيّ مصطلح «الحرب الناعمة» بعد حصول احتجاجات مدعومة بحملات إعلاميّة وتواصليّة من خلال شبكات تطبيق تويتر من أميركا وحلفائها فيما سمّي بالثورة الخضراء.
وبطبيعة الحال، أخذت روسيا أيضًا بتصنيف القوّة الناعمة وتعزيزها ضمن استراتيجيّاتها، فصرّح وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف عام 2013م أنّ «روسيا بدأت بالسيطرة على أدوات القوّة الناعمة في وقت متأخّرٍ كثيرًا عن شركائها الذين اخترعوا تلك الأدوات» [2].
[2] حدود الاستراتيجيّة الروسيّة في الشرق الأوسط، معهد راند، نشر في تشرين الثاني 2019م، ص27- 29.
ثانيًاـ في تعريف القوّة الناعمة ومدى انتشار مصطلح الحرب الناعمة
عرّف جوزيف ناي القوّة الناعمة، قائلًا إنّها: «القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكريّ والضغط الاقتصاديّ، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء الموالاة والتأييد، كما كان يحصل في السياسات السابقة، بل عن طريق الجاذبيّة، وجعل الآخرين يريدون ما تريد»[1]، وكان ناي قد استخدم هذا المصطلح لأوّل مرّة في كتابه المنشور عام 1990م تحت عنوان: «وثبة نحو القيادة، الطبيعة المتغيّرة للقوّة الأميركيّة»، وقد تطوّر المفهوم وتوسّع عام 2004م بعد إصداره كتاب جديد بعنوان «القوّة الناعمة؛ وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة».
[1] جوزيف ناي، القوّة الناعمة، ترجمة محمّد البيجرمي، دار العبيكان، 2007م، ط1، ص 22 - 25.
قد صنّف جوزيف ناي مصادر القوّة الناعمة ومواردها إلى ثلاث فئات: ثقافيّة، وأيديولوجيّة، ومؤسّساتيَّة. وهو يرى أنّ العالم يريد أن يكون مثل الولايات المتّحدة في هذه المجالات. وأنّ هذا الانجذاب بدوره، سيساعد الأمّة الأميركيّة على تشكيل العالم.
من وجهة نظر جوزيف ناي، فإذا تمكّنت الدولة من جعل سلطتها تبدو شرعيّة في نظر الآخرين، فستواجه مقاومة أقلّ لرغباتها. وإذا كانت ثقافتها وأيديولوجيّتها جذّابة، فسيتّبعها الآخرون بمحض إرادتهم. وبالنسبة إلى ناي، كان أساس القوّة الناعمة للولايات المتّحدة هو السياسة الديمقراطيّة الليبراليّة، واقتصاديّات السوق الحرّة، والقيم الأساسيّة، مثل حقوق الإنسان وجوهرها الليبراليّة والفرديّة [1].
[1] جوزيف ناي، القوّة الناعمة، المصدر نفسه.
رغم أنّ جوزيف ناي لم ينكر يومًا أنّ القوّة الناعمة يجب أن تقترن بالقوّة الصلبة، وأنّ العمليّة تتطلّب مزجًا بين القوّتين بأسلوب مبتكر وذكيّ، وكان يردّد مقولة العالم الإيطاليّ مكيافيلي مع إضافات تبرز فكرته، بقوله: «الأكثر أمانًا للدولة هو أن تكون محلّ خشية وخوف لا أن تكون محبوبة أو مرغوبة، لكن اليوم في عصر المعلومات العالميّ - بحسب جوزيف ناي- الأفضل أن نُحبّ ونُخشى معًا» [2] ورغم ذلك، تعرّضت فكرته لنقد واسع النطاق من قبل أوساط واسعة من ضبّاط استخدام «القوّة الخشنة والصلبة» ومنظّريهم.
[2] حسام مطر، ما بعد القتال، حرب القوّة الناعمة بين أميركا وحزب الله، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1، 2019م، ص18.
كما عاب عليه بعض ضبّاط البنتاغون بأنّ الفكرة بحدّ ذاتها «مطّاطة وغامضة»، وهي فكرة غير عمليّة، ولا يمكن قياس نتائجها أو الاستناد إليها في حسابات التخطيط الاستراتيجيّ والميدانيّ، وفي الصراعات الخشنة الضارية مع دول قوميّة شرسة تطوّر ترسانتها التسلّحيّة العسكريّة (الصين، روسيا، كوريا الشماليّة، إيران، الخ)، ومع جماعات ومنظّمات عقائديّة مقاتلة «تستخدم الإرهاب» (طالبان، تنظيم القاعدة، داعش، حزب الله، حماس، الخ).
على الرغم من أنّ النظريّة تعرّضت لسيل واسع من الانتقادات، لكنّها كانت جذّابة لوزير الدفاع ورئيس الأركان روبرت غايتس (Robert M. Gates) الذي استلم وزارة الدفاع بين عامي 2006 و2011م بعد استقالة سلفه الجمهوريّ دونالد رامسفيلد عند فوز الديمقراطيّين بانتخابات الكونغرس، فقد قال في شهادة أمام الكونغرس حول قضايا الدفاع «إنّ رسالتي اليوم ليست حول موازنة الدفاع أو القوّة العسكريّة، رسالتي تتعلّق بكيفيّة مواجهة أمريكا للتحدّيات الدوليّة القادمة في العقود المقبلة، وأفترض أنّه على أمريكا أن تبتكر مظاهر أخرى لقوّتها القوميّة بهدف مواجهة التحدّيات الخارجيّة، ووفقًأ لخبرتي التي خدمت من خلالها سبعة رؤساء، وكمدير سابق لوكالة الاستخبارات الأمريكيّة CIA ووزير دفاع، أقول لكم إنّني أتيت إلى هنا لأعزّز فكرة استخدام القوّة الناعمة لكي تصبح قوّة فاعلة رديفة للقوّة الصلبة» [1].
[1] Secretary of defense Reports 2006-2008.Understanding the New Defense Policy Through the Speeches of Robert M. Gates ، US Amazon. co
هكذا، بقي هذا الخطّ والتعريف النظريّ لمفهوم القوّة الناعمة قائمًا على قوّة الجاذبيّة لا على الإرغام، وبقي مُعتمدًا من قبل منظّري هذا الاتّجاه، لكنّ تطبيقات القوّة الناعمة خضعت للتعديل والتغيير والتطوير خلال «عمليّة المزج مع القوّة الخشنة»، تبعًا لكلّ جهة (البنتاغون، الخارجيّة، وكالات الأمن القوميّ، الاستخبارت، الخ)، من خلال عمليّات دمج لعناصر الفكرة والمفهوم مع سياسات وموارد قوى خشنة وصلبة غير ناعمة لتوليد قوّة ذكيّة مُركّبة من اندماج وتشابك قوى ناعمة ثقافيّة وإعلاميّة ودبلوماسيّة وقانونيّة دوليّة وتنمويّة ومدنيّة بخاصّة المنظّمات غير الحكوميَّة (NGOS) وإجراءات ماليّة واقتصاديّة وعمليّات أمنيّة وعسكريّة محدودة، بعضها بصورة غير مباشرة من خلال وكلاء أو دول إقليميّة حليفة.
أطلق البعض على هذه العمليّة الاندماجيّة تسميات كثيرة بحسب كلّ مرحلة، فتارة سُمّيت استراتيجيّة القوّة الذكيّة، وتارة سُمّيت باستراتيجيّة الحرب الطويلة ضدّ التنظيمات الجهاديّة الإسلاميّة، وطورًا استراتيجيّة مكافحة التمرّد، ومرّة سمّيت بعقيدة القدرة على الإرغام بلا حرب، ومؤخّرًا جرى تداول استراتيجيّة المنطقة الرماديّة، وقد تمّ استثمار هذه التطبيقات ودخلت حيّز التنفيذ لتحقيق الأهداف بوجه الأعداء والخصوم والمنافسين، وقد ظهرت أنماط هذه العمليّات وآثارها في أكثر من حالة في السنوات الأخيرة، بخاصّة بمواجهة إيران والصين وروسيا وحزب الله والحركات الأخرى.
نشير إلى أنّ مصطلح الحرب الناعمة لم يتسخدم في أميركا والغرب إلّا مؤخّرًا وقبل سنوات، وكان الأميركيّون يفضّلون مصطلح القوّة الناعمة، ولاحقًا استخدم البعض مصطلح حرب القوّة الناعمة - ومنهم على سبيل المثال الكاتبان نيثان غردلز ومايك ميدافوي مؤلّفا كتاب «الإعلام الأمريكيّ بعد العراق - حرب القوّة الناعمة» الذي صدر عن المركز القوميّ للترجمة في مصر عام 2016م، وقد قدّم للكتاب في طبعته الإنجليزيّة جوزيف ناي منظّر مفهوم القوّة الناعمة.
كما صدر في بريطانيا عام 2017م كتاب نشرته جامعة كامبريدج، لكاتبين صهيونيّين، هما الدكتور مايكل جروس من جامعة حيفا، وتمار ميسيلز من جامعة تلّ أبيب، تحت عنوان «أخلاقيّات الحرب الناعمة وفق قواعد وقوانين النزاعات غير المسلّحةSoftWar: The Ethics of Unarmed Conflict»، ناقشا فيه ماهيّة الحرب الناعمة من منظور القانون الدوليّ وبالمقارنة مع غيرها، وجوهر فكرة الكتابين تقوم على إشكاليّة قبول تصنيف الحرب الناعمة بأنّها حرب وفق قواعد القانون الدوليّ. وهي دراسة جديدة في هذا المضمار، بصرف النظر عن هويّة الكتابين الصهيونيّة المعادية للقضايا الإنسانيّة وللقانون الدوليّ.
كما عرّف الكاتبان الحرب الناعمة أنّها تشمل «جميع التدابير غير الحركيّة سواء كانت مُقنعة أو قسريّة ويشمل التعريف ممارسات مثل الحرب الإلكترونيّة والعقوبات الاقتصاديّة والحروب التجاريّة والحرب الإعلاميّة والدعاية والمقاومة اللاعنفيّة والعصيان المدنيّ واستخدام القانون الدوليّ لأغراض استراتيجيّة (تسمّى أحيانًا الحرب القانونيّة)، مع الأخذ في الحسبان أنّ الحرب الناعمة في جوهرها هي حرب غير عنيفة. في حين أنّ تقاليد الحرب العادلة لديها الكثير لتقوله عن الحرب «الصلبة»، حيث الرصاص والقنابل والخراب والسيوف، في مقابل أنّ الحرب الناعمة صامتة تقريبًا» [1].
[1] Michael L. Gross and Tamar Meisels. Soft War: The Ethics of Unarmed Conflict. Forthcoming Cambridge University Press, 2017.
إنَّ هذا التعريف هو الأوّل من نوعه لمصطلح الحرب الناعمة -لا القوّة الناعمة- على المستوى الأكاديميّ الدوليّ بحدود اطلاعنا.
ثالثًاـ الثغرات المنهجيّة في نظريّة القوّة الناعمة
من خلال العودة إلى قضيّة الثغرات والنقاط، تعرّض مصطلح القوّة الناعمة كما شرحه جوزيف ناي لنقد شديد من قبل النخب الأكاديميّة وخبراء العلاقات الدوليّة في أميركا من جهة، ومن قبل صنّاع القرار في المجمع العسكريّ والاستخباراتيّ من جهة ثانية، وجاءت الانتقادات من عدّة نقاط وثغرات، نذكر منها:
1. الغموض في المفهوم:
النقد الأوّل وجِّه إلى فكرة القوّة الناعمة، أنّها غامضة لا يمكن البناء عليها لرسم سياسات واستراتيجيّات فاعلة في عالمٍ مضطربٍ لا يزال التأثير فيه يقوم على استخدام القوّة المادّيّة الصلبة والخشنة والسياسات الإكراهيّة والإرغاميّة، ولا يقوم على صراع الأفكار والإيديولوجيّات فقط، ولو كان لها تأثير على مستوى الدوافع والحوافز وبناء التصوّرات والخلفيّات، لكنّ جاذبيّة النماذج والقيم لا تجدي نفعًا في الشؤون الدفاعيّة والاستراتيجيّة الدوليّة؛ فهي مجرّد فكرة هلاميّة غامضة لا يمكن عدّها استراتيجيّة.
2. عدم الجدوى بمواجهة أعداء أقوياء:
انتقد البعض جدوى القوّة الناعمة بمواجهة أعداء لديهم قدرات على مشاغلة أميركا، بخاصّة على أرضهم، ومن هؤلاء: المحلّلة الدفاعية أنا سيمونز Anna Simons الباحثة في كلّيّة البحريّة الأميركيّة[1] التي انتقدت بشكل لاذع مفهوم القوّة الناعمة في دراسة لها صدرت بعنوان «حرب ناعمة، حرب ذكية، فكّر مرّتين»، قائلةً: «نحن الأمريكيّين لا نعيش في عالم ما بعد أمريكا، لم نصبح بعد يونانيّين، نحن نحتفظ بقوّة صلبة غير مسبوقة، لدينا قوّة تقليديّة مميتة تحت تصرّفنا أكثر من أيّ بلد في التاريخ. أحد الأشياء التي يجب أن تحيّر دافعي الضرائب بشكل متزايد هو سبب رغبة واشنطن في إعادة تجهيز جيشنا لتقليل هذه القدرات، وبدلًا من ذلك بناء قدرات لن تفيدنا على الإطلاق. وما تصفه هذه المقالة هو العديد من مشاهد عدم التماثل بين مجموعة من البديهيّات التي يتجاهلها المثقّفون وصنّاع القرار الدفاعيّون، من خلال الدعوة إلى المزيد من القوّة الناعمة ومفهوم مكافحة التمرّد الأكثر ذكاءً -من خلال الضغط بشكل أساسيّ على تجهيزنا لحرب ناعمة- فإنّ أولئك الذين سيعيدون توجيه جيشنا يرتكبون مجموعتين من الأخطاء؛ أوّلًا:
[1] Anna Simons is a professor of defense analysis at the Naval Postgraduate School (NPS). Prior to teaching at NPS she was both an assistant and then an associate professor of anthropology at the University of California, Los Angeles, as well as chair of the Masters in African Area Studies Program.
أخطأوا في قراءة حقائق القرن الحادي والعشرين، وثانيًا: أساءوا قراءة الطبيعة البشريّة [1].
[1] Anna Simons Soft War = Smart War-Think Again. Publication date: 31 December 2011.
كما أضافت سيمونز «تمّ استخدام العديد من المصطلحات لوصف الخطوط العريضة المحتملة للحرب المستقبليّة. ووفقًا لمعظم الذين يكتبون عن هذا الموضوع، يعرف الخصوم أنّهم لن يكونوا قادرين أبدًا على مواجهة استخدامنا للقوّة العسكريّة التقليديّة، لذا فإنّ الافتراض هو أنّهم سيستمرّون في اللجوء إلى الإرهاب وغيره من الوسائل غير التقليديّة وغير المتكافئة. بالإضافة إلى المزيد من حرب المدن، فإنّ المستقبل سوف يتّسم بالحرب بين الناس، أو حرب الجيل الرابع، والحرب المختلطة، والحرب غير النظاميّة، والتمرّد. وسيحاول الأعداء مواجهتنا بالطرق التي تناسبهم، وإغرائنا مباشرة عندما يستطيعون ذلك، وإيقاعنا بالأفخاخ بشكل غير مباشر عندما لا يستطيعون ذلك. وبالتالي، كان من الأفضل لواشنطن أن تقلق بشأن الجهات والمنظّمات الفاعلة غير الحكوميّة -بلاء عصرنا- وكذلك المنافسين القريبين من الأقران الذين، إذا كانوا أذكياء، سيسعون إلى إلحاق الأذى بنا باستخدام وكلاء غير حكوميّين (مثلما فعلت إيران في مواجهتها لإسرائيل من خلال حزب الله)، ومن خلال اصطحابنا إلى العوالم، لا يمكننا حتّى الآن وقد لا نكون قادرين على التحكّم بشكل فعّال -مثل الفضاء الإلكترونيّ- أو عن طريق الالتفاف علينا اقتصاديًّا، وربّما حتّى أيديولوجيًّا، وبالتأكيد سياسيًّا من خلال محكمة الجمهور والرأي العامّ العالميّ»[1].
[1] آنا سيمونز، مصدر سابق.
لاحظت سيمونز نقطة تعدّ الأكثر جوهريّة في تحليل القوّة الناعمة، فقالت: «على الرغم من أنّنا في الغرب يبدو أنّنا وصلنا إلى النقطة التي نفضّل فيها أخيرًا التأثير بالقوّة الناعمة والبراعة على تهديد القوّة التي تغيّر قواعد اللعبة كوسائل يمكن من خلالها تشكيل البيئة الدوليّة لصالحنا، لكن لسنا وحدنا من تطوّر بشكل متزايد في معرفة حساسيّات الآخرين ونقاط ضعفهم، ولكنّ الآخرين أصبحوا أكثر تعقيدًا وعقلانيّة اتجاهنا. والأهمّ من ذلك، أنّهم أصبحوا أيضًا أكثر تشكّكًا، لا سيّما عندما يشكّون أنّنا ربّما نتلاعب بهم. وفي الوقت نفسه، أصبحوا أكثر قدرة بشكل متزايد على التلاعب بنا، بخاصّة عندما نكون على أرضهم، ويمكن القول: إنّ الفضل في جنوح البعض نحو الحرب الناعمة كامن في حقيقة أنّ جيشنا -الأميركيّ- كان دائمًا تحت السيطرة المدنيّة بصورة مشدّدة. ولعلّ هذا من بين الأسباب التي أكسبت الحرب الناعمة والعمليّات الإعلاميّة والتواصل الاستراتيجيّ وحملات التأثير مثل هذا الزخم على مدى العقد الماضي. ويبدو أنّ العديد من الأشخاص الأذكياء في واشنطن والأكاديميّين يرون أنّ أولئك الذين نحتاجهم بشدّة للتأثير في الخارج سوف يسمعون أنّنا نخطّط للاستمالة من خلال القوّة الناعمة وسيسعدهم ذلك. نظرًا لكونها تبدو كأنّها أعمال خيريّة، لكنّ الخطير، هو إنّ أولئك الذين يرَون أنّ هذا المنهج قد ينجح إمّا أنّهم لم يقضوا وقتًا كافيًا بين أفراد وأشخاص غير الغربيّين، أو أنّهم أمضوا وقتًا طويلًا للغاية بين أشخاص ماهرون في إخبارهم بأنواع من الأشياء التي يرغبون في سماعها» [1].
[1] آنا سيمونز، مصدر سابق.
3 . صلة القوّة الناعمة بالدول وعدم صلتها بالمنظّمات من غير الدول:
كما وُجّهت انتقادات إلى نطاق القوّة الناعمة وأطرافها، لناحية تركيزه على الصراعات والمنافسات بين الدول، وفي سياق العلاقات الدوليّة، ولم تلحظ العلاقة التي يكون فيها الطرف الأوّل دولة (أميركا مثلًا)، في حين أنّ الطرف الثاني منظّمة عقائديّة أو حركة تمرّد أو منظّمة غير حكوميّة (حالة حزب الله/ طالبان/ حماس/ الخ). تحدّث جوزيف ناي في مؤلّفاته ومقالاته عن قدرة التنظيمات الجهاديّة على إنتاج قوّة ناعمة، لكنّه لم يشرح السياق العلائقيّ لمعركة ناعمة بين طرفين، طرف دوليّ وطرف آخر غير دوليّ [2].
[2] حسّان مطر، ما بعد القتال، مصدر سابق، ص 37.
بناء عليه، شكّك ضبّاط البنتاغون بمدى قدرة القوّة الناعمة على التأثير في ميادين الصراع مع قوى عقائديّة مدجّجة بالسلاح، ولديها عقيدة قتال غير ناعمة وتملك الصبر الاستراتيجيّ لمواصلة المعركة حتّى النهاية، وهي مستعدّة لبذل الدماء والأرواح إلى ما لا نهاية، ولديها رؤية تقوم على ضرورة تدمير الحضارة الغربيّة على حدّ وصف هؤلاء.
4. الإفراط في الثقة بجاذبيّة أميركا دون النظر إلى قدرات الخصم واستجاباته
هناك من عاب على نظريّة القوّة الناعمة إغفالها سلبيّات النموذج الأميركيّ، واعتماده على الترويج والإعلان والتسويق، في حين أنّه مليء بالعيوب الداخليّة من العنصريّة إلى فجوة الطبقيّة بين الفقراء والأغنياء والمعايير المزدوجة في السياسات والمواقف.
فيما رأى بعض النقّاد أنّ أميركا تتعامل مع قيمها ونماذجها على أنّها ذات جاذبيّة عالميّة - دوليّة، وهذا الأمر غير محسوم خارج أميركا، فها هي أميركا تتعرّض لسلسلة هزائم وأزمات داخليّة وخارجيّة، وتتراجع قوّتها، وهناك شعوب ودول ترفض هذه النماذج وهذه القيم وترى أنّ هناك بدائل أجدى وأنسب.
على هذا الأساس، وجّه البعض إشكالات منهجيّة لنظريّة القوّة الناعمة، لجهة تركيزها على سياسات الفاعل وموارده وقدراته ورغباته بخاصّة أميركا، وعلى عالميّة وأبديّة وتاريخيّة القوّة الأميركيّة وهيمنتها، مع الاستخفاف بمدى استجابة المتلقّي وتفاعله أي موضوع القوّة الناعمة والطرف المستهدف «حزب الله مثلًا» الذي باستطاعته أن يضع قيودًا على حركة الفاعل -الأميركيّ- تُعيق قوّته الناعمة أو تُحجّمها [1].
5. ثغرة صعوبة قياس القوّة الناعمة:
من الانتقدات العميقة أيضًا، أنّ القوّة الناعمة عصيّة على القياس، ولا يمكن تقصّي بياناتها بدقّة. وقد برزت إشكاليّة القياس في عدد كبير من الكتابات، بما وضع المفهوم على المحكّ. من السهل احتساب تدمير منشأة أو احتساب عدد القتلى من خلال تتبّع البيانات. لكن من الصعب قياس المشاعر في قرية أو مدينة. جزء من هذه المشكلة هو الإحساس بالوقت -ردود الفعل من قصف أو تجميد أصول مجموعة أو جهة معادية- في حين أنّ مقاربات القوّة الصلبة تقترب من الوقت الفعليّ. وترى الباحثة مارغريت سيمور Margaret Seymour أنّ هذا التفاوت يمكن أن يُعزى إلى فارق التكلفة المتأصّل بين النهجين -تكلّف حملة العلاقات العامّة أقلّ من تكلفة حملة القوّة الجوّيّة- فإنّ الاختلاف الكبير المتزايد بين الحسابين يشير إلى اعتماد الولايات المتّحدة المفرط على القوّة الصلبة [2].
[1] حسام مطر، مصدر سابق، ص16.
[2] Margaret Seymour .the problem with soft power. Foreign Policy Research Institute. 14/9/2020. https://www.fpri.org/article/2020/09/the-problem-with-soft-power/
على سبيل المثال، كيف يمكن احتساب درجة الكراهية أو الانجذاب للولايات المتّحدة من خلال قياس المشاعر (كمدخل لتأثير القوّة الناعمة) في جميع أنحاء المنطقة والعالم، يختلف عن ذلك، وهذه التغذية الراجعة للقوّة الناعمة يعيقها الوقت بطريقتين غير متزامنتين:
أوّلًا: يحتاج المحلّلون إلى وقت لتقصّي تغيير التفضيلات والخيارات.
ثانيًا: يحتاج الأمر إلى وقت وجهد لجمع البيانات وتحديثها.
رابعًاـ تأصيل مفهوم الحرب الناعمة بالتناسب مع الجيل الجديد من أنواع الحروب
رابعًاـ تأصيل مفهوم الحرب الناعمة بالتناسب مع الجيل الجديد من أنواع الحروب
بدأ التأصيل لهذا المفهوم مع ظهور عدد من النسخ المطوّرة لنماذج من الحروب غير العسكريّة تتقاطع في مجالات ونقاط مع الحرب الناعمة. وقد خلط البعض بين مفهوم الحرب الناعمة كما يُستخدم في أدبيّات قادة محور المقاومة، أو حرب القوّة الناعمة كما يستخدمها بعض الخبراء الأميركان، وبين حروب الجيل الخامس وفق استخدام بعض الأوساط الأكاديميّة والعسكريّة واصطلاحهم في بعض الدول الشرقيّة والعربيّة (خاصّة في مصر).
افتتحت حروب الجيل الجديد New doctrine Warfare Generation وما يسمّى بحروب الجيل الخامس -تمييزًا لها عن حروب الجيل الرابع والثالث- عهدًا جديدًا من التفكير في طرائق استخدام الأدوات الناعمة والشبكات الإلكترونيّة وحرب المعلومات وأشكال الأسلحة غير الصلبة القابلة للإنكار، فظهر لدينا أشكال كثيرة وتسميات ومفاهيم ومصطلحات عديدة أثارت الالتباس والغموض والتداخل. وللتمييز بين هذه المصطلحات المتقاربة والمتشابهة والمتقاطعة، نستعرض التعريفات، لبيان الفوارق بين خصائصها:
رابعًاـ تأصيل مفهوم الحرب الناعمة بالتناسب مع الجيل الجديد من أنواع الحروب
1. حروب الجيل الخامس / الحرب المعرفيّة Cognitive Warfare:
تُعرَّف حرب الجيل الخامس fifth-generation warfare أنّها «حرب يتمّ إجراؤها بشكل أساسيّ من خلال عمل عسكريّ غير حركيّ، مثل الهندسة الاجتماعية [1] والمعلومات المضلّلة والهجمات السيبرانيّة إلى جانب التقنيّات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعيّ والأنظمة المستقلّة تمامًا. وقد وصفها الباحث في الشؤون السيبرانيّة دانيال أبوت بأنّها حرب «المعلومات والإدراك» [2].
بين 13 و16 آب/ من العام 2017 عقد في مدينة سان لويس- ميتسوري مؤتمر دوليّ مهمّ تحت رعاية وكالة استخبارات الدفاع الأميركيّة (DIA) في إطار المؤتمر العالميّ السنويّ لنظام معلومات استخبارات وزارة الدفاع، وذلك تحت عنوان: «نظام ذكاء الكومبيوتر في جميع أنحاء العالم» (الاتصالات اللاسلكيّة -مؤتمرات الفيديو- إدارة تطوير تقنيّات الكومبيوتر)، وأعلن مدير وكالة (DIA) التابعة للبنتاغون الجنرال ستيورات في ختامه، أنَّ أميركا تدخل جيلًا جديدًا من الحرب هو «الجيل الخامس». وقال: «في كثيرٍ من الأحيان، نجد أنفسنا
[1] الهندسة الاجتماعيّة عبارة عن مجموعة من الحيل والتقنيّات المستخدمة لخداع الناس وجعلهم يقومون بعمل ما أو يفصحون عن معلومات سرّيّة وشخصيّة. قد تـُستخدم الهندسة الاجتماعيّة من دون الاعتماد على أيّ تقنيّة والاعتماد فقط على أساليب الاحتيال للحصول على معلومات خاصّة من الضحيّة. (ويكيبيديا).
[2] ويكيبيديا، حروب الجيل الخامس.
طرفاً في الحرب من دون الاستخدام المباشر للسلاح الحركيّ ضدّ العدوّ، إنَّ حروب الجيل الخامس لم تعد معركة استخدام المعدّات العسكريّة مثل (F-35)، بل قتالًا لأجل المعلومات» [1].
قال الجنرال ستيوارت مدير وكالة (DIA) في المؤتمر العالميّ لنظام معلومات استخبارات وزارة الدفاع إنّ «الحرب المعرفيّة Cognitive Warfare هي العامل الحاسم في المعركة جنبًا إلى جنب مع F-35 وغيرها من منصّات الحرب الحديثة، فإنّ حرب الجيل الخامس تدور حول القتال من أجل المعلومات، وأضاف الجنرال فنسنت آر ستيوارت أنّ الحرب الحديثة هي معركة معرفيّة. لكي تكون الحرب ناجحة، يجب أن نسعى جاهدين للسيطرة على المعلومات [2].
تابع الجنرال ستيورت «إنّ الحرب لا تزال، جزئيًّا، صدامًا عنيفًا بين القوى المعادية، حيث تحاول كلّ قوّة فرض إرادتها على الأخرى. وقد يبدو القتال الحربيّ كأنّ جيشين يصطدمان ببعضهما البعض في ساحة المعركة. لكنّ هذه هي طبيعة الحرب ولم تتغيّر. وستبقى الحرب قوّة نشطة لإجبار الخصم، لا أقلّ من ذلك. ولكن في هذه الأيّام، ومع ذلك، فإنّ ساحة المعركة ليست دائمًا صراعاً وقتالاً مادّيًّا. فكثيرًا ما نجد أنفسنا
[1] Kimberly Underwood. Cognitive Warfare Will Be Deciding Factor in Battle The Cyber Edge August 15, 2017. https://www.afcea.org/content/cognitive-warfare-will-be-deciding-factor-battle
[2] Kimberly Underwood.ibid.
نخوض الحروب بطرق ليست حركيّة بحتة. فنحن نواجه تغييرًا آخر في طبيعة الحرب. وببساطة، يجب أن تعرف ماذا تفعل ومتى تفعل ذلك. وإذا كنت لا تتحكّم في المعلومات أو إذا تعطّلت دورة صنع القرار لديك، أو تدهورت قدرتك المعرفيّة، فلن تكون قادرًا على الفوز أو القتال بشكل فعّال» [1].
تابع الجنرال ستيوارت «هناك شعور زائف بالأمن في الحرب. وأحذر من أن يرى البعض أنّ الحرب التي أعددنا لها هي الحرب التي ستواجهنا، لكنّها لن تكون الجولة أو الحرب الأخيرة. «فالحرب الماضية -أو ما يسمّى بحرب الجيل الرابع- كانت تتصف بالحرب اللامركزيّة، ومحاربة الإرهاب، وإنهاء احتكار الدول القوميّة للسلطة. واليوم، تدور حرب القرن الحادي والعشرين حول كسب المعلومات حول ساحة اتخاذ القرار decision space إمّا قبل الصراع أو أثناءه، وهذا ما يميّز حرب الجيل الخامس [2].
أعلن الجنرال ستيوارت أنّ «الأمر يتعلّق بالقتال من أجل المعلومات». ولأجل دعم الحرب المعرفيّة وجمع المعلومات، ونشرها وتوزيعها وحمايتها، يحتاج الجيش إلى شبكة لا يمكن اختراقها. وحاليًّا، الشبكات وأنظمة المعلومات ليست مرنة بما يكفي للنجاة من الحروب
[1] Kimberly Underwood.ibid.
[2] Kimberly Underwood.ibid.
السبرانيّة المستمرّة، فالخصوم المحتملون يستخدمون فضاء المعلومات لشنّ الحرب على المستوى المعرفيّ، والتهديدات لن تختفي؛ لأنّهم يزدادون خطورة. وكي نعمل في مثل هذه البيئة العدائيّة، يجب أن يكون دفاع الشبكة في المستقبل مرنًا وموثوقًا به وزائدًا عن الحاجة، فوظائف الشبكة إذا كانت مثل جدران الحماية التي تعلن عن الهجوم بعد حدوث الضرر ليست فعّالة، ويفوت الأوان بعد تلقّي الإشعار بالهجوم. نحن بحاجة إلى رؤية الخصوم قبل انضمامهم إلى الشبكة، وهذا يتعلّق بحماية كلّ شيء، وأنّ أولئك الذين يربحون المعركة من أجل المعلومات سيفوزون بكلّ شيء»[1].
قبل الجنرال ستيورات نشر خبراء كثيرون أبحاثًا مهمّة ضمن أنشطة البنتاغون الأميركيّ حول مفهوم حرب الجيل الخامس، مثل: المُحلّل العسكريّ راي البرمان، الَذي بنى أبحاثه على «خطط التلاعب الزمانيّ والمكانيّ وإرساء حسّ اللاجدوى لدى المقاومين»، والمحقّق توماس برنت الذي ركّز في العام 2003م على نقطة «تعطيل الوعي»، وذهب إلى «استعمال الأسلحة البيولوجيّة»[2].
[1] Kimberly Underwood.ibid.
[2] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة.. لماذا؟، المصدر: الميادين نت، نشر بتاريخ 30/1/2020م.
إذا كانت أميركا قد احتاجت لحروب عسكريَّة لإرساء النظام الدوليّ الذي تريده، ولكنّها غير قادرة على مكافحة جميع الأخطار بالعنف العسكريّ. وهنا، برزت الحاجة إلى أجيال جديدة من الحروب لإضعاف الجميع أو إخضاعهم، فكانت حروب الجيل الرابع، ومن ثمّ تمَّ تطويرها إلى حروب الجيل الخامس، وبخاصّة بعد أن أثبتت حربا أفغانستان والعراق أنّ التدخّل العسكريّ سجّل فشلًا لا تتحمَّله الولايات المتّحدة مرّة ثالثة. فاستعانت بسلاح جديد هو تكنولوجيا الاتصال وامتلاك المعلومات وهي تتميّز به بتقدّم هائل؛ هذا السلاح يجعل العولمة مسرحًا لما يديره ويوزّعه الأميركيّ من تكنولوجيا ومعلومات، بحيث أصبحت وسائل الاتصال، كما قال المنظّر الأكبر بريجنسكي. «الوسيلة الأولى للهيمنة على العالم»[1].
هكذا تشكَّلت محطّات ارتبطت بتطوّر المفهومين، المحطَّة الأولى هي» حرب يوغوسلافيا»، حيث جرى تطبيق استراتيجيّة تزاوج خطير بين حرب الجيل الرابع والحروب التقليديّة عبر مجريات الاحتجاج الشعبيّ من جهة، وقصف حلف الأطلسيّ للبلاد بعد أن أنهكتها الاحتجاجات من جهة ثانية.
في هذه الحالة، برز بوضوح دور ما سُمّي بـ»بمنظّمات المجتمع المدنيّ غير الحكوميّة» والثورات اللاعنفيّة الملوّنة، التي بدأت على يد
[1] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة، مصدر سابق
طلّاب في جامعة بلغراد، ليظهر بعد انتهاء الأحداث ارتباط هؤلاء الوثيق بوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، ولتصبح المنظّمة التي تم إنشأوها باسم «أوتبور» وشعارها قبضة اليد، دليلًا عالميًّا على الثورات الملوّنة اللاعُنفيّة التي انتقلت كالنار في الهشيم من قارّة إلى أخرى، وهي لا تشتعل إلا لتصبّ في صالح الاستراتيجيّات الأميركيّة، بل وتصرّح أنّ هدفها النهائيّ بعد الدول المُتناثرة هو روسيا والصين.
في خطٍ موازٍ، جاء توظيف الإرهاب وجمعه ودعمه، وإن بشكل غير عَلنيّ، من خلال عدد من المنظّمات التخريبيّة الإرهابيّة، نموذجها الأوضح «داعش» الذي كان تحت الرعاية الأميركيّة.
تمثّلت المحطّة الثانية في حرب أفغانستان. وعلى الرغم من أنَّ وسائل الاتصال الأميركيّة والأجهزة السرّيّة قامت بدورها، فإنّ مفاجأةً واجهت الأميركيّين، ولا سيّما في تورا بورا، وعبَّر عنها وليام ليند الذي كان يرافق الجيش بما أسماه: «مفاجأة القصور المعرفيّ حول طبيعة البلاد»، إضافةً إلى عدم التركيز الكافي على «أهمّيّة الغزو الثقافيّ - النفسيّ» للبلد المستهدف، وتوظيف هذا الغزو في عمليّة «كَسْر الإرادة» [1].
هذا المُعطى تمثّل أكثر في حرب العراق العام 2003م. وهنا كانت الحاجة إلى القوّة العسكريّة الساحِقة ضروريّة (ولكن بعد إنهاء
[1] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة، مصدر سابق
الحصار)، فضلاً عن إيجاد المتعاونين. وهناك تمّ التركيز خلال الحصار وبعد الاحتلال على الغزو الثقافيّ والنفسيّ والتعرّف إلى البلد جغرافيّاً وديموغرافيّاً.
عام 2006م، سُجّلت محطّة أخرى جعلت الباحث الأميركيّ جون روب، الطيّار السابق في وحدة العمليّات الخاصَّة في الجيش الأميركيّ، يحلّل الحال ويركّز أكثر على الغزو الثقافيّ والاتصاليّ، بعدما كُلِّف بدراسة المقارنة بين حرب العصابات وحروب الجيل الرابع، ليصل إلى الاختلاف الجذريّ بينهما، وليبني عليه ضرورة «التركيز على العامل الثقافيّ والمعرفيّ في نقاط قوّة العدوّ، لتحويلها إلى نقاط ضعف يسهل مهاجمتها وإصابتها بخسائر فادحة» [1].
تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظتين، تعود الأولى إلى تاريخ عُلماء الاتصال في الولايات المتّحدة الأميركيّة ودورهم الدائم في خدمة البنتاغون، منذ أن كُلِّف المؤسّس الأوّل هارولد لازويل بإدارة قسم إعلام الحرب العالميّة، وإلى مرحلة حروب العصابات العقائديّة التي شنّها اليسار في الخمسينات والستّينات في وجه الإمبرياليّة الأميركيّة في عدّة مناطق من العالم، وبخاصّة أميركا اللاتينيّة وآسيا (بخاصة فيتنام).
[1] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة، مصدر سابق
يومها، كلّف البنتاغون إيثيل دو سولا بوضع أوَّل استراتيجيّة اتصاليّة لمُكافحة الثورات، فصدرت بعنوان «مُكافحة التمرّد Conter-insurgincy»«، تجنّبًا لاستعمال كلمة الثورات بما تحمله من معنى إيجابيّ ولإحالتها إلى مُجرّد حركات تمرّد. وباختلاف المرحلة، صار لا بدّ للمؤسّسة العسكريّة من إيجاد خطَّة جديدة تمثّلت بحروب الجيل الرابع، ثمّ تمّ تطويرها إلى حروب الجيل الخامس القائمة على المعلوماتيّة والدعاية والإعلام. والتي حدَّد الجنرال ستيوارت بعض خصائصها، وأهمّها:
- قمع الأعداء وحرمانهم من القُدرة على المقاومة، وهي طُرُق تتجاوز الأشكال التقليديّة للنشاط العسكريّ.
- العديد من الدول المستهدفة لا تشكّ حتّى في أنّها تعيش فعلًا حربًا شُنّت ضدّها، حيث يبذل معسكر المهاجمين كلّ ما في وسعه لإنشاء السياق الضروريّ لتدمير النظام المُستهدَف من دون بصمات واضحة.
- أن تكون أنظمة الإنترنت وشبكاتها مُستعدّة للمناورات المناسبة للردّ على تصرّفات أعداء الولايات المتّحدة. وعندها سيكون قطاع التكنولوجيا مساويًا في عمله لدور الدولة.
عام 2009م، أدخل حلف شمالي الأطلسيّ مفهوم حروب الجيلين الرابع والخامس كمفهوم استراتيجيّ في عمليّات الأطلسيّ، وذلك ما تنبَّه إليه الروس، فأعلنوه عبر «سبوتنيك»، وعقدوا مؤتمرًا خاصًّا حوله في وزارة الدفاع تحت عنوان «الجوانب السياسيّة والعسكريّة للأمن الأوروبيّ»، ركَّزوا فيه على ما حصل في أوكرانيا وجورجيا، وما حصل في بلدان الربيع العربيّ [1].
عام 2012م، عقد ماكس مانورينغ، الأستاذ الباحِث في الاستراتيجيّة العسكريّة الأميركيّة، ندوةً في معهد دراسات الأمن القوميّ الإسرائيليّ، قال فيها: «الحرب تحصل بالإكراه والقتال كما اعتدنا، ولكنّها قد تحصل بشكل غير قاتل، كما هو الجيل الجديد من الحرب. حيث تُستخدم كلّ الوسائل لجعل دولة مستهدفة ضعيفة ومنهكة تستجيب للنفوذ الخارجيّ. فإذا حصل ذلك بطريقة جيّدة وببطء كافٍ، واستخدمت مواطني الدولة العدوّ، فسيستيقظ عدوّك ميتًا [2].
2. عقيدة مكافحة التمرّد:
يُعرّف الجيش الأميركيّ منذ العام 2006م عقيدة مكافحة التمرّد (COIN) Counterinsurgency بأنّها مجموعة إجراءاتٍ عسكريّة ومدنيّة تستهدف هزيمة القوى غير النظاميّة. فيما ُتعرّفها وزارة الخارجية الأميركيّة بأنّها مكافحة الشغب، وهي جهود مدنيّة وعسكريّة شموليّة تُتخذ لمواجهة التمرّد ومكافحته ومعالجة أسبابه الجذريّة في
[1] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة، مصدر سابق
[2] حياة الحويّك عطيّة، حروب الأجيال الجديدة، مصدر سابق
وقت واحد. والشغب هو حركة تمرّد ضدّ السلطة عندما لا يُعترف بالمشاركين في الشغب على أنّهم مقاتلون» [1].
تُعرِّف عقيدة حلف الناتو NATO مكافحة التمرّد بأنّها «جهود مدنيّة وعسكريّة شاملة تُبذل لهزيمة جيش التمرّد ومعالجة المظالم الأساسيّة. حيث يسعى المتمرّدون إلى إجبار من هم في السلطة على التغيير السياسيّ، غالبًا من خلال استخدام القوّة أو التهديد باستخدام القوّات أو الجماعات أو الأفراد غير النظاميّين. لا يجب على مناهضي التمرّد تطوير حلول قصيرة المدى فقط لتوفير الأمن للسكّان المستهدفين وتغيير السلوكيّات التخريبيّة، بل يجب عليهم أيضًا تحديد مصادر الاضطرابات وعدم الرضا الذي يغذّي التمرّد. يقوم مكافحو التمرّد بعمليّات طويلة الأمد للقضاء على مصادر الاضطرابات هذه، قد يتطلّب هذا الأمر تحسين الحوكمة والتطوير في الاقتصاد، أو استعادة الخدمات الأساسيّة، هذه المهام تتطلّب مشاركة الوكالات المدنيّة ذات الصلة، على حدّ سواء المحلّيّة والدوليّة[2].
وفق هذه العقيدة، التي كان قد عمل على تطويرها مبتكرون عسكريّون في خمسينيّات القرن الماضي، كالماريشال البريطانيّ السير
[1] ماكس بوت، الولايات المتّحدة ما زالت في حاجة لاستراتيجيّة مكافحة التمرّد، الثلاثاء 13 يوليو 2021م، موقع جريدة الشرق الأوسط.
[2] https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/pdf_2017_09/20170904_1709-counterinsurgency-rc.pdf
جيرالد تمبلر في مالايا، والعميل السرّيّ الأميركيّ إدوارد لانسديل في الفيليبين، فإنّ القوى العسكريّة لا يمكنها إلحاق الهزيمة بحالات التمرّد، بمجرّد القضاء على المتمرّدين. وقد يفضي القتل العشوائيّ في واقع الأمر إلى زيادة الأعداء بدلًا عن تقليص عددهم. أمّا الطريق إلى تحقيق الهدف، بحسب «عقيدة مكافحة التمرّد COIN فيتمثّل في إرساء الأمن وتقديم الخدمات الأساسيّة للناس العاديّين. ومن شأن هذا النهج أن يساعد عمليّات مكافحة التمرّد على كسب ثقة الناس، وأن يضاعف احتمالات جمع معلوماتٍ استخباريّة حيويّة ضروريّة للقضاء على المتمرّدين المتشدّدين أو اعتقالهم من دون إلحاق ضررٍ بمدنيّين أبرياء [1].
3. حرب الأفكار:
وهي التسمية الأكثر قربًا من مفهوم الحرب الناعمة، رغم أنّها مصطلح قديم، أعاد استخدامه معهد راند البحثيّ الدفاعيّ الأميركيّ في دراسته فائقة الأهمّيّة «مستقبل الحرب الطويلة- الدوافع والتوقّعات وآثارها على الجيش الأميركيّ»، متحدّثًا عن الانتقال إلى الحملات القائمة على المعلومات؛ بهدف عزل الجهاديّين وبنيتهم التحتيّة عن الشريحة العريضة من سكّان العالم المسلمين، مؤكدًا أنّ استراتيجيّة الاحتواء ستكون الاختيار الأفضل لمسار حرب الأفكار، حيث إنّ الحملة الفكريّة ستكون مثاليّة ومنخفضة التكلفة وأداة غير مرئيّة[2].
[1] ماكس بوت، مصدر سابق
[2] كشف مستقبل الحرب الطويلة، معهد راند، 2016م، ص 64.
تتابع الوثيقة «إنّ رؤية» حرب الأفكار تفترض أنّ استراتيجيّة الولايات المتّحدة للحرب الطويلة، ستتحوّل بشكل كبير نحو توظيف وسائل غير حركيّة، ويرى قادة الولايات المتّحدة أنّ الحرب الطويلة يجب أن تكون مجهودًا معلوماتيًّا في الأساس؛ بهدف عزل الجهاديّين وبنيتهم التحتيّة بشكل متزايد عن عموم الشعوب المسلمة في العالم، نتيجة لذلك، يعمل قادة الولايات المتّحدة على تجنّب الأعمال العسكريّة المباشرة في منطقة الشرق الأوسط والخليج الفارسيّ والتي قد تُغضِب المسلمين المعتدلين في المنطقة، ويتمّ تأجيل خطط مواجهة إيران عسكريًّا في موضوع برنامجها النوويّ في الوقت الراهن، وتكون الدبلوماسيّة الشعبيّة، وعمليّات المساعدات الإنسانيّة، والمساعدات الخارجيّة الموجّهة، والاتصالات الاستراتيجيّة هي الأدوات الرئيسة المستخدمة[1].
في مستقبل «حرب الأفكار»، تُشكّل الأيديولوجيّة ساحة القتال الرئيسة، وفي هذا المستقبل لن تنخرط الولايات المتّحدة في معارك عسكريّة كبيرة الحجم، ولكن بدلًا عن ذلك ستركّز على الحدّ من نشر الفكر المتطرّف وانتشاره. وعلى الرغم من أنّ معظم أجزاء «حرب الأفكار» ستنفّذ من خلال الوكلاء، إلا أنّه لا يمكن للولايات المتّحدة أن تخفي مشاركتها فيها. وبالتالي -ومن أجل إحراز تقدّم في المنهج الفكريّ- يجب أن يرى العالم الإسلاميّ أنّ الولايات المتّحدة تتمتّع بمستوى مرتفع نسبيًّا من الشرعيّة الدوليّة[2].
[1] كشف مستقبل الحرب الطويلة، المصدر نفسه.
[2] كشف مستقبل الحرب الطويلة، المصدر نفسه.
4. الحرب الهجينة:
الحرب الهجينة هي عبارةٌ عن نشاطاتٍ خفيّةٍ أو قابلةٍ للإنكار، تدعمها قوّاتٌ تقليديّةٌ أو غير تقليديّة (نوويّة)، بغرض التأثير على السياسة الداخليّة في البلدان المستهدَفة[1].
5. الحرب الإلكترونيّة والسيبرانيّة:
الحرب السيبرانيّة أو Cyber Warfare هي حرب غير معلنة، وهي من أبرز معالم الصراعات السياسيّة والتجاريّة بين الدول. فقد بات من الصعب تخيّل صراع عسكريّ اليوم من دون أن يكون لهذا الصراع أبعاد إلكترونيّة سيبرانيّة، وأصبحت في صلب اهتمامات الأنظمة الدفاعيّة لأيّ صراع يمكن أن يطرأ في المستقبل[2].
من الناحية النظريّة، فإنّ فعل الحرب الإلكترونيّة يعني الأنشطة الخبيثة من خلال شبكة الإنترنت المدعومة من دولة ما، والتي تستهدف البنى التحتيّة أو المنشآت والمؤسّسات الحكوميّة والشبكات الصناعيّة والبحوث، وهي قادرة على تعطيل البنية التحتيّة الحيويّة مع الحدّ من خطر اندلاع صراع أو حرب جيوسياسيّة. إلاَّ أنّ أجهزة الاستخبارات
[1] أندرو رادِن Andrew Radin الحرب الهجينة في منطقة البلطيق التهديدات والاستجابات المُحتمَلة، 2017م معهد راند rand. ص 11- 15.
[2] الحروب السيبرانيّة الصامتة والمدمّرة... طريق إيران لقياس قوّتها؟، نايلة صليبي، نشر في 26-11-2020م، النهار العربيّ.
الحكوميّة لا تقف دائمًا وراء الهجمات التي تقوم بها مجموعات تُعرف باسم التهديد المستمرّ المتقدّم (Advanced Persistent Threat)؛ وبسبب العلاقة الهشّة بين هذه المجموعات وبعض الحكومات، فإنّ الحدود بين التجسّس الدوليّ والجرائم الإلكترونيّة التقليديّة، باتت مبهمة وغير واضحة، وبالتالي لا يمكن لخبراء الأمن التأكّد بشكل حاسم من دعم دولة ما للهجمات. ويصعب تحديدها بـ»درجة اليقين» (نموذج الهجمات الصينيّة والروسيّة على الشبكات والمواقع الأميركيّة والعكس يصحّ).
6. الحرب البيولوجيّة:
الحرب البيولوجيّة أو الجرثوميّة أو الميكروبيّة هي الاستخدام المتعمد للجراثيم أو الميكروبات أو الفيروسات بهدف نشر الأمراض والأوبئة الفتّاكة، بما ينجم عنه في المحصّلة حصد أعداد كبيرة من البشر وإبادتهم وإفناء الكائنات وتدمير الحياة في نطاق معيّن، وهي بذلك تعدّ أحد أنواع أسلحة الدمار الشامل، فالسلاح البيولوجيّ يقصد به جميع الوسائل والمسبّبات التي تستخدم لنشر الأمراض والأوبئة في صفوف القوّات المعادية للقضاء عليها أو على الأقلّ التأثير سلبًا على كفاءتها القتاليّة.
بهذا المعنى، الحرب البيولوجيّة هي الحرب الصامتة الباردة دون سلاح مادّيّ، ولا انفجارات ولا شظايا ولا دخان، حرب لا تخلف وراءها آثار تدمير مادّيّ في المباني والمنشآت، بل المعنيّ بها هو الإنسان والجماعات البشريّة بإفنائها وإبادتها؛ إذ يمكن هزيمة إرادة دول وكسرها أو التحكّم فيها أو تهديدها أو ابتزازها سياسيًّا أو اقتصاديًّا بالتهديد به أو استخدامه جزئيًّا أو كلّيًّا، وهي أبشع أنواع الحروب[1].
7. الحرب الصامتة silent war
من المهمّ فهم الفلسفة الكامنة في طبيعة القدرات المعلوماتيّة والإلكترونيّة؛ نظرًا لأنّ الجهات الفاعلة في البلدان الشرقيّة والغربيّة لها نظرة مختلفة. فالعمليّات السيبرانيّة التي يتمّ إجراؤها من الغرب تابعة للحكومات والجيوش، بينما في الشرق هم في الغالب لاعبون غير حكوميّين وقراصنة. النقطة المهمّة هي عدم وجود صلة مثبتة بكيان حكوميّ، ممّا يسمح بالإنكار المعقول. ولفهم طبيعة هذا الصراع، يجب البدء بالأساسيّات لفهم دور الأمن السيبرانيّ في بيئة الأمن العالميّة اليوم. كانت الجماعات المتطرّفة والإرهابيّون والمنظّمات الإجراميّة ووكالات الاستخبارات والأنظمة العسكريّة لعقود من الزمن أكثر التهديدات ضررًا في العالم، أمّا اليوم تراجعت هذه الأسلحة والموارد لصالح حروب أكثر صمتًا وأكثر فتكًا بشبكات الاتصالات وأنظمة المعلوماتيّة التي تشغل البنية التحتيّة للاقتصاد والمجتمعات، والطاقة، والمنشآت الحكوميّة، والخاصّة.
[1] أيمن النحراويّ، مدخل إلى الحرب البيولوجيّة، نشر في 22/3/2020م، موقع الشروق.
8. الحروب بالوكالة The proxy War
يشير مفهوم الحرب بالوكالة إلى تنافس قوى كبرى (إقليميّة أو دوليّة) على النفوذ في منطقة ما أو في العالم وتحاول هذه القوى أن تتجنّب حروبًا مباشرة بينها، فتبدأ في زيادة نفوذها من خلال التدخّل في بعض الدول الأصغر والتي تمثّل لها قيمة استراتيجيّة أو جغرافيّة أو اقتصاديّة، أو تقوم بدعم بعض الجماعات أو الأحزاب السياسيّة لإسقاط أنظمة معادية لها، أو موالية لأعدائها. بحيث تتولّى الدول المعنيّة بهذا الصراع تأمين الرواتب وتمويل الإنفاق العسكريّ للأطراف المتنازعة وتقديم الأسلحة وربّما الإسناد اللوجستيّ والمعلوماتيّ.
تبدو الاستراتيجيّات العسكريّة القائمة على المشاركة في الحروب بالوكالة، جذّابة نوعاً ما بالنسبة «للدول التي تحاول تجنّب التكاليف العالية من الناحية البشريّة والاقتصاديّة التي تترتّب عن المشاركة المباشرة في النزاعات المسلّحة»، وهناك الكثير من الحروب التي خاضتها دول صغيرة ولا زالت تخوضها كانت حروبًا بالوكالة عن الأطراف الكبرى، منذ الحرب الكوريّة - الكوريّة ثمّ حرب فيتنام والحرب في أفغانستان والعديد من صراعات أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة [1].
يرى الباحثون أنّ بروز أعراض «الدولة الفاشلة» في مناطق عدّة من العالم في السنوات الأخيرة قد ارتبط بتأثير عامل الحرب بالوكالة. وهناك
[1] كيف يمكننا فهم استراتيجيّة الحرب بالوكالة؟، تراجان شيبلي، نشر في 24/10/2017م، موقع نون بوست.
تفسيرات عدّة لانتشار حالات الحرب بالوكالة في منطقة الشرق الأوسط تحديدًا، فيرى بعض المتخصّصين أن تفشّي هذه الحالة يعكس رغبة القوى الإقليميّة والدوليّة في إعادة «هندسة» جيوبوليتيك السياسيّة الإقليميّة وفقًا لمتغيّرات المشهد الاستراتيجيّ الراهن [1].
9. حرب اللاعنف أو التحرّكات غير العنفيّة/ الثورات الملوّنة
تطلق أميركا في معاهدها وخاصّة معهد السلام USIP ومن خلال منشوراتها ووثائقها مصطلح «التحرّكات اللاعنيفة أو اللاعنف» على التحرّكات الاحتجاجيّة التي تستهدف التغيير السياسيّ لنظام سياسيّ ما، وهي قد أسّست معاهد لهذه الغاية تعمل تحت رعايتها، مثل معهد العمل والاستراتيجيّات التطبيقيّة اللاعنفيّة في صربيا CANVAS، في حين يطلق خصوم أميركا على هذه التحرّكات مصطلح «الثورات الملوّنة»؛ نظرًا لاتخاذها شعارات وأعلامٍ ورموزٍ متشابهة وموحّدة في كلّ دولة.
ينصّ معهد السلام الأميركيّ USIP الصادر عام 2018م، تحت عنوان: «تحقيق التظافر بين التحرّك غير العنيف وبناء السلام» على أنّ «االتحرّك غير العنيف كناية عن أسلوب يقوم على إحداث التغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تتضمّن تكتيكات المعارضة، واللاتعاون،
[1] سامي بيّومي، الحروب بالوكالة: هل تتحوّل إلى سمة مميـّـزة للقرن الحادي والعشرين؟، نشر في 1/2/2016م، مجلّة درع الوطن الإماراتيّة.
والتدخّل، المصمّمة في سبيل تغيير موازين القوى في نزاع محدّد من دون التهديد باللّجوء إلى العنف أو اللجوء إليه فعليّاً. وتصنّف هذه الأساليب على أنّها غير عنيفة؛ لكونها لا تشمل التهديد ولا تُبنى على استخدام التهديد أو القوّة المؤذية للغير. كما يعرّف التحرّك غير العنيف أيضًا «بسلطة الشعب» و»المقاومة المدنيّة» والعمل المباشر غير العنيف»[1].
عن أساليب التحرّك غير العنيف تنصّ الوثيقة على الآتي «تقوم بعض الأساليب على معارضة هيكليّة السلطة الحاليّة أو الإخلال بها أو تعطيل عملها، في حين تقوم أساليب أخرى على مكافأة هذه الهيكليّة أو إقامة بديل عنها يستند على بعض أساليب معارضة النظام من خلال التظاهرات الرمزيّة أو مقاطعة الاستهلاك في حين يستند بعضها الآخر على بناء السلطة من خلال توفير الخدمات والحوكمة. وفي عام 1972م رصد جين شارب Gene Sharp ما يصل إلى 198 أسلوبًا للتحرّك غير العنيف على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ [2].
10. القدرة على الإرغام
يُعّرف مركز راند لأبحاث الدفاع، التابع لوزارة الدفاع والجيش
[1] تحقيق التظافر بين التحرّك غير العنيف وبناء السلام، للكاتبان: نادين بلوك وليزا شيرش، 2018م، موقع معهد USIP. ص، 8- 10.
[2] تحقيق التظافر بين التحرّك غير العنيف وبناء السلام، مصدر سابق.
الأميركيّ، القدرة على الإرغام بالآتي: «قد تجد الولايات المتّحدة أنّ استخدام القوّة العسكريّة لمواجهة التهديدات العديدة والمتنوّعة للأمن الدوليّ، والتي ستظهر خلال السنوات القادمة، بات يتّصف بصعوبةٍ وكلفةٍ وخطورةٍ متزايدة. وربّما لا يكون هناك بديلٌ عن القوّة العسكريّة في بعض الظروف، ولكنّ المشرّعين الأمريكيّين يحتاجون إلى خياراتٍ غير عسكريّةٍ أفضلَ ينتقون من بينها إجراءاتٍ مثل الدبلوماسيّة الحاذقة، والمساعدة الاقتصاديّة الفعّالة، ونشر الأفكار والمُثُل الأمريكيّة، كلُّها جيّدةٌ بالفعل، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها لهزيمة العدو، بل ولا حتّى لردع المعتدين العازمين على العدوان. إنّ هدف هذه الاستراتجيّة دراسة الفسحة الواقعة بين حدَّي القوّة العسكريّة الصلبة والقوّة الناعمة واستكشافها، وهي الوسائل غير العسكريّة لإرغام أولئك الذين يهدّدون السلام والأمن والمصالح الأمريكيّة وإضعافهم ومعاقبتهم» [1].
11. استراتيجيّة المنطقة الرماديّة
هي استراتيجيّة خصوم أميركا وأعدائها بالأصل، وهي حرب تزعم الإدراة الأميركيّة أنّ خصومها ومنافسيها يستخدمونها ضدّها لتقويض زعامتها الدوليّة، وأنّها تتعامل معها باستراتيجيّة مضادّة لإفشالها ومنعها من تحقيق أهدافها.
[1] تحقيق التظافر بين التحرّك غير العنيف وبناء السلام، المصدر نفسه، ص 15.
تقول دراسة صادرة عن معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى «إنّ دول مثل إيران وروسيا والصين، غالبًا ما تعمل في المنطقة الرماديّة التي تكمن ما بين الحرب والسلام من أجل تحدّي الوضع الراهن وإدارة المخاطر في الوقت نفسه. أنَّ هذه الدول تحيط أهدافها بالضبابيّة من خلال ممارسة أفعال تدريجيّة والإسناد من خلال استغلال أنشطة وكيلة أو سرّيّة قابلة للإنكار، ممّا يخلق حالة من عدم اليقين حول كيفيّة الردّ.
يُعزى جزئيًّا سبب انتشار صراعات المنطقة الرماديّة في جميع أنحاء العالم، إلى التزام الولايات المتّحدة بمفهومٍ ثنائيّ للحرب والسلام. وإذ تتجذّر هذه الازدواجيّة في التقاليد الثقافيّة والقانونيّة الغربيّة، فهي تتيح لجهات فاعلة، مثل إيران، العمل بينما تكون محصّنةً نسبيًّا من العقاب «ما بين حالتي الحرب والسلام».[1].
يعرّف مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) استراتيجيّة المنطقة الرماديّة بأنّها «تقييم ومواجهة الأساليب البديلة التي يعتمدها من أسمتهم أميركا بـ «المنافسين» والتي تقول إنّهم يتحدُّون قيادتها إضافة لقواعد النظام الدوليّ، والتي يهدفون من خلالها إلى تهديد المصالح الأمريكيّة لكن دون تصعيد، مستخدمين أدوات غير عسكريّة
[1] مايكل آيزنشتات، العمل في المنطقة الرماديّة لمواجهة إيران، نشر في 18 سبتمبر 2019م، معهد واشنطن.
نظرًا للتكاليف العالية للعمليّات القتاليّة. ويشير بعض العلماء إلى اسم هذه الساحة المتنازع عليها بين السلام والحرب بالمنطقة الرماديّة» [1].
ابتداءً من العام 2016م، أعدّ أكاديميّون من مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) دراسة حول «المنطقة الرماديّة» في إطار برنامج بحثيّ مركَّز لتحسين قدرة الولايات المتّحدة على ردع هذه التهديدات ومكافحتها والردّ عليها، وذلك من خلال سلسلة من الدراسات لتقييم التحدّيات الراهنة المتعلّقة بالمصالح الأمنيّة الأمريكيّة من الصين وإيران وروسيا.
ـ أدوات المنطقة الرماديّة
1. عمليّات المعلومات والتضليل.
2. الإكراه السياسيّ.
3. الإكراه الاقتصاديّ.
4. العمليّات السيبرانيّة.
5. العمليّات الفضائيّة.
6. القوّات الوكيلة.
7. الاستفزازات من قبل القوّات التي تسيطر عليها الدولة.
[1] للتوسّع، يراجع: دراسة نشرها موقع يفيد - اتحاد الفضائيّات الإسلاميّة حول استراتيجيّة المنطقة الرماديّة.
12. الحرب الطويلة:
في وثيقة نشرها معهد راند البحثيّ وصف الحرب الطويلة بأنّها «حرب ضدّ أعداء ليسوا دولًا قوميّة، ولكنّهم شبكات غير نظاميّة متفرّقة وحركات عابرة للحدود -عالميّة- تتكوّن من المنظّمات والشبكات المتطرّفة، ومموّليهم الحكوميّين وغير الحكوميّين، ويشتركون جميعًا في استغلال الإسلام واستخدام الإرهاب لتحقيق أهداف أيديولوجيّة» [1].
وحدّدت الدراسة عدّة فئات، وما يهمّنا منها الفئة الثالثة، وهم حسب الدراسة «الأعداء القوميّون الدينيّون، مثل حزب الله وحماس، وهم على استعداد لاستخدام العنف -ضدّ قومهم أحيانًا- للسيطرة على مجتمع أو منطقة أو دولة معيّنة» [2].
تحدّثت الدراسة عن ثمانية مسارات واستراتيجيّات للحرب الطويلة، من أهمّها: حرب الأفكار، وفرّق تسد، واستغلال الانقسامات بين الشيعة والسنّة وبين التنظيمات الجهاديّة العالميّة والمحلّيّة، وحرب المعلومات، ودعم الحوكمة والرشادة في الحكومات الإسلاميّة.
13. حرب الوعي
مصطلح حرب الوعي صناعة صهيونيّة، استخدم في الآونة الأخيرة،
[1] كشف مستقبل الحرب الطويلة، معهد راند، صادر عام 2016م، ص 55- 57.
[2] كشف مستقبل الحرب الطويلة، المصدر نفسه، ص 56.
وسبقه استخدام مصطلح كيّ الوعي، وكان يقوم على تدمير البيوت والسحق المادّيّ للمنشآت والردّ السريع بهدف كيّ وعي الفلسطينيّين وغيرهم.
أمّا مصطلح حرب الوعي، فقد انتشر قبل سنوات، وفي دراسة له حول الحرب النفسيّة والتأثير على وعي الخصم في الحروب المعاصرة، خلص اللواء غابي سيبوني (خبير عسكريّ في معهد أبحاث الأمن القوميّ التابع لجامعة تل أبيب، والقائد السابق في لواء غولاني)، إلى القول: «إنّ إسرائيل تريد من معركة الوعي «توجيه الخطاب المباشر للجماهير في الدول والكيانات المعادية، بما في ذلك استهدافها من خلال شبكات التواصل الاجتماعيّ، إلى جانب الأنشطة العسكريّة التقليديّة» [1].
تتمّ هذه المعركة -وفق سيبوني- من خلال مجموعة متنوّعة من العمليّات العلنيّة والسرّيّة التي يقوم بها الجيش الإسرائيليّ للتحريض وإثارة النعرات، في أثناء مخاطبة الجماهير المستهدفة في المنطقة والعالم؛ لتبرير أيّ خطوات عسكريّة قد تنفّذها إسرائيل ضدّهم في المستقبل. وهو يثني على «الدور الكبير الذي يقوم به المتحدّثون باسم الجيش الإسرائيليّ، من خلال أنشطتهم على شبكات التواصل الاجتماعيّ الناطقة باللغة العربيّة، للوصول إلى مختلف الفئات المستهدفة في
[1] إحسان مرتضى، الحرب الإسرائيليّة على الوعي العربيّ وتداعياتها، موقع الجيش، العدد 401 - تشرين الثاني 2018م.
الدول المعادية»، مشيرًا إلى أنّ الحرب على الوعي ليست جديدة، بل هي جزء من حروب العصور القديمة. فضرب الوعي والروح المعنويّة، إنّما هو مقدّمة استباقيّة للضربة القتاليّة العسكريّة ضدّ الخصم، ما يعني أنّ المعركة الميدانيّة يجب أن تتداخل وتتكامل مع عمليّات الحرب النفسيّة الرامية إلى التأثير على عقل العدوّ وعزيمته [1].
الدراسة التي شارك في إعدادها غال فينكل (خبير إسرائيليّ في حروب السايبر، وباحث في مجال العلوم الأمنيّة، وضابط سابق في سلاح المظلّيّين)، قسّمت معارك الوعي إلى ثلاث فئات:
أوّلها: عمليّات سرّيّة، وتعني شنّ إسرائيل الحرب على عدوّها من دون علمه.
ثانيها: الدعاية الكاذبة.
ثالثها: شنّ الحرب المباشرة على وعي العدوّ، كاستخدام الإعلانات والدعايات والإشاعات المفبركة والرسائل النصّيّة المدروسة.
يقول فينكل: إنّ شنّ إسرائيل لهذه الحروب يتطلّب توفير كمّ متراكم من المعلومات الاستخباريّة، وإجراء البحوث الأمنيّة والاجتماعيّة حول الجماهير المستهدفة، كي لا تشكّل خطرًا مستقبليًّا عليها، كما يتطلّب توافر مهارات متقدّمة في علم النفس وتحليل ثقافة الجماهير ونفسيّتها في الدول المعادية، حتّى يصبح من المجدي شنّ حملات تؤثّر على مجموعة واسعة من الجمهور المعادي. وهذا ما يدفع الجيش الإسرائيليّ إلى الاستعانة بمتخصّصين وخبراء، علمًا أنّ معارك الوعي التي تشنّها إسرائيل في المنطقة تشمل ثلاث مراحل، قبل الحرب، وخلالها، وبعدها، وهذه المراحل جميعها ترفد المعركة وتدعمها في ميدان القتال.
[1] كشف مستقبل الحرب الطويلة، مصدر سابق.
تستند فلسفة هذه الحرب، من ضمن عناصر متعدّدة، إلى أنّه بعد فشل الخيارات والرهانات على التخلّص من تهديد حزب الله، وجدت قيادة العدوّ نفسها أمام خيارات ضيّقة ومحدودة. فلا هي قادرة على التسليم بواقع تعاظم قوّة حزب الله على جميع المستويات العسكريّة والتكنولوجيّة والسياسيّة... وليست مستعدّة للمبادرة إلى مغامرات عسكريّة، أصبحت أكثر إدراكاً أنّ تداعياتها على الأمن القوميّ الإسرائيليّ، ستكون أكبر من أن تطاق، وأبعد ما ستكون عن تحقيق الجدوى المؤمّلة منها.
في ضوء هذه القيود، اختارت قيادة العدوّ الحرب على الوعي، كخيار بديل ومواز للحرب العسكريّة، وفي الوقت نفسه كجزء من «المعركة بين الحروب» التي تهدف إلى محاولة تجريد المقاومة من جمهورها، وتحويلها إلى كيان غريب في بيئتها وتقديمها على أنّها المسؤولة عن المعاناة التي يشهدها لبنان. وممّا يميّز الحرب على الوعي التي يشنّها كيان العدوّ، أنّها حركة متواصلة ومتعدّدة المسارات والتكتيكات والأساليب، وتحاول الاستفادة من أيّ مستجدّ تنتجه ديناميّات الواقع، أو أن يكون لها دور في إنتاجه. وهي موجّهة إلى المستويات كافّةً، بدءًا من الجمهور مرورًا بالنخب، وصولًا إلى قيادات الصفّ الأوّل. مع ذلك، لا يستطيع كيان العدوّ تجاهل حقيقة أنّ هذه الحرب واجهت العديد من الإخفاقات في التأثير على جمهور المقاومة. ولم يكن إعلان نتنياهو من على منبر الأمم المتّحدة، عن مخزن صواريخ لحزب الله في منطقة سكنيّة في منطقة الجناح، سوى جولة فاشلة في سياق هذه الحرب، طالت تداعياتها صدقيّة المؤسّستين الاستخباريّة والسياسيّة في كيان العدوّ. وتحوّلت في المقابل إلى إنجاز نوعيّ لحزب الله في هذه المعركة المتواصلة [1].
14. حرب الظلّ
يعرّفها الباحث الأميركيّ مارك مازيتي في كتابه «حروب الظلّ- الحروب السرّيّة الأميركيّة الجديدة» بأنّها لجوء الأجهزة الأميركيّة بعد عمليّة 11 أيلول إلى نوع جديد من الحروب لمواجهة التطرّف الإسلاميّ، وهي حرب خفيّة تحدث في الظلّ وعن بعد، وبدلًا من الحروب التي تكلّف الكثير من المال والأرواح، فقد اختارت الأجهزة الأميركيّة عناصر مدُربّة لتنفيذ عمليّات عن بُعد، من خلال طائرات بدون طيّار، وعمليّات خاصّة[2].
[1] علي حيدر، توصيات «حرب الوعي» الإسرائيليّة: حزب الله سبب معاناة لبنان، الأخبار، الخميس 22 تشرين الأوّل 2020م.
[2] مارك مايزتين حروب الظلّ- الحروب السرّيّة الأميركيّة الجديدة»، ـترجمة أنطوان باسيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1، 2015م.
حروب الظلّ.. تعبير يُطلق عادة على تلك النوعيّة من استخدامات القوّة التي تجريها أجهزة المخابرات من أجل تحقيق أهداف سياسيّة منها أحيانًا تأجيل لحظة المواجهة الشاملة أو منعها تمامًا من ناحية أخرى. إلاّ أنَّ المفهوم يستخدم وبشكل متزايد عند الحديث عن حالات من الصدام العسكريّ التى تركّز على إعلان المصداقيّة فى التهديد أو إرسال الرسائل التي تفيد بأنّ المواجهة الشاملة ستكون مؤلمة لجميع الأطراف أو لخدمة عمليّات تفاوضيّة جارية بالفعل. الأمثلة الجارية حاليًّا فى منطقتنا تتجلّى في ثلاثة حروب للظلّ:
1. إسرائيل وإيران فى سوريا.
2. الولايات المتّحدة وإيران فى العراق.
3. إسرائيل والقوى الفلسطينيّة فى القدس وغزّة [1].
[1] عبد المنعم سعيد، حروب الظلّ، موقع الأهرام.
خلاصة المطلب ومناقشته:
من خلال دراسة المصطلحات والمفاهيم السابقة، يظهر لدينا أنّها ليست على نظام وشكل واحد من الحروب، فهناك أصناف وأشكال مختلطة، تأخذ جانبًا من القوّة الصلبة، وجانبًا من القوّة الناعمة.
ويُستنتج من خلال استقصاء العناصر المشتركة لهذه النماذج الآتي:
1. تشترك هذه الحروب جميعها بأنّها تحاول تجنّب الحروب العسكريّة؛ نظرًا لارتفاع كلّفتها البشريّة والمادّيّة والمعنويّة.
2. تشترك هذه الحروب بخاصّيّة السرّيّة، فالأصل هو عدم كشف هذه العمليّات إلا للضرورة؛ تجنّبًا للتبعات القانونيّة والسياسيّة وسرّيّة المصادر المعلوماتيّة.
3. تشترك هذه الحروب باستخدام أدوات غير عسكريّة سواء كانت أدوات إعلاميّة أو ثقافيّة أو دبلوماسيّة أو أمنيّة أو سيبرانيّة أو نصف صلبة لكن غير مرئيّة (بيولوجيّة).
4. تشترك أغلب هذه الحروب بدمج القوّة الاقتصاديّة لخدمة الأهداف السياسيّة والعسكريّة.
5. تلعب المعلومات دورًا مركزيًّا في جميع هذه الحروب، يضاف إليها استخدام شبكات السايبر.
6. الوعي البشريّ هو العنصر المركزيّ الذي تعمل عليه هذه الحروب.
7. المجتمعات والبيئة عناصر مهمّة لتقويض المنظّمة أو النظام المستهدف وشرط لنجاح هذه الحروب وفشلها.
8. تلعب المنظّمات غير الحكوميّة NGOS والأطراف المحلّيّة دورًا مهمًّا في هذه الحروب.
بناءً عليه، تعكس هذه العناصر حقيقة أنّ الحرب الناعمة وفق التطبيق الأميركيّ هي عمليّة تجميع لعدد من العناصر والنماذج بما يتناسب مع كلّ حالة وبصورة تختلف من دولة إلى دولة، ومن منظّمة وجهة إلى أخرى، وهذا الأمر منطقيّ وطبيعيّ، وهي تعتمد على دراسة موارد الخصم والعدوّ المستهدف وإمكاناتهما، والأرض التي ينتشر عليها جغرافيًّا وبشريًّا، والمهارة في اختيار الأساليب الفاعلة ضدّه، سواء كانت ناعمة أو صلبة، أو مختلطة سمّيت بالحرب الذكيّة، وحساب الجدوى والكلفة من الخسائر والأرباح وفق ميزان المخاطر، والبرمجة الزمنيّة المتوقّعة والأضرار الجانبيّة.
خامسًا. تأصيل مفهوم الحرب الناعمة وفق أدبيّات الإمام الخامنئيّ (دام ظله)
بعد عرض أشكال الحروب المتشابهة أو المتقاطعة ونماذجها مع مفهوم الحرب الناعمة، خاصّة أنّ أميركا لم تتبنّ أو تعلن عن مفهوم أو استراتيجيّة متكاملة تحت اسم الحرب الناعمة وعنوانها، فهي لا تزال تسمّيها القوّة الناعمة، ويطلق خبراؤها على الحروب تسميات أخرى كما ذكرنا في الفقرة السابقة.
إنّ استقصاء مجموعة المفاهيم والمصطلحات والإجراءات والدراسات والممارسات والتطبيقات الميدانيّة منذ دخول أميركا إلى العالم الإسلاميّ تحت ذريعة مكافحة الإرهاب منذ العام 2001م إلى العام 2021م، تمكّننا من استنباط ما يوافق مفهوم الحرب الناعمة ويؤكّدها كما وصفها وحدّد أصولها وخصائصها وأهدافها الإمام الخامنئيّ (دام ظله) منذ عام 2009م[1]، ولذك لا يعنينا التوقّف كثيرًا عند التسميات الأميركيّة، بل ما يعنينا هو فهم أصول هذه الحرب وخصائصها والتهديدات الناجمة عنها التي تمسّ جبهتنا ومجتمعنا وأمننا، والسبل التي تمكّننا
[1] يراجع للتوسّع: دراسة منشورة تحت عنوان: الحرب الناعمة - معالم رؤية الإمام الخامنئيّ a، إعداد وإصدار: مركز الحرب الناعمة للدراسات، بيروت، ط1، 2014م.
من المواجهة وتحقيق الانتصار. وقد تحدّث الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في عشرات الخطابات عن هذه الحرب، نلخّصها بما يلي:
1. أصل السرّيّة والإنكار:
من أولى الخصائص وفق أدبيّات الإمام الخامنئيّ (دام ظله) وخطاباته هو خاصّيّة الغموض والسرّيّة، وتسرّب عنصر الإنكار أو التشكيك لدى البعض حول ماهيّة وجود هذه الحرب وحقيقتها، خاصّة أنّ الدولة التي تشنّ هذه الحرب تعتمد على السرّيّة، فهي من أصول هذه الحرب، ولذلك بيّن سماحته أنّها «حرب حقيقيّة في عالمنا المعاصر، على الرغم من أنّ البعض قد لا يراها»، وربّما ما يبرّر لهؤلاء سلوكهم في الإنكار اتصاف هذه الحرب بسمات «السرّيّة والتعقيد والتدريج»[1]؛ لأنّ العدوّ تارة يظهر بلباس الذئاب وتارة بلباس الثعالب وتارة بمظهر عدائيّ عدوانيّ وتارة بمظهر مخادع[2]. وقال سماحته في إحدى خطباته: «الحرب الناعمة مثال على الحرب الخفيّة»[3]، ولذلك تتطلّب المواجهة وفق وصف الإمام الخامنئيّ ( دام ظله) الإعداد الفكريّ والنفسيّ و»بصيرة عمّار بن ياسر واستقامة مالك الأشتر وثباته»[4].
[1] خطاب ألقاه سماحة الإمام الخامنئيّ أثناء الاحتفال بولادة الإمام الحسين (ع) بتاريخ 5/9/2009م.
[2] خطاب للإمام الخامنئيّ بتاريخ 22/3/2010م.
[3] خطاب لسماحة الإمام الخامنئي لدى استقباله قوّات التعبئة بتاريخ 24/10/2010م.
[4] خطاب ألقاه سماحة الإمام الخامنئيّ في مدينة مشهد المقدّسة خلال ملتقى الجهاد الأكبر الذي عقده اتحاد الجمعيّات الإسلاميّة بتاريخ 12/2/2014م منشور على موقع مسلم برس.
2. هدف الحرب الناعمة: تبديل الحسابات وتحويل الحقائق ونشر الإشاعات والإحباط
ميّز سماحتهa الفرق بين الحرب النفسيّة والحرب الناعمة بجملة واحدة، قائلًا: «الحرب النفسيّة فرع من فروع الحرب الناعمة، لتبديل إرادة الخصم وتغيير حساباته»[1].
كما استعمل البعض مصطلح الحرب النفسيّة ومفهومها بالمعنى نفسه لمصطلح الحرب الناعمة. وهذا النصّ يظهر التفات الإمام الخامنئيّ (دام ظله) إلى الفرق بين المفهومين. فتبديل الإرداة وتغيير الحساب وجدول الأعمال والأولويّات، تختلف عن مفهوم كسر الإرادة، وهو ما يختلف عن الهجوم النفسيّ، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله)[2]: ليست الحرب الناعمة كالحرب العسكريّة، ففي الحرب العسكريّة يكون هدف العدوّ أن يأتي لإبادة مواقع الطرف المقابل وتدميرها، أو البلد الذي يهاجمه أو أن يحتلّ أرضه. وفي الحرب الاقتصاديّة يكون الهدف هو القضاء على البنى الاقتصاديّة التحتيّة، وفي الحرب الناعمة لا يكون الهدف مثل هذه الأمور. تكون هذه الأشياء أحيانًا وسيلةً من أجل تحقيق هدف الحرب الناعمة. في الحرب الناعمة يكون الهدف هو الشيء الموجود
[1] خطاب الإمام الخامنئي a خلال لقائه حشداً من الطلّاب الجامعيّين بتاريخ 6/8/2012م.
[2] خطاب الإمام الخامنئي a خلال لقائه حشداً من الطلّاب الجامعيّين بتاريخ 6/8/2012م.
في قلوبكم وفي أذهانكم وفي عقولكم أي إرادتكم، أي أنّ العدوّ يريد تبديل إرادتكم، وتغيير [1].
إنّ العدوّ في مواجهته للنظام الإسلاميّ يشنّ حرباً نفسيّة باسم الحرب الناعمة والهدف الرئيس منها تحويل نقاط القوّة والفرص إلى نقاط ضعف وتهديدات، فالحرب الناعمة عبارة عن تضليل الشعب -الرأي العامّ- بشعارات ظاهرها حقّ، لكن محتواها باطل وفاسد[2].
قال سماحتهa: «إنّ مناهضي النظام في هذه الحرب الناعمة يهاجمون معتقدات البلد والنظام وعزائمهما وأسسهما باستخدام أنواع الأدوات الإعلاميّة والاتصاليّة بحيث إنّ مواجهة ذلك تستدعي الحضور الواعي والحذر في الساحة والمصحوب بالتدبير والحنكة؛ إذ إنّ مثل هذا الحضور بالطبع سيجلب العون الإلهيّ»[3].
يقول أيضًا: «إنّ العدوّ يشنّ غارات ثقافيّة على جبهتنا لاستبدال ثقافة الشعب وقيمه. إنّ العدوّ يحاول المـسّ ببوادر الأمل وتحويلها إلى حالات إحباط ويأس والإيحاء بأنّ الطريق مسدود وتضخيم الأمور بهدف سلب حيويّة المجتمع الإسلاميّ»[4].
[1] كلمة الإمام الخامنئيّ a في لقائه الجامعيّين بتاريخ 6/8/2012م مجلّة مشكاة النور عدد 56 شهري آب-أيلول 2012م، ص 37 - 38.
[2] خطبة لسماحة الإمام الخامنئيّ خلال لقائه أعضاء مجلس خبراء القيادة 25/9/2009م.
[3] خطاب لسماحة الإمام الخامنئيّ في حضور أعضاء مجلس خبراء القيادة بتاريخ 24/9/2009م.
[4] للتوسّع: انظر كتاب الحرب الناعمة، معالم رؤية الإمام الخامنئيّ a، المصدر نفسه.
يوجّه القائد بأنّ «من الواجبات لمواجهة الحرب الناعمة، الشجاعة في الفهم إلى جانب الشجاعة في العمل؛ لأنّ الانفعال أو الخوف يؤدّيان إلى الخلل في الفهم الصحيح للمواضيع والأحداث. وإنّ أحد أهمّ المخطّطات الرئيسة للأعداء تقوم على قلب حقائق البلاد وتغيير حسابات المسؤولين والشعب. ولا بدّ لمواجهة الحرب الناعمة من المحافظة على الحماس الثوريّ والحضور في الساحة. ويجب على النخب والخواصّ التحلّي بالوعي والبصيرة والشجاعة والعمل والوحدة»[1].
3. أصل التضليل والاستثمار في أخطاء المستهدف وغفلته:
أشار سماحة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) إلى خطورة قضيّة التضليل في الحرب الناعمة، فقال: «الحرب الناعمة ترفع شعارات ودعايات محقّة بالظاهر لكنّها باطلة في الباطن وتخلط الحقّ بالباطل، وللأسف فإنّ البعض يكرّر دعايات العدوّ وشائعاتهم عن قصدٍ أو عن جهل» [2].
أضاف الإمام الخامنئيّ (دام ظله) «العدوّ يستفيد في حربه الناعمة من مختلف وسائل الإعلام والاتصال والمواقع الثقافيّة لبثّ الشائعات والأكاذيب والاستفادة من بعض الذرائع» [3].
[1] كتاب الحرب الناعمة، معالم رؤية الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، المصدر نفسه.
[2] خطاب لسماحة الإمام الخامنئيّ أمام حشد من الشباب والطلّاب الإيرانيّين في مدينة قم بتاريخ 26/10/2011م.
[3] الحرب الناعمة، معالم من رؤية الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، مصدر سابق.
تُبرز هذه الخصائص ميّزات الحرب الناعمة، وكونها مختلفة عن أشكال الحروب الأخرى ونماذجها التي سردنا بعض تعريفاتها بخاصّة الدعاية والحرب النفسيّة والحرب الإعلاميّة والعقوبات الاقتصاديّة والحرب السيبرانيّة وما شاكل، والتي تعتمد على الهجوم العلنيّ لكسر إرادة الخصم وتخريب منظومة عمله، وليس على التضليل والتحويل والتبديل للحسابات من الداخل.
تنتمي الحرب النفسيّة والدعاية تنتمي إلى الحقبة السابقة لانتشار التكنولوجيا الجديدة، وهدفها كسر إرادة الخصم، وهي تشترك مع الحرب الناعمة في الهدف لجهة استهداف «تبديل إرادة المستهدف وتغيير حساباته» سواء كان المستهدف من دولة أو نظام أو رأي عامّ أو حزب أو منظّمة، لكنّها تختلف في الأساليب.
تركز الحرب الناعمة ترتكز على الاستمالة والإغواء والجذب وزرع الأمل -المضلّل والواهم- وتسعى إلى تقاسم القيم والشعارات المشتركة مع الطرف الآخر المستهدف، من دون أن يظهر للعيان هذه الشراكة، ودون بصمات، أي تصدير الأمل وجاذبيّة النموذج، وبثّ الوعود للجماهير بحياة أفضل وأسلوب حياة مرجعيّته - الأسلوب الأميركيّ والغربيّ، ورفع شعارات وقيم عقلانيّة لا يعارضها عاقل: الحوكمة، دولة القانون والمؤسّسات، الديموقراطيّة والمجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة، تمكين المرأة، والقضاء المستقلّ والمحاسبة ومكافحة الفساد، والمطالبة بالحقوق والحرّيّات الفرديّة لأقصى الحدود، وصولًا إلى إطلاق الغرائز ونشر الإباحيّة الجنسيّة والتحرّر الاجتماعيّ والفرديّ. وكلّ ذلك كبديلٍ عن مشروع المقاومة أو الهويّة الدينيّة التي تُنعت زورًا بالطائفيّة المقيتة المنبوذة من كلّ العقلاء.
تجدر الإشارة إلى أنّ الأدوات المستخدمة في الحرب الناعمة، أصبحت في متناول الجميع ولكلّ الأعمار بلا استثناء، ودخلت إلى كلّ البيوت (24/24) من خلال شاشات التلفزيون والإنترنت والهواتف الخليويّة الذكيّة، بحيث غرقت الدول بالمقروءات والمسموعات والبصريّات والأخبار والمنتجات الإعلاميّة والثقافيّة من دون أيّ قيود رقابيّة في ظلّ عولمة إعلاميّة وثقافيّة ومعلوماتيّة فوريّة ومفتوحة ومتفاعلة ومترابطة بشكلٍ لا سابق له وبأثمان وتكاليف ماليّة مجّانيّة أو شبه مجّانيّة.
سادسًا ـ تأصيل القوّة الناعمة من قبل وزارة الخارجيّة ومراكز الدراسات الأميركيّة
مرّت نظريّة القوّة الناعمة مراحل على مستوى تبنّيها الرسميّ من قبل الإدارات والمسؤولين الأميركيّين في المواقع الرسميّة، بخاصّة في وزارتي الدفاع والخارجيّة.
قبل عقد من الزمن، اتفقت وزارة الخارجيّة ووزارة الدفاع الأميركيّة على أنّ الدبلوماسيّة العامّة التي تندرج بحسب وصفنا ضمن تعريف القوّة الناعمة وخُصّص لها أقسام ودوائر خاصّة في السفارات الأميركيّة، حول العالم ومنها السفارة الأميركيّة في عوكر (يوجد على موقع السفارة قسم خاصّ تحت اسم الدبلوماسيّة العامّة) بأنّها: «أنشطة تقوم بها المؤسّسات الحكوميّة الأميركيّة للترويج للمصلحة الوطنيّة والأمن القوميّ من خلال الاستطلاع والدراسات والتأثير على الجماهير الخارجيّة وتوسيع الحوار بين المواطنين والمؤسّسات في الولايات المتّحدة وبين نظرائهم في الخارج [1].
[1] أياد خلف الكعود، استراتيجيّة القوّة الناعمة ودورها في تنفيذ أهداف السياسة الخارجيّة الأميركيّة في المنطقة العربيّة، رسالة ماجستير، جامعة الشرق الأوسط، 2016م، ص 30 - 33.
يوافق هذا التبنّي الرسميّ يوافق مقولة جوزيف ناي الذي «بصفتي نائب سابق لوزير الدفاع الأميركيّ لا يمكن لأحد أن يشكّ في مدى معرفتي واقتناعي بأهمّيّة القوّة العسكريّة الصلبة، ولكنّنا لن ننجح بالسيف وحده. لقد نجحنا في مواجهة الاتحاد السوفياتيّ ليس بالقوّة العسكريّة والردع العسكريّ فحسب، وليس من خلال عمليّات الحرب الباردة فقط بل بسبب القوّة الناعمة التي قُدّر لها أن تساعد في تحويل الكتلة السوفياتيّة من الداخل، ولو استغرق ذلك عشرات السنين. فالعبرة الأهمّ هي الصبر والنفس الطويل والمزج والتوازن بين القوّتين الصلبة والناعمة وتلك هي القوّة الذكيّة» [1].
إذا كانت ثمّة مقاربة بين الدبلوماسيّة العامّة والقوّة الناعمة، فإنّ الأخيرة -أي القوّة الناعمة- تتلخّص في القدرة على الاحتواء الخفيّ والجذب الليّن، بحيث يرغب الآخرون في فعل ما ترغب فيه القوّة المهيمنة من دون حاجة إلى اللجوء إلى استخدام القوّة الصلبة، أو بما يُغني عن استخدام سياسة العصا والجزرة أصلًا وفق ما يذهب إليه جوزيف ناي.
بناء عليه، يقُصد من القوّة الناعمة قدرة الدولة على استخدام الوسائل غير العسكريّة في تحقيق أهدافها ومصالحها، وهي من أهمّ هذه الأدوات والوسائل الإعلاميّة والثقافيّة والسياسيّة، للوصول إلى مرحلة التنفيذ لهذه الأهداف من خلال التأثير بالترغيب والإغراء [2].
[1] جوزيف ناي، القوّة الناعمة، مصدر سابق، ص 21- 25.
[2] المصدر نفسه
أمّا دبلوماسيّة القوّة الذكيّة، فقد عرّفتها وزيرة الخارجيّة السابقة هيلاري كلينتون خلال جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجيّة داخل مجلس الشيوخ بتاريخ 13 كانون الثاني 2009م، جاء فيه «أنا أعتقد أنّ الزعامة الأميركيّة كانت ضعيفة وغائبة، لكنّها الآن ما زالت مرغوبة. علينا أن نستخدم القوّة الذكيّة، أي مجمل الأدوات المتاحة في تصرّفنا -من دبلوماسيّة واقتصاديّة وعسكريّة وقانونيّة وثقافيّة- ونختار الأداة الملائمة، أو مجموعة الأدوات، لكلّ حالة. وسنقود بالدبلوماسيّة؛ لأنّها الأسلوب الذكيّ. نحن نعلم أنّ القوّة العسكريّة ضروريّة في بعض الأحيان وسنعتمد عليها لحماية شعبنا ومصالحنا حينما وأينما تطلّب الأمر إليها كملاذ أخير، وندرك أنّه في الوقت الذي تستمرّ فيه ديموقراطيّتنا في إلهام الناس حول العالم، أنّ تأثيرها يكون عظيمًا عندما نفي نحن ونلتزم بتعاليمها»[1].
كما ركّز وزير الدفاع الأميركيّ السابق تشاك هاغل (2013 - 2014م) على دمج القوّة الدبلوماسيّة بالقوّة العسكريّة، فقال:» إنّ إدارة الرئيس باراك أوباما تعتزم التحوّل في سياستها الخارجيّة من التركيز على القوّة العسكريّة إلى الدبلوماسيّة». وقال هاجل الذي كان يتحدّث في مؤتمر ميونيخ للأمن، إنّه ووزير الخارجية جون كيري «عَمِلا معًا على
[1] أيمن الدسوقي، القوّة الناعمة وسياسة أوباما الخارجيّة، نشر في 15/2/2009م، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة.
إعادة التوازن إلى العلاقة بين الدفاع والدبلوماسيّة». وشدّد هاجل في تصريحات مُعدّة سلفًا سابقة أنّ الولايات المتّحدة «تخرج من حرب استمرّت 13 عامًا، بينما تضع الحرب في أفغانستان أوزارها وتسعى واشنطن إلى تفادي الدخول في صراعات عسكريّة أخرى في الخارج.»[1].
أمّا على مستوى مراكز الأبحاث، فمن بين هذه المراكز المهمّة التي عملت على مفهوم القوّة الناعمة، برز دور مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS)، هو من المراكز المهمّة نظرًا للشخصيّات الوازنة التي عملت فيه، أمثال زبغنيو برجنيكسي مستشار الأمن القوميّ في عهد جيمي كارتر وغيره [2]، وبدعم من مؤسّسة ستار باستراتيجيّة مشروع القوّة الذكيّة Smart power التي تهدف إلى أن تقوم السياسة الخارجيّة الأميركيّة على الدمج بين مفهومي القوّة الناعمة Soft Power والقوّة الصلبة power Hard وذلك في ظلّ غياب الرؤية الاستراتيجيّة لكيفيّة مواجهة التحدّيات الآنيّة والمستقبليّة التي تواجه الولايات المتّحدة، والسبيل الأمثل لإدارة السياسة الخارجيّة الأميركيّة، من أجل تحقيق المصلحة والأمن القوميّ الأميركيّ.
[1] خبر لوكالة رويترز تحت عنوان: «هاغل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة ستقدّم الدبلوماسيّة على القوّة العسكريّة» منشور في 1 شباط 2014م، موقع وكالة رويترز: http://ara.reuters.com
[2] زبغنيو بريجنكسي Zbigniew Brzeziñski) - 28 مارس 1928 - 26 مايو 2017م) مفكّر استراتيجيّ ومستشار للأمن القوميّ لدى الرئيس الأميركيّ جيمي كارتر بين عامي 1977 و1981م.
دعا المركز لهذه الغاية إلى اجتماعات ومناقشات ضمّت أعضاء من الإدارة الأميركيّة والجيش، والمنظّمات غير الحكوميّة ووسائل الإعلام وأكاديميّين وشخصيّات من القطاع الخاصّ. وقد اجتمعت اللجنة عدّة مرّات لتطوير مخطّط تفصيليّ لإنعاش القيادة الأميركيّة على أساس مجموعة من الأبحاث والدراسات أعدّها خبراء المركز[1].
أصدرت اللجنة تقريرها عن التحدّيات التي تواجهها الولايات المتّحدة بعنوان «التوقّع العالميّ لتحدّيات الأمن العلياGlobal Forecast the top security 2008 of challenges، وتقرير آخر عن القوّة الذكيّة كسياسة لاستعادة مكانة الولايات المتّحدة عالميًّا بعنوان «القوّة الذكيّة، أمن أكثر لأميركا for security more power Smart» «America [2].
كما أعاد مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) تحديث مقاربته للقوّة الناعمة وتطويرهاعلى ضوء ردود أفعال واستجابات الخصوم والأعداء، فابتكر مفهومًا جديدًا للقوّة الناعمة، وروّج بعد العام 2016م لمفهوم استراتيجيّة المنطقة الرماديّة، كاستراتيجيّة مضادّة لأنشطة الصين وروسيا وإيران ومحورها في مجابهتها للقوّة الأميركيّة في حالتي السلم والحرب، وفي استثمار الفجوات بين القوّتين الناعمة
[1] إياد خلف الكعود، استراتيجيّة القوّة الناعمة ودورها في تنفيذ أهداف السياسة الخارجيّة الأميركيّة في المنطقة العربيّة، رسالة ماجستير، جامعة الشرق الأوسط، 2016م، ص 30 - 33.
[2] المصدر نفسه
والصلبة، وقد وصف خيار المنطقة الرماديّة بأنّها «خيار سياسيّ مدروس لتقويض منافسة أو تحقيق أهداف سياسيّة صريحة أخرى بوسائل أخرى غير الدبلوماسيّة الروتينيّة أو الحرب الشاملة» والذي يتكوّن من «الاستخدام المتعمّد لواحد أو أكثر من أدوات السلطة (الدبلوماسيّة والمعلوماتيّة والعسكريّة والاقتصاديّة) للتأثير على التكوين والوضع السياسيّ أو صنع القرار داخل الدولة»[1].
ذهب مركز راند للبحوث الدفاعيّة في منشوراته الأخيرة -وهو مُقرّب جدًّا من البنتاغون- إلى عمليّة دمج بين القوّتين الصلبة والناعمة مرجّحًا القوّة الإرغاميّة تحت وصف «القدرة على الإرغام بلا حرب» ومفهومها، التي تمّ تعريفها بأنّها تعني «دفع العدوّ إلى الخيارات التي تريدها الإدارة الأميركيّة عبر صناعة الظروف -التي تضع أعداء أميركا وخصومها ومنافسيها- أمام خيارات ضيّقة تُرغمهم على سلوك الطريق المطلوب، من خلال استخدام القدرات غير العسكريّة التي تتوفّر لديها، ومنها: العقوبات الماليّة، ودعم المعارضة السياسيّة اللاعنفيّة لأنظمة الحكم المعادية، وعمليّات المعلومات، والعمليّات الهجوميّة الإلكترونيّة[2].
[1] القدرة على الإرغام، مواجهة الأعداء بدون حرب، مركز أبحاث الدفاع RAND راند (دراسة لمصلحة الجيش الأميركيّ)، ديفيس غومبارت، هانس بيننديك، 2016م، ص 9.
[2] القدرة على الإرغام، المصدر السابق.
بناء على مجمل الوثائق، يمكن تشكيل مفهوم حرب القوّة الناعمة من خلال خمسة أركان:
1. تشكيل تصوّرات الآخرين ومفاهيمهم وتوجيه سلوكهم من خلال الأداة المناسبة لكلّ حالة.
2. تشكيل جدول الأعمال السياسيّ وتبديل حسابات الأعداء والمنافسين لمصلحة أميركا.
3. الترويج لجاذبيّة النموذج والقيم والسياسات والمؤسّسات وصداقيّتها وشرعيّتها للآخرين.
4. توجيه استراتيجيّات ومنصّات الاتصال مع الآخرين وتشكيلها «من يتّصل أوّلًا وكيف».
5. تعميم الروايات والسرديّات وتشكيلها - من خلال المنصّات والوسائل الإعلاميّة وضخّ المعلومات- حول مجريات الأحداث والوقائع «فالفائز اليوم هو من تفوز روايته للأحداث».
سابعًا ـ عوامل تحوّر الحرب الناعمة/ فقدان أميركا قوّتها الناعمة
تفسر مجموعة من النظريّات اسباب تراجع القوّة الناعمة الأميركيّة، منها أنّ الثورة الاقتصاديّة النيوليبراليّة، والتي كانت جزءًا لا يتجزّأ من عصر القوّة الناعمة، أضعفت الدول عوضًا عن تقويتها. فلم يكن السوق قوّة موحّدة مطلقًا، وكانت الفكرة القائلة بأنّه يمكن أن يكون هناك آليّة شاملة لتوفير النموّ والحوكمة الرشيدة والرفاهيَّة المجتمعيّة مجرّد وهم في البداية. وقد شرح عالم الاجتماع الألمانيّ وولفجانج ستريك Wolfgang-Streeck هذه الفكرة. وحذّر من أنّ عولمة القوّة الناعمة هي ببساطة تفوق قدرة المجتمعات الوطنيّة والمنظّمات الدوليّة على بناء مؤسّسات فعّالة للحكم الاقتصاديّ والسياسيّ»[1].
من أهمّ الآراء التي عبّر عنها جوزيف ناي -والتي شكّلت مفاجأة قاسية للجمهور الأميركيّ- أنّ القوّة الناعمة الأميركيّة تدهورت في عهد ترامب، وأنّ قدرة أميركا على تحقيق أهدافها من دون استخدام وسائل
[1] Eric Li. The Rise and Fall of Soft Power. Joseph Nye’s concept lost relevance, but China could bring it back.https://foreignpolicy.com/2018/08/20/the-rise-and-fall-of-soft-power/
القوّة الصلبة تناقصت، وأنّ الذي أوصل أميركا إلى هذا الدرك هو غرورها وعنجهيّتها.
يرى جوزيف ناي أنّ «الاعتقاد لدى ترامب وحكومته ساد بأنّ الولايات المتّحدة قويّة إلى الحدّ الذي يجعلها تحقّق ما تريد من دون إرضاء العالم، أو موافقة أيّ دولة أخرى، وأنّها القوّة العظمى التي لا تحتاج إلى حلفاء دائمين، وأوضحت استطلاعات الرأي تزايد العداء لأميركا خلال السنوات الأخيرة، وارتباط ذلك بتناقص شرعيّة السياسات الأميركيّة وقدرتها على جذب الآخرين بقيمها، وظهر ذلك في ما جرى من تحوّلات على مستوى الرأي العامّ العالميّ ضدّ الولايات المتّحدة، وأنّ العداء لأميركا يتمّ ترجمته إلى أصوات معارضة للسياسات الأميركيّة في المنظّمات الدوليّة بخاصّة في الأمم المتّحدة؛ وذلك بسبب السياسات الأميركيّة القائمة على استخدامها لقوّتها الصلبة في قهر الشعوب»[1].
فيما أشارت دراسات أخرى إلى خطورة تزايد حدّة العداء لأميركا في أوروبا، واستخدام المرشّحين في أوروبا خطاب العداء لأميركا في حملاتهم الانتخابيّة بخاصّة في ألمانيا. هذا يوضح أنّ السياسيّين في الكثير من الدول يمكن أن يستخدموا العواطف المعادية لأميركا لزيادة شعبيّتهم
[1] سليمان صالح، هل فقدت أميركا قوّتها الناعمة؟ موقع الجزيرة، نشر في 3/9/2021م، رابط:
https://www.aljazeera.net/opinions/2021/9/3/
والوصول إلى الحكم، وبدأ يوثر هذا الاتجاه على الانتماء لحلف شمال الأطلسيّ «الناتو»، واعتبار أنّ الاتحاد الأوروبيّ يشكّل بديلًا لذلك الحلف. ويشير ذلك إلى أنّ تدهور القوّة الناعمة قد يقود في النهاية إلى ضعف القوّة الصلبة، والتأثير على قدرة الولايات المتّحدة على بناء التحالفا. وكان ذلك واضحًا في جنوح باكستان نحو العلاقة مع الصين[1].
ما يؤكّد صحّة الملاحظات السابقة، ما كشفه المفكّر الأميركيّ فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة نهاية التاريخ (طرحها في التسعينات)، الذي بات اليوم يتحدّث عن تراجع القوّة الناعمة الأميركيّة، وتراجع جاذبيّها دوليًّا، إلى درجة حديثه -فوكوياما- عن رسم علامات استفهام جدّيّة حول نهاية عصر الهيمنة الأميركيّة بعد مشاهد الانكسار في أفغانستان في آب 2021م[2].
يقول فوكوياما: «لا شكّ أنّ الصور المُرعبة التي انتشرت للأفغان وهم يستميتون للخروج من كابول، في عقب انهيار الحكومة التي كانت تدعمها الولايات المتّحدة، مَثَّلت لحظة فارقة في التاريخ، وبداية لحقبة نأي أميركا بنفسها عن العالم. ولكن في حقيقة الأمر، فإنّ نهاية حقبة سيطرة أميركا حصلت قبل هذه اللحظة بكثير. ليس ذلك فحسب، بل
[1] سليمان صالح، هل فقدت أميركا قوّتها الناعمة؟، مصدر سابق.
[2] فرنسيس فوكوياما- الانسحاب من أفغانستان.. هل هو نهاية عهد الهيمنة الأميركيّة على العالم؟ ترجمة موقع الجزيرة، نقلاً عن مقال في مجلّة «إيكونوميست» البريطانيّ، نشر بتاريخ 1/9/2021م.
إنّني أزعم أنّ عوامل ضعف أميركا وتدهورها مصدرها محلّيّ أكثر من كونه خارجيّ. هذا لا يمنع أن تظلّ أميركا قوّةً عظمى في العالم لسنوات عديدة، غير أنّ مدى فاعليّة هذا النفوذ سيعتمد بالطبع على قدرتها على حلّ قضاياها الداخليّة وليس مراجعة سياساتها الخارجيّة»[1].
أضاف فوكوياما «لقد أضرَّ الاستقطاب بالفعل بتأثير أميركا العالميّ، قبل حصول مثل هذه الاختبارات في المستقبل. لطالما اعتمدت أميركا في ذلك التأثير على ما أطلق عليه جوزيف ناي، «بالقوّة الناعمة»، أي جاذبيّة المؤسّسات الأميركيّة والمجتمع الأميركيّ للناس في جميع أنحاء العالم. لقد تراجعت جاذبيّة هذا النموذج إلى حدٍّ كبير ومن الصعب على أيّ شخص أن يقول إنّ المؤسّسات الديمقراطيّة الأميركيّة كانت تسير على ما يُرام في السنوات الأخيرة، أو إنّ أيّ دولة يجب أن تُقلِّد العصبيّة السياسيّة والاختلال الوظيفيّ الذي شهدته أميركا. إنّ السمة المميّزة للديمقراطيّة الناضجة هي القدرة على إجراء عمليّات انتقال سلميّ للسلطة بعد الانتخابات، وهو الاختبار الذي أخفقت فيه البلاد إخفاقًا مذهلًا في 6 كانون الثاني عام 2021م (يَقصد أحداث الكابيتول واقتحام الجماعات اليمينيّة المتطرّفة لمبنى الكونغرس الأميركيّ)[2].
[1] فوكوياما، مصدر سابق.
[2] فوكوياما، مصدر سابق.
كانت إدارة ترامب تتجه نحو إهمال القوّة الناعمة؛ لأن أميركا تستطيع تحقيق أهدافها باستخدام قوّتها الصلبة. كما عبّر ترامب عن عدم اهتمامه بالدبلوماسيّة العامّة، لذلك شهد عهده تراجعًا ملحوظًا في اهتمام الولايات المتّحدة بتطوير علاقاتها مع الشعوب، اعتمادًا على أنّ علاقاتها مع أنظمة الحكم التابعة لها تحقّق لها النتائج التي تريدها.
كما ساهمت تغريدات ترامب وأكاذيبه وخرافاته وسلوكيّاته في تناقص مصداقيّة أميركا وتدهور قوّتها الناعمة، فكثيرٌ من هذه الأقوال والأفعال تعبّر عن غرور القوّة، والمعايير المزدوجة، ومبنيّة على رؤية ضيّقة للمصالح القوميّة الأميركيّة. وأدّى ذلك إلى تناقص جاذبيّة السياسة الأميركيّة، وعدم الثقة في القيم التي تعبّر عنها، فقد كان من الواضح أنّ الولايات المتّحدة لا يهمّها سوى تحقيق مصالحها عن طريق التحالف مع أنظمة ديكتاتوريّة تنتهك حقوق الإنسان[1].
لذلك، فقدت الولايات المتّحدة مكانتها بوصفها قوّة ناعمة عظمى، نتيجة وضوح النفاق في سياساتها، ومشاركتها في إجهاض التجارب الديمقراطيّة للدول، ومنع الشعوب من تقرير مصائرها والتعبير عن إرادتها، وحالة مصر توضّح ذلك، حيث أجهضت أميركا التجربة الديمقراطيّة، ولم تهتمّ بمشاعر المصريّين الذين تزايدت كراهيتهم لأميركا.
[1] سليمان صالح، هل فقدت أميركا قوّتها الناعمة؟ موقع الجزيرة. مصدر سابق.
يُضاف إلى ذلك، أنّ قيام ترامب بالإعلان عن صفقة القرن -التي تعبّر عن حالة غطرسة أميركيّة إسرائيليّة- أدّى إلى تزايد المشاعر المعادية للولايات المتحّدة في الدول العربيّة، ولكن لم تستطع الشعوب التعبير عن تلك المشاعر نتيجة تقييد السلطات لحرّيّة الإعلام، واستخدام القوّة الغاشمة في قهر الشعوب. وهذه المشاعر تشكّل رأيًا عامًا كامنًا يمكن أن يعبّر عن نفسه خلال الأعوام القادمة، وربّما يكون التعبير مفاجئًا وعنيفًا. كما أوضح سلوك ترامب أنّ أميركا تقيم علاقاتها الدوليّة على أساس مصالحها ورغبتها في السيطرة على الدول، وليس على أساس المبادئ والقيم. واستطاعت أميركا أن تحقّق كثيرًا من المنافع المادّيّة، وتفرض التبعيّة على الدول، لكنّ جاذبيّة أميركا بوصفها نموذجًا للحكم تناقصت، وتدهورت قوّتها الناعمة الناتجة عن القدرة على التأثير والإقناع.
ساهم ترامب -بعد الانتخابات الرئاسيّة- في تشويه صورة أميركا وسمعتها بوصفها دولة ديمقراطيّة، حيث دفع الشعب الأميركيّ للانقسام، وشجّع المؤيّدين له على الاعتداء على الكونغرس، وهو مشهد أدّى إلى تناقص انبهار الشعوب بالنموذج الديمقراطيّ الأميركيّ[1].
[1] سليمان صالح، هل فقدت أميركا قوّتها الناعمة؟ موقع الجزيرة.
أوضح استطلاع أجراه معهد غالوب أنّ 30% فقط من عيّنة تمّ استطلاع آرائها في 134 دولة تؤيّد السياسات الأميركيّة، ولديها اتجاهات إيجابيّة نحو أميركا، وهذا يعني أنّ نسبة من لديهم اتجاهات إيجابيّة نحو أميركا تناقصت بنحو 20% منذ عهد أوباما. وهذا يعني أنّ أميركا فقدت 20% من مؤيّديها على المستوى العالميّ خلال عهد ترامب[1].
[1] مصدر نفسه
ثامنًا ـ صعود السياسات الإرغاميّة والإكراهيّة:
أشرنا فيما تقدّم إلى أنّ مصطلح الحرب الناعمة ومفهومها يفترض أن يقوم على الترغيب بموارد القوّة الناعمة الأميركيّة من خلال الاستمالة الثقافيّة والسياسيّة والتأثير أو التلاعب بجدول أعمال الخصوم والأعداء من دون إكراه أو إرغام، ومن دون بصمات واضحة. في المقابل، يقوم مفهوم الحرب العسكريّة على التدمير والسحق المادّيّ لقدرات العدو والخصم وموارده، إلاّ أنَّ المتغيّرات والتطوّرات فرضت تحويرًا فرض مضاعفة جرعة الإكراه والإرغام، فعادت الإدارات الأميركيّة إلى رفع مستوى استخدام القوّة الخشنة والصلبة.
1. تعريف مفهوم استراتيجيّة القدرة على الإرغام:
يُعرّف مركز راند لأبحاث الدفاع التابع لوزارة الدفاع والجيش الأميركيّ القدرة على الإرغام، أنها: «قد تجد الولايات المتّحدة أنّ استخدام القوّة العسكريّة لمواجهة التهديدات العديدة والمتنوّعة للأمن الدوليّ، والتي ستظهر خلال السنوات القادمة، بات يتّصف بصعوبةٍ وكلفةٍ وخطورةٍ متزايدة. وربّما لا يكون هناك بديلٌ عن القوّة العسكريّة في بعض الظروف، إلاّ أنَ المشرّعين الأمريكيّين يحتاجون إلى خياراتٍ غير عسكريّةٍ أفضل، إنّ إجراءاتٍ مثل الديبلوماسيّة الحاذقة، والمساعدة الاقتصاديّة الفعّالة، ونشر الأفكار والمُثُل الأمريكيّة، كلُّها جيّدةٌ بالفعل، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها لهزيمة، أروع المعتدين العازمين على العدوان. إنّ هدف هذه الاستراتجيّة هو دراسة الفسحة الواقعة بين حدَّي القوّة العسكريّة الصلبة والقوّة الناعمة واستكشافها، وهي الوسائل غير العسكريّة لإرغام أولئك الذين يهدّدون السلام والأمن والمصالح الأمريكيّة وإضعافهم ومعاقبتهم»[1].
يميّز بعض الخبراء الأميركيّين بين القدرة على الإرغام، وبين ما يسمّى بالقوّة الذكيّة، فالقوّة الذكيّة تشمل الدمج بين أدوات كلّ القوّتين الصلبة والناعمة، ويُقصَد منها «معرفة توقيت استخدام إحدى القوّتَين كمفتاح النجاح لتحقيق السياسات المطلوبة»[2].
2. أدوات القدرة على الإرغام:
تتضمّن القدرة على الإرغام بحسب دراسة معهد راند -»الحنكة السياسيّة التي تتحكّم بتوظيف عدد من الأدوات والقدرات، منها: العقوبات الاقتصاديّة، والإجراءات السياسيّة العقابيّة، والعمليّات الإلكترونيّة، والعمليّات الاستخباراتيّة السرّيّة، والمساعدة العسكريّة، والحملات الدعائيّة، والتضييق على التجارة أو التحكّم بها، والحظر
[1] القدرة على الإرغام، مصدر سابق، ص 15.
[2] المصدر نفسه، ص 17.
على البضائع والأشخاص، ودعم المعارضة السياسيّة، بالإضافة إلى أمورٍ أخرى. القاسم المشترك بين هذه الأدوات هو قدرتها على لَوْي السياسات، وكسر الإرادات أو إرخاء قبضة الدول المستهدفة على زمام السلطة، مع أنّ القدرة على الإرغام ليست ناعمةً على الإطلاق، فإنها لا تفرض الامتثال للأهداف الأمريكيّة فرضًا مادّيًّا بما أنّ العدوّ يملك حرّيّة الاختيار، فالنتيجة ليست مضمونةٌ مسبقًا، ويعتمد النجاح على براعة من يقوم بعمليّة الإرغام ومدى ضعف المستهدف. إنّ قدرة الولايات المتّحدة على استخدام بعض طرق الإرغام في ازديادٍ، مع ازدياد حاجتها لاستخدام هذه الأدوات[1].
3 . الاستثمار في نقاط ضعف الأعداء لأجل الإرغام:
تُبيّن الدراسة أنّ «الخلفيّة التي تفسّر تراجع قابليّة الولايات المتّحدة لاستعمال القوّة العسكريّة الهجوميّة، وتنامي قدرتها على الإرغام هو العولمة، وبنشرها تكنولوجيّاتٍ مفيدةٍ عسكريًّا، حوّلت العولمة استخدام القوّة العسكريّة الهجوميّة إلى أمرٍ أكثر صعوبةً وخطورة، وهذا ما يجعل الخيارات غير العسكريّة أكثر أهمّيّة. كما زادت العولمة من الفرص التي تتيح استخدام الإرغام، مع تزايد اعتماد معظم البلدان -بما فيها الصين وروسيا وإيران ووكلائهم- على الأسواق العالميّة والموارد والمعلومات والأنظمة، والاقتصاديّات العالميّة، والشبكات الماليّة، وأنظمة
[1] القدرة على الإرغام، مصدر سابق.
التوزيع، والبنى التحتيّة، ومجالات المعلومات، وأسواق الهيدروكربون (النفط والغاز ومشتقّاتها)، والمواصلات، والتنقّل، وطلبات المستهلكين، والأفكار، والمؤسّسات، وغيرها من الأمور، وكلّها مجالاتٌ توفّر الفرصة لفرض النفوذ حتّى على أكثر الدول انعزالًا مثل: كوريا الشماليّة، أو الكيانات الأصوليّة»[1].
4. مساندة خصوم العدوّ
تملك الولايات المتّحدة وسائل متنوّعة تُمَكّنها من تقوية الدول والمجموعات التي تُعارض أعداءها ومساندتها، يمكنها لهذا الغرض تقديم المساعدة غير العسكريّة أو العسكريّة، إن استخدام الأخيرة هو استخدامٌ للقوّة الصلبة بالوكالة، وإنّ أعظم نفوذٍ إرغاميٍّ قد يأتي من جهة طرح تهديدٍ للسلطة السياسيّة أو حتّى لاستمراريّة نظامٍ يتحدّى المصالح الأمريكيّة.
ملاحظة: يكشف هذا النصّ عن إحدى أدوات الإرغام الأميركيّة، وهي: تسيلح ميليشيات وَجِهات معادية لخصومها وأعدائها، وهو ما يطابق مفهوم «الإرهاب» لجهة استخدام العنف لأهداف سياسيّة، وهو ما تَتَّهم به الإدارة الأميركيّة خصومها وأعداءها الذين يدافعون عن بلادهم ويتصدّون لغطرستها واستكبارها واحتلالها[2].
[1] المصدر نفسه، ص 15- 18.
[2] القدرة على الإرغام، مصدر سابق.
تاسعًاـ استراتيجيّة «المنطقة الرماديّة»:
أعدّ مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) دراسة تتناول قدرة الولايات المتّحدة على ردع التهديدات ومكافحتها والردّ عليها منذ العام2016م، وذلك من خلال سلسلة من الدراسات لتقييم التحدّيات الراهنة المتعلّقة بالمصالح الأمنيّة الأمريكيّة من الصين وإيران وروسيا. كما أعدّ معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى أيضًا دراسة مماثلة لاستراتيجيّة المنطقة الرماديّة لمواجهة إيران، وأدرج 8 خطوات لاحقًا.
1. تعريف «المنطقة الرماديّة» ومفهومها:
يُعرّف مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) استراتيجيّة المنطقة الرماديّة بأنّها «تقييم الأساليب البديلة التي يعتمدها من أسمتهم أميركا بـ «المنافسين» ومواجهتهم، والتي تقول إنّهم يتحدُّون قيادتها، بالإضافة إلى قواعد النظام الدوليّ، والتي يهدفون من خلالها إلى تهديد المصالح الأمريكيّة لكن دون تصعيد، مُستخدمين أدوات غير عسكريّة؛ نظرًا للتكاليف العالية للعمليّات القتاليّة. ويشير بعض العلماء إلى هذه الساحة المتنازع عليها بين السلام والحرب باسم «المنطقة الرماديّة»[1].
[1] مايكل آيزنشتات، العمل في المنطقة الرماديّة لمواجهة إيران، نشر في 18 سبتمبر 2019م، معهد واشنطن، رابط :https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alml-fy-almntqt-alrmadyt-lmwajht-ayran
تقول الدراسة [1] إنّ المصطلحات المفضَّلة هي في النهاية قضيّة ثانويّة، وأنّ النقاشات الموسّعة من شأنها تأخير الإجراء المطلوب. كما وُصِفت المنطقة الرماديّة أنّها «خيار سياسيّ مدروس لتقويض مُنافس أو تحقيق أهداف سياسيّة صريحة أخرى بوسائل غير دبلوماسيّة روتينيّة أو الحرب الشاملة» والتي تتكوّن من «الاستخدام المتعمّد لواحدة أو أكثر من أدوات السلطة (الدبلوماسيّة والمعلوماتيّة والعسكريّة والاقتصاديّة) للتأثير على التكوين والوضع السياسيّ أو صنع القرار داخل الدولة»[2].
تأتي الدراسة، في سياق استخدامات العاملين في مجال الأمن القوميّ والدبلوماسيّين والقادة العسكريّين وحلفاء أميركا والأكاديميّين بمجموعة من المصطلحات لوصف التحدّيات التي تواجه أميركا وحلفاءها والتي تقع دون عتبة الصراع العسكريّ التقليديّ، والتي تشمل: الحرب غير النظاميّة، القوّة الناعمة والقوّة الحادّة، الحرب الهجينة، التدابير الفعّالة، الحرب السياسيّة، المنافسة، المنافسة الاستراتيجيّة، نهج المنطقة الرماديّة.
[1] يراجع للتوسّع: نشر موقع يفيد u-feed - اتحاد الفضائيّات الإسلاميّة ملخّصاً لاستراتيجيّة الحرب الرماديّة. https://www.u-feed.com
[2] المصدر نفسه.
2. من هم المستهدفون في استراتيجيّة «المنطقة الرماديّة»؟:
تتولّى أربع دول الحصّة الأكبر من عمليّات المنطقة الرماديّة التي تتخّذها الدول ضدّ الولايات المتّحدة ومصالحها وحلفائها وشركائها، وهم: الصين، روسيا، إيران، وكوريا الشماليّة. كما يمكن تصنيف هذه الجهات أنّها الأكثر فاعليّة وخطورة؛ نظرًا لاتساع مجموعة أدوات كلّ دولة ونوعيّاتها وتأثيراتها المحتملة النسبيّة على المصالح الأمريكيّة، حيث تقع الصين في المرتبة الأولى وهي الأكثر إثارة للقلق، تليها روسيا.
3. مبرّرات استراتيجيّة «المنطقة الرماديّة»:
بناء الصين جزرًا اصطناعيّة عازلة في بحر الصين الجنوبيّ، ونشر روسيا لمعلومات مضلّلة في الولايات المتّحدة والدول الحليفة لها والبلدان الشريكة لها، والتي خلقت معضلات لسياسة الأمن القوميّ الأمريكيّ كما تجاوزت إلى حدّ كبير عتبات التصعيد العسكريّ، بالإضافة إلى تحرّكات إيران ومحورها (وكلائها كما تسمّيهم الدراسة).
الغموض وعدم وجود إجماع في أميركا حول المصطلحات المتعلّقة بالاستراتيجيّات والعمليّات الموجودة في الفضاء بين السلام والحرب.
حاجة أميركا إلى تصنيف التحدّيات والمخاطر وبالتالي تعزيز الاستجابات الفعّالة.
الحاجة لخوض حرب سياسيّة بشكل سرّيّ، ينبغي تنفيذها خارج سياق الحرب التقليديّة، وهي شكل من أشكال الصراع الذي يسعى إلى تحقيق أهداف سياسيّة من خلال حملات متكاملة، تُستخدم معظمها أدوات غير عسكريّة أو غير حركيّة.
4. أدوات المنطقة الرماديّة
أشرنا سابقًا أنّ أميركا أعدّت استراتيجيّة منطقة رماديّة ضدّ إيران وغيرها من الدول والأطراف، وزعمت أميركا أنّ أعداءها يستخدمون ضدّها أدوات المنطقة الرماديّة، لكن هذا لا ينفي أنَّها هي التي بدأت هذه الأدوات، وهناك أدلّة كثيرة تؤكّد ذلك، سنذكر بعضها وفق الآتي:
1
عمليّات المعلومات والتضليل
2
الإكراه السياسيّ
3
الإكراه الاقتصاديّ
4
العمليّات السيبرانيّة
5
العمليّات الفضائيّة
6
القوّات الوكيلة
7
الاستفزازات من قبل القوّات التي تسيطر عليها الدولة
1. عمليّات المعلومات والتضليل: استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ ووسائل الإعلام الأخرى، بالإضافة إلى الجهود التقليديّة لتعزيز سرد الدولة من خلال الدعاية وإثارة الشكوك والمعارضة والتضليل في الدول الأجنبيّة.
2. الإكراه السياسيّ: استخدام الأدوات القسريّة للتأثير على التكوين السياسيّ أو صنع القرار داخل الدولة، (واللافت أنّ الأدوات اللازمة لتحقيق هذه النتائج يمكن أن تكون مشروعة أو غير مشروعة، ولبنان هو النموذج الأبرز للإكراه السياسيّ الذي تمارسه الإدارة الأميركيّة وحلفاؤها بخاصّة السعوديّة.
3. لإكراه الاقتصاديّ: استخدام أدوات فعّالة اقتصاديًّا (مثل: الوسائل الماليّة أو التحكّم بخطوط الطاقة) لتحقيق الأهداف الاقتصاديّة أو التسبّب في اتّباع النهج الاقتصاديّ للخصم وتوجيهه (النموذج الأميركيّ لحصار لبنان ودفعه للانهيار، يضاف إليه العقوبات الاقتصاديّة بموجب قانون قيصر ضدّ سوريا).
4. العمليّات السيبرانيّة: استخدام المتسلّلين أو الفيروسات أو غيرها من الوسائل لإدارة حرب المعلومات أو التسبّب في ضرر مادّيّ، أو تعطيل العمليّات السياسيّة، أو معاقبة المنافسين الاقتصاديّين، أو ارتكاب أعمال ضارّة أخرى في الفضاء الإلكترونيّ (نموذج العمليّات الصهيونيّة والأميركيّة ضدّ الشبكات والمنشآت النوويّة والبنى التحتيّة الإيرانيّة).
5. العمليّات الفضائيّة: مقاطعة أنشطة الفضاء العاديَّة والخدمات الفضائيّة للمنافسين عن طريق تعطيل المعدّات أو الاتصالات مع أو من الفضاء أو البيانات أو الآثار التي توفّرها أنظمة الفضاء.
6. القوّات الوكيلة: الاستخدام المباشر أو غير المباشر للجماعات من غير الدول والجماعات العامّة بغرض التخويف العسكريّ أو السيطرة الإقليميّة من أجل ممارسة النفوذ أو الحصول على نتائج سياسيّة أو أمنيّة محدّدة (استخدام أميركا لداعش وبعض الجماعات الكرديّة في سوريا والعراق).
7. الاستفزازات من قبل القوّات التي تسيطر عليها الدولة: استخدام القوّات غير العسكريّة أو القوّات شبه العسكريّة مع خطوط تمويل أو اتصال مباشرة مع الدولة لتحقيق مصالحها، دون الاستخدام الرسميّ للقوّة، وتشمل هذه الفئة الأنشطة العلنيّة والسرّيّة.
عاشرًا ـ نموذج الاستراتيجيّة أمريكيّة في المنطقة الرماديّة لمواجهة إيران
يقول مايكل آيزنشتات -وهو باحث متخصّص بالشؤون الإيرانيّة في معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى: «إنّ اعتماد واشنطن استراتيجيّة منطقة رماديّة خاصّة بها، يُمثّل أفضل فرصة لها لتجنّب أيّ تصعيد ملحوظ بينما تكسب الوقت لإنجاح حملة الضغط التي تمارسها، وعلى صنّاع السياسة الأمريكيّين التخلّي عن الفكرة- بأنّ لدى طهران درجة تحمّل عالية المخاطر والتكاليف- وأنّ مسار الانتقال من اشتباك محلّيّ إلى حرب إقليميّة هو مسار قصير. قد يتغيّر ذلك إذا دفعت واشنطن إيران أكثر إلى الزاوية مع فرضها عقوبات نفطيّة مكثّفة، والتي يَنظر إليها النظام على أنّها تهديد محتمل لقبضته على السلطة). كما يتعيّن على واشنطن التخلّي عن بعض عادات التفكير والعمل المتأصّلة، التي هي محور الطريقة الأمريكيّة للحرب، ولكنّها غير ملائمة للنجاح في المنطقة الرماديّة، مثل تفضيل القوّة الساحقة والعمل السريع والحاسم»[1].
[1] مايكل آيزنشتات، العمل في المنطقة الرماديّة لمواجهة إيران، مصدر سابق.
تتكوّن استراتيجيّة المنطقة الرماديّة الأمريكيّة لمواجهة إيران من العناصر الآتية:
1. تعزيز المصداقيّة وقوّة الردع:
خلال أربعين عامًا من تاريخ الجمهوريّة الإسلاميّة، تعلّمت طهران من تجربتها، بأنّه بإمكانها تنفيذ أنشطة المنطقة الرماديّة (والتي تشمل القيام بعمليّات فتّاكة) ضدّ مصالح أمريكيّة من دون المجازفة بالتعرّض لردّ عسكريّ أمريكيّ. وإذ تفتقر واشنطن إلى المصداقيّة، فقد عجزت مرارًا عن ردع النظام الإيرانيّ. لذلك، فإنّ تعزيز قوّة الردع الأمريكيّة أمر أساس من أجل تعطيل حملة الضغوط المضادّة التي تنتهجها طهران. ويعني ذلك الردّ على إيران واستفزازاتها في المنطقة من أجل إظهار أنّ واشنطن أصبحت الآن أكثر تقبّلًا للمخاطر ممّا كانت عليه في الماضي. كما يعني عدم عبور الخطوط الحمراء لطهران؛ لأنّ الجهود المكثّفة لخفض صادرات النفط الإيرانيّة إلى الصفر ستحفّز على الأرجح ردود فعل أكثر قوّة.
2. اللجوء إلى الأعمال السرّيّة التي يمكن إنكارها:
تعمل سياسة الإنكار في كلا الاتجاهين، فعلى الولايات المتّحدة الردّ بشكل علنيّ على الأفعال الإيرانيّة، باستخدامها ردود انتقاميّة غير قاتلة من أجل تكبيد طهران تكاليف مادّيّة. ولا ينبغي أن تنفّذ أي عمليّات فتّاكة ما لم تُسفَك دماء أمريكيّة. وبالإضافة إلى الفوائد الجوهريّة للإجراءات السرّيّة، من غير المرجّح أن تؤدّيَ هذه الإجراءات إلى إزعاج الأمريكيّين وحلفائهم الذين يخشون أن تسعى الإدارة الأمريكيّة إلى الدخول في حرب مع إيران. وكما أوضحت الضربة على «بقيق» بأنّ منشآت النفط السعوديّة ضعيفة، فإنّ صناعة النفط الخاصّة بإيران معرّضة للتخريب والهجمات الإلكترونيّة والضربات الدقيقة التي قد تهدّد تدفّق صادراتها الحاليّة التي تبلغ عدّة مئات الآلاف من البراميل يوميًّا، وتمرّ حوالي 90 في المائة من هذه الصادرات عبر محطّة نفط واحدة هي جزيرة خرج. أمّا الحرائق والحوادث فليست غير شائعة في المنشآت البتروكيماويّة حتّى في ظلّ الظروف العاديّة، وبالتالي فإنّ عمليّة سرّيّة جيّدة التنفيذ في جزيرة خرج قد يتمّ إنكارها بشكل معقول وتكون مكلفة للغاية لإيران على حدّ سواء: هذا الاحتمال يجب أن يمنح النظام الإيرانيّ وقفة تفكير.
3. الموازنة بين ضبط النفس وردود الفعل المناسبة:
يمكن لضبط النفس المفرط أن يزيد من أخطار التصعيد من خلال فتح المجال لتحدّيات جديدة. وفي المقابل، يمكن أن يؤدّي التخلّي عن ضبط النفس واللجوء إلى التصعيد إلى زيادة أخطار لا داعي لها أمام الولايات المتّحدة، متسبّبًا في الوقت نفسه معارضة محلّيّة وخارجيّة لأيّ خطوات إضافيّة. ولتجنّب جميع هذه السيناريوهات، على واشنطن الردّ بشكل مناسب على الأفعال الإيرانيّة، تمامًا كما تفعل طهران حين تواجه تهديدات، مع ضمان استهداف الأصول القيّمة حقًّا بالنسبة للنظام.
4. زيادة عدم اليقين، وفرض التكاليف:
عند الردّ على التحدّيات، غالبًا ما تتصرّف واشنطن بشكل متوقّع، ممّا يسهّل على المعارضين تقييم المخاطر والحدّ من تكاليف اختبار [العزم] الأمريكيّ. وبدلًا عن ذلك، يجب أن تردّ الولايات المتّحدة بشكل غير متوقّع من خلال عدم الاكتفاء باستهداف الأصول المتورّطة في استفزاز معيّن. وعليها أن تضمن أن تكون التداعيات على طهران أسوأ ممّا تكون قد تسبّبت به هذه الأخيرة، إنّ القيام بذلك قد يحثّ النظام الإيرانيّ على التصرّف بحذر أكبر.
5. تغيير هيكليّات التحفيز:
دائمًا ما يكون النظام العدائيّ الذي يكافح من أجل بقائه أكثر استعدادًا للمخاطرة من إدارة أمريكيّة تسعى فقط إلى تحقيق مصالحها القوميّة. وبالتالي، من الأهمّيّة بمكان تجنّب حشر طهران في الزاوية. فقد يعني ذلك تحمّل درجة من التساهل في عقوبات النفط الأمريكيّة، ممّا يقلّل من حوافز إيران للتورّط في أنشطة مزعزعة للاستقرار.
6. التمديد وليس التصعيد:
منافسات المنطقة الرماديّة، غالبًا ما يتمّ تحقيق الميزة من خلال إحراز مكاسب تدريجيّة وتراكميّة بدلًا من اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة. لذلك ينبغي على واشنطن مقاومة الرغبة في التصعيد من أجل تحقيق نتائج سريعة.
7. توسيع خيارات المنطقة الرماديّة:
بهدف الحدّ من احتمالات التصعيد، على الولايات المتّحدة تطوير أساليب عمليّاتيّة جديدة باستخدامها الحرب الإلكترونيّة، والأسلحة السيبرانيّة الهجوميّة، والمركبات المسيّرة عن بعد، وعليها النظر في إيجابيّات توسيع نطاق عمليّاتها الجغرافيّة وسلبيّاتها.
8. العمل على جبهات متعدّدة:
تتجنّب طهران عمومًا التصعيد على جبهتين أو أكثر في آن واحد؛ فعندما تتعرّض لضغوط على جبهة واحدة، تميل إلى التراجع على جبهة أخرى. وتبعًا لذلك، على الولايات المتّحدة العمل مع شركاء إقليميّين، مثل: إسرائيل -التي تضرب بالفعل أهدافًا إيرانيّة في الخارج- والسعوديّة للضغط على طهران من اتجاهات متعدّدة.
حادي عشرـ العوامل المحفّزة على مضاعفة الجرعة الإرغاميّة في الحروب الناعمة
بناًء على ما سبق، ضاعفت الإدارة الأميركيّة من الاعتماد على الحروب الناعمة المتحوّرة (المُعدّلة)، بعد توجّهها الاستراتيجيّ نحو تقليص حروبها العسكريّة، وقامت بزيادة الجرعة الإرغاميّة للحرب الناعمة -بعد تآكل جاذبيّة القوّة الناعمة- وهو ما حتّم مضاعفة استخدام سياسات وبرامج تقوم على الضغوط والعقوبات والإجراءات الماليّة القسريّة، وصناعة الأزمات المعيشيّة والاقتصاديّة وتأجيجها وشنّ الحملات الدعائيّة والإعلاميّة، وتوجيه المنظّمات غير الحكوميّة NGOS لتنظيم تحرّكات واحتجاجات ميدانيّة (نماذج منظّمات المجتمع المدنيّ والثورات الملوّنة وتصعيد الاحتجاجات ضدّ المنظّمات والأنظمة المناهضة لأميركا/ نموذج ما سمّي انتفاضة 17 تشرين الأوّل في لبنان عام 2019م، وانتفاضة تشرين الأوّل في العراق عام 2019م) والهجمات الإلكترونيّة (نموذج الهجمات على المنشآت الإيرانيّة وشبكاتها)، وصولًا إلى التحريض الإعلاميّ وعمليّات ضخّ الإشاعات وحرب المعلومات والتسريب والتخريب السياسيّ وافتعال الأحداث الأمنيّة والاغتيالات الصامتة والعمليّات التخريبيّة القابلة للإنكار(التي تبدو كأنّها أحداث عرضيّة).
عند التعمّق في بحث العوامل المؤثّرة في الدفع باتجاه التعديل والتحوير على الحرب الناعمة، إضافة إلى الثغرات المنهجيّة التي سبق أن تحدّثنا عنها، نجد مجموعة متغيّرات عصفت بالعوامل المؤسّسة لنظريّة حرب القوّة الناعمة التي راجت بين أعوام 2001 - 2009م، ونهوض مجموعة متغيّرات وعوامل جديدة خلال العقد السابق 2010 - 2020م بخاصّة في ولاية دونالد ترامب الجمهوريّ اليمينيّ المتطرّف، وهو ما ساند بقوّة عمليّات التحوير والتعديل، ممهّدًا لولادة عقيدة القدرة على الإرغام بوصفها حرب ناعمة مُعدّلة ومُتحوّرة.
نجد من بين المتغيّرات، تراجع قوّة أميركا على أكثر من مستوى، سواء في تراجع قوّتها الناعمة (تجربة ترامب المدمّرة لقوّة أميركا الناعمة) وتراجع قوّتها الاقتصاديّة (تراكم الديون وعجز الماليّة العامّة الأميركيّةً وصعود العملاق الصينيّ اقتصاديًّا) وفشلها العسكريّ (فشلها في تحقيق الأهداف وحسمها وفق البرمجة الزمنيّة المطلوبة)، وفيما يلي ملخّص لهذه العوامل:
العامل الأوّل: هزائم أميركا وحلفائها في العراق وأفغانستان وسوريا وفلسطين واليمن؛
إنّ مشهد الانكسار العسكريّ في أفغانسان تجلّى في صور انهيار النظام الأفغانيّ وهروب الرئيس أشرف غني، ولجوء عشرات آلاف المتعاونين مع الأميركيين مع عوائلهم للانسحاب عبر مطار كابول، وهو يعكس البحث عن سياسات غير عسكريّة، أقلّ كلفة، من خلال إحداث التغيير من داخل المجتمعات؛ لأنّ الآلة العسكريّة أثبتت محدوديّة القدرة الأميركيّة في مجال حسم المعارك مع جبهات وبيئات عقائديّة إسلاميّة. وقد مُنيت أميركا بخسارة مدوّية في حربي العراق وأفغانستان وتكبّدت آلاف مليارات الدولارات (7 آلاف مليار في العراق وأفغانستان)، وآلاف القتلى والجرحى من الأميركيين ومن الحلفاء، وتكفي صورة ومشهد الانسحاب الأميركيّ من كابول، وتسليم حركة طالبان السلطة بعد قتال فاشل دام 20 عامًا، يضاف إليه الحديث المتكرّر والمتواتر عن الانسحاب من العراق وسوريا قريبًا، وهزيمة حلفاء أميركا كالسعوديّة في حرب اليمن، وهزيمة الكيان الصهيونيّ في المواجهة في فلسطين (آخرها معركة سيف القدس) وفي لبنان (ثبات ميزان الردع منذ 2006م).
العامل الثاني: صعود دور تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعيّ؛
يدفع هذا العامل بقوّة تيّار العولمة إلى فتح سياق تواصليّ عالميّ يعطي المجال لميادين تأثير ناعمة جديدة راهنت عليه بعض الجهات الأميركيّة لإحداث التغيير من خلال ما وصف في وزارة الخارجيّة الأميركيّة بالتكنولوجيا الرقميّة والسياسيّة Political Technology. إنَّ انتشار هذه الأدوات فتح المجال أمام جميع اللاعبين والفاعلين المعادين لأميركا من تحسين قدراتهم في المجال التواصليّ والافتراضيّ، فلم تعد اللعبة أداة بيد أميركا كلّيًّا، وخير أنموذج لهذا التحوّل هو خسارة الكيان الصهيونيّ لحرب التواصل الاجتماعيّ في معركة سيف القدس، فقد بيّنت الأرقام أنّ 60% من الجمهور مال نحو تصديق الرواية الفلسطينيّة ضدّ الكيان على المستوى الدوليّ، وهو ما أشار إليه سماحة الأمين العامّ لحزب الله في خطاب انتصار المقاومة في معركة سيف القدس.
العامل الثالث: انتشار الحركات والمنظّمات والفاعلين من غير الحكومات؛
انتشرت الحركات والمنظمات في بيئة الدول المعادية لأميركا، وشنّت حروبًا غير متكافئة ولا نظاميّة، وهو متغيّر قوّض الترسانة العسكريّة الأميركيّة والإسرائيليّة أيضًا. وقدرة أعداء أميركا وخصومها سواء من الدول والأنظمة أو من المنظّمات العقائديّة على وضع قيود تعيق تمدّد القوّة الناعمة الأميركيّة وتأثيرها [1].
العامل الرابع: النقد العميق والتخبّط العمليّ في تفعيل نظريّة القوّة الناعمة وتطبيقاتها؛
تعدّدت الآراء والاتجاهات والتيّارات لدى نخبة العاملين في الإدارة الأميركيّة من الحزبين الديموقراطيّ والجمهوريّ، فيما يتّصل بمقدار الاعتماد على القوّة الناعمة، فبعضها يؤمن بجدوى الخيارات غير العسكريّة، كخيارات التغيير الديموقراطيّ من خلال الثورات الملوّنة وحركات الاحتجاج ومنظّمات المجتمع المدنيّ (إدارة أوباما وفريقه)، وهناك تيّار جمهوي يؤمن بالعقوبات والإجراءات الاقتصاديّة والماليّة والحصار والضغوط القصوى (إدارة ترامب وفريقه).
[1] حسام مطر، مصدر سابق، ص 21.
العامل الخامس: نموّ مجموعات اليمين الشعبويّ والعنصريّ داخل الولايات المتّحدة؛
يهدّد هذ التيّار الهويّة الوطنيّة الأميركيّة أوّلًا، وهو مايرى أكثر من ثلثي الأميركيّين- الذين شملهم استطلاع نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانيّة-من أنّ التهديدات الداخليّة [مثل: مجموعات اليمين المتطرّف ودعاة التمييز العنصريّ] هي المصدر الرئيسيّ لتهديد الأمن القوميّ الأمريكيّ[1]، وهو تقدير مكتب التحقيقات الفيدراليّ الأميركيّ، وهو يطابق مضمون خطاب الرئيس جو بايدن لحظة تسلّمه السلطة.
العامل السادس: تهديدات مستجدّة، أبرزها: تبدّل ميزان القوى في الاقتصاد العالميّ؛
اتجهت أولويّات الإدارة الأميركيّة لمواجهة التهديدات الاقتصاديّة، التي يمثّلها صعود الصين، يضاف إليها تراكم التهديدات البيئيّة والصحّيّة
[1] ثلثا الأمريكيّين «نادمون» على خوض حرب أفغانستان.. استطلاع رأي يكشف أنّهم مع انسحاب بلادهم منها، موقع عربيّ بوست، تمّ النشر: 2021م/08/20 (كورونا)، والسيبرانيّة (القرصنة وعمليّات الأمن السيبرانيّ)، وهو ما يُفهم من وثيقة الأمن القوميّ الأميركيّ التي نشرت في عهد بايدن عام 2021م.
ثاني عشرـ الإطار الاستراتيجيّ لنموذج الحرب الناعمة المتحوّرة على حزب الله:
تُشكّل الحرب الناعمة على حزب الله (2005-2021م) سواء بنسختها الأصليّة على مستوى المفهوم والتطبيق أو بنسختها المتحوّرة بعد التعديلات، أنموذجًا ميدانيًّا تطبيقيًّا وحالة دراسة Case Study للحرب الناعمة المتحوّرة، تُمكّننا من تشخيص المتغيّرات المستجدّة على مفهوم القوّة الناعمة.
بدأت الحرب الناعمة على حزب الله بعد العام 2005م، أِثْر صدور القرار 1559 الذي قضى بنزع سلاح الميليشيات وانسحاب الجيش السوريّ، واستمرّ بعد اغتيال رفيق الحريري واتّهام حزب الله، ومحاولة عزله شعبيًّا ونزع الشرعيّة عنه، وبروز ما سمّي بثورة الأرز وقوى 14 آذار.
أُستخدمت لهذه الغاية جميع أدوات القوّة الناعمة من دعم المنظّمات غير الحكوميّة NGOS والثورات الملوّنة وتمويلها، وصولًا إلى تشكيل المحكمة الدوليّة، وقد ضاعفت واشنطن حجم مساعدتها للبنان بحيث بلغت حوالي 10 مليار دولار منذ العام 2005م، وهي مساعدات موثّقة بشهادات رسميّة في لجان العلاقات الخارجيّة في الكونغرس، وأوّل من أعلن عنها كان السفير جيفري فيلتمان، مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق في 8 حزيران من عام 2010م خلال جلسة استماع، من أنّ واشنطن أنفقت نصف مليار دولار لدعم الشباب والمجتمع المدنيّ وقوى الأمن اللبنانيّة من خلال «إيجاد بدائل للتطرّف وتقلّل من جاذبيّة حزب الله لشباب لبنان، وتمكين الناس من خلال احترام أكبر لحقوقهم وزيادة الوصول إلى الفرص، من خلال الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة USAID ومبادرة الشراكة الشرق أوسطيّة (MEPI). لقد ساهمنا بأكثر من 500 مليون دولار لهذا الغرض منذ عام 2006م. تُمثّل برامج المساعدة القويّة هذه أحد جوانب عملنا، فدعمنا لا يتزعزع للشعب اللبنانيّ ليكون لبنان قويًّا وذا سيادة ومستقرًّا وديمقراطيًّا، ومنذ عام 2006م، وصل إجماليّ مساعدتنا إلى لبنان 1 مليار دولار [1].
هذا الرقم الذي كان مليار دولار عام 2010م، تطوّر بعد عقد من الزمن ليصبح الرقم 10 مليار دولار عام 2020م، بمعدّل مليار دولار في السنة، وهو ما أكّده في جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجيّة لمجلس الشيوخ الأميركيّ السفير ديفيد هيل مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّة لشؤون الشرق الأدنى بتاريخ 9/9/2020م من أنّ الإدارة الأميركيّة أنفقت خلال سنوات في لبنان 10 مليار دولار على القوى الأمنيّة من جهة،
[1] United states senate.
لاستهداف الرأي العامّ الداخليّ والخارجيّ والمعارض والمؤيّد باستراتيجيّة إعلاميّة ممنهجة ضدّ المقاومة. ويكشف استعراض أبرز النقاط والعناوين الواردة في الدراسة بعض ملامح الحرب الناعمة المتحوّرة على حزب الله، وجاءت العناوين وفق الآتي:
1. سياسة الولايات المتّحدة مقابل استراتيجيّة إيران في لبنان.
2. تصدّعات داخل دائرة حزب الله - وخياراته السياسيّة.
3. اتساع الفجوة بين حزب الله والمجتمع الشيعيّ.
4. أمل مقابل أنصار حزب الله.
5. المجموعات التابعة للنجف.
6. عشائر البقاع.
7. الجماعات اليساريّة.
8. مجتمع الأعمال.
9. البدائل الاقتصاديّة للأعمال الشيعيّة.
10. الإغاثة الإنسانيّة.
11. التنافس في عمليّات المعلومات.
12. الاستمرار في معاقبة حلفاء حزب الله و»السياسيّين اللبنانيّين الفاسدين».
6. معاقبة الدولة والشعب والجيش اللبنانيّ اقتصاديًّا وماليًّا في سبيل تقويض حزب الله.
7. التنكيل بالشخصيّات المؤثّرة الحليفة لحزب الله لردع كلّ من يتعاون معه.
نجد فيما يلي عرض لأبرز المعطيات التي بنيت عليها نقاط الدراسة:
1. وضع حزب الله الحاليّ: حلفاء فاسدون يعانون التزعزع مع العقوبات والاحتجاجات؛ أزمة ماليّة (تخفيف إيران الميزانيّة، وتكاليف الحرب في سوريا)؛ وخطاب المقاومة مع صدى أقلّ لناخبيه، وكسر الرابطة بين حزب الله والشخصيّات غير التابعة له سيجعل هؤلاء أكثر عرضة للخطر وانفتاحًا على التسوية.
2. يمارس حزب الله لعبة الانتظار من خلال عمليّات التهريب والاتجار بالبشر والمخدّرات وبطاقات السجّاد ومخازن النور والصفقات مع البلديّات مثل بلديّات البقاع والضاحية.
3. إنّ الهيكل العسكريّ للجماعة، والخبرة التنظيميّة، والوصول إلى مصادر الدخل البديلة، وشبكة الإعلام الموحّدة تمكّنها من اتباع استراتيجيّات مؤقّتة للنجاة من الأزمة الحاليّة، مع الاحتفاظ أيضًا بالاستقلال عن مؤسّسات الدولة، لكن لا يؤمّن الكهرباء، وخدمة الإنترنت، ورعاية المرضى، والتوظيف.
4. يشعر الشيعة اللبنانيّون بتدهور حادّ وسريع في مستوى معيشتهم ويعرفون الأسباب الرئيسيّة وراء ذلك: الفساد والمحسوبيّة التي يدافع عنها حزب الله بقوّة.
5. على وجه التحديد، يجب على المجتمع الدوليّ النظر في سدّ الثغرات التي لا يستطيع حزب الله معالجتها، وتوفير شبكة بديلة من الخدمات والمساعدات من خلال المنظّمات الشعبيّة المستقلّة؛ ومنها «الجنوبيّون المستقلّون» و» الجنوبيّون من أجل الحرّيّة».
6. توسيع الفجوة بين حزب الله والمجتمع الشيعيّ وبناء طويل الأمد لاستراتيجيّات مساعدة الشيعة على الانتقال إلى مرحلة جديدة، فإنّ توصية السياسة المعتادة أي دعم البدائل السياسيّة لحزب الله ليست مقاربة قابلة للتطبيق.
7. دعم الطلّاب الذين شاركوا في احتجاجات الشوارع، ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعيّ ومن يمتلكون القدرة على تنظيم الحملات عبر الإنترنت، والمهنيّين الشباب الذين بلغوا سنّ الرشد بعد الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
8. تحوّل حزب الله لدعم شخصيّة أخرى، مثل: عباس إبراهيم أو جميل السيّد، تطوّر من شأنه أن يزيد توسيع الصدع بين أنصار أمل وحزب الله.
9. تمكين شخصيّات تنتمي لمدرسة فكريّة دينيّة مقرّها النجف معارضة لحزب الله وتدعو للصحوة، مثل: ياسر عودة.
10. إحباط الهيكل القبليّ في البقاع بعلبك-الهرمل، وهو ما يحرج حزب الله في الانتخابات البلديّة والنيابيّة في 2022م.
11. تنشيط المجموعات اليساريّة الثوريّة وتنظيمها في المجتمع الشيعيّ، مثل: مدينتي النبطيّة وصور، وخطابهم المضادّ لحزب الله رغم افتقارهم للزعيم. فاليساريّون لهم قادة اغتيلوا على يد حزب الله، ومنهم: حسن حمدان وحسين مروّة في الثمانينيّات.
12. جزء من مجتمع الأعمال الشيعيّ في لبنان أو أوروبا أو أفريقيا قد يُنَظّم نفسه نحو تشكيل ثقل اقتصاديّ - سياسيّ موازٍ لحزب الله في ضوء العقوبات الأمريكيّة على المحسوبين على حزب الله. تمكين القطاع الخاصّ من خلال الشركات الصغيرة والقروض للشباب لعدم الاعتماد على حزب الله. يتمّ تشكيل هياكل جديدة من هؤلاء وغيرهم من المهنيّين والطلّاب بهدوء بعد التواصل مع النشطاء السياسيّين وبدعم معنويّ وعمليّ من الجهات الفاعلة الدوليّة.
13. لأوّل مرّة في تاريخ الجماعة -ولأسباب ماليّة بحتة- تركّز إيران على جهاز حزب الله العسكريّ بدلًا من برامج قوّتها الناعمة، وهذا يسلّط الضوء على حاجة الولايات المتّحدة والاستراتيجيّة الدوليّة للبنان لتطوير أدوات القوّة الناعمة ذات الصلة لإشراك الشيعة غير
التقليديّين الأصغر سنًّا وفهم سبب توقّف عمل نهج القوّة الناعمة القديمة، وإجراء التعديلات اللازمة.
14. التركيز على تلقين المؤسّسات الدوليّة واللبنانيّة أنّ العقوبات لا تهدف إلى معاقبة المجتمع الشيعيّ بأكمله.
15. للعقوبات نتائج واعدة في إضعاف حلفاء حزب الله وخسارتهم الدعم الشعبيّ، وابتعاد رجال الأعمال الحائزين على جوازات السفر الأمريكيّة والأوروبيّة والشركات الشيعيّة.
16. سوف يتطلب إنهاء عسكرة المجتمع الشيعيّ تقليل إحساسه بالعزلة عن بقيّة لبنان وكشف المجتمع الدوليّ عن نفاق حزب الله. سيكون هذا تحدّيًا؛ نظرًا لعدم الجدوى الحاليّة للبدائل السياسيّة التي يدفعها الغرب، يجب أن يتحوّل التركيز نحو استراتيجيّة طويلة الأجل لاستخدام البرامج الاقتصاديّة، مثل: الوظائف والقروض الصغيرة - لمساعدة الشيعة على تلبية احتياجاتهم الأساسيّة بشكل ناجح. وسيتّبع ذلك خطاب سياسيّ إيجابيّ.
17. الأزمة المتفاقمة في لبنان تتطلّب إنقاذًا من قبل المؤسّسات الماليّة الدوليّة، مثل: صندوق النقد الدوليّ، فالظروف التي سترافق أيّ خطّة إنقاذ تتيح فرصة لتعزيز لبنان وتقويض وصول حزب الله إلى مؤسّسات الدولة. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم إتاحة المساحة لمبادرات لتمكين رجال الأعمال المستقلّين الشيعة والقطاع الخاصّ،
بهدف تعزيز البدائل الاقتصاديّة لسيطرة حزب الله على الاقتصاد الشيعيّ.
18. إضافة دعم عبر الجيش، من خلال تمرير بعض الصناديق عبر منظّمات مستقلّة مقرّها في المناطق الشيعية، أو مرتبطة أيضًا بالمجتمع المدنيّ الشيعيّ وجماعات المعارضة التي كانت جزءًا لا يتجزّأ من احتجاجات 2019م وتستعدّ لانتخابات 2022م.
19. الحملات والعمليّات الإعلاميّة ضدّ حزب الله عبر منصّة يمكن تصديقها من قبل المجتمع الشيعيّ، وليس من باب دعم الجماعة للإرهاب الدوليّ لعدم فعاليّة الأسلوب، بل سيكون التركيز على استغلال نقاط ضعف حزب الله في أعين جمهوره، مثل فساده، واستغلال النساء، والصعوبات الماليّة؛ وعلى رغبة الشيعة في الاستثمار التجاريّ؛ وكشف البنية التحتيّة العسكريّة لحزب الله وخطر جرّ الشعب -بخاصّة الشيعة- إلى جولة أخرى من القتال المكلف مع إسرائيل.
20. هناك بنية تحتيّة من مؤسّسات إعلاميّة لبنانيّة مستقلّة فقدت الكثير من تمويلها في العقد الماضي مع نموّ المؤسّسات الإعلاميّة لحزب الله وتطوّرها. هنا يجب إعادة النظر في الاستراتيجيّة الأمريكيّة والدوليّة لوسائل الإعلام المساعدة لتشمل مؤسّسات وأصوات جديدة، مع التركيز على الأصوات الشيعيّة المستقلّة - بالإضافة إلى هيكل وسائل الإعلام الاجتماعيّة المبتكرة. لدى مجتمع الدوليّ فرصة لتعزيز الوسائط المستقلّة من خلال المساعدة التقنيّة والتدريب والتمويل، على وجه التحديد، يمكن أن يستفيد عدد من المؤسّسات القائمة من الدعم والحماية، ويحاول العديد من المؤسّسات الأخرى التوسّع والتطوير.
تكشف القراءة المعمّقة لتفاصيل بنود هذا المخطّط، حجم الجهود البحثيّة لاستطلاع أيّ نقطة في بيئة حزب الله وبنيته السياسيّة وروابطه مع حلفائه. وتؤكّد استنتاجنا حول الحرب الناعمة المتحوّرة، وهو ما يظهر في مدى الانسجام بين مضامينها وبين وثيقة الأمن القوميّ الأميركيّ الصادرة في عهد جو بايدن 2021م. وتتجلّى ملامح هذه الحرب في العناصر الآتية:
1. متابعة الضغوطات الاقتصاديّة القصوى على لبنان.
2. الدفع نحو انهيار الاقتصاد ووضع الدولة والجيش في موقف حرج ودفعهما لمواجهة حزب الله.
3. الدفع بجماعات بديلة لإعادة تشكيل البيئة الشيعيّة بشكل علنيّ وتسمية بعض المنظّمات والشخصيّات الشيعيّة بالاسم، والهدف من التسمية إشعال الفتنة، لمجرّد إشاعة هذا التصنيف.
4. العمل على سياسة فرّق تسد، وشقّ الصفّ الشيعيّ من خلال إشعال فتن بين الثنائيّ الشيعيّ، ومع مجموعات وتيّارات شيعيّة معيّنة.
5. هناك بند جديد، وهو اتهام شخصيّات من حلفاء حزب الله في 8 آذار بالفساد، وخاصّة تيّار المردة والتيّار الوطنيّ الحرّ وحركة أمل؛ بهدف تشويه سمعتهم والتنكيل بهم، ودفعهم ثمن تحالفم أو تعاونهم مع حزب الله وترهيب الآخرين.
6. استغلال حالة الانهيار الاقتصاديّ لشراء مؤسّسات إعلاميّة ومنصّات تواصل اجتماعيّ بشكل علنيّ، هذا الأمر كان يحصل سرًّا، أمّا اليوم فأصبح سياسة معلنة.
ثالث عشرـ الحرب الناعمة المتحوّرة على حزب الله في وثيقة الأمن القوميّ الأميركيّ للعام 2021م
اعتمدت الوثيقة فصلًا كاملًا موضوعه «حزب الله»، وجعلته من القضايا الرئيسة في تهديد الأمن القوميّ الأميركيّ، إلى جانب قضايا دوليّة أخرى، مثل: الحروب السيبرانيّة، والحدّ من التسلّح النوويّ، والخطر الصينيّ. وتبنّت استراتيجيّة ترامب الخشنة التي قامت على «الخنق الاقتصاديّ»، ودعم المعارضين لحزب الله، وهو ما ظهر في الثورة الملوّنة التي سُمّيت ثورة 17 تشرين الأوّل عام 2019م؛ بهدف إحداث التخريب السياسيّ الذي يؤدّي إلى إرغام الخصم على سلوك ما تريده أميركا.
ترى الوثيقة أنّ «أسلوب الرئيس ترامب لمحاربة حزب الله والشبكات الإجراميّة العالميّة لا يفتقر إلى المبادرات، لكنّه افتقر إلى النتائج، وبدلًا من إنشاء استراتيجيّة مختلفة، يجب أن تركّز إدارة بايدن على الاستخدام الأفضل للوسائل المتاحة لاستهداف شبكات الجماعة الإرهابيّة بشكل حاسم»[1].
[1] غسّان الحجّار، واشنطن لبيروت- لا حكومة يشارك فيها حزب الله وقف المساعدات للجيش ومزارع شبعا ليست لبنانيّة، 15/3/2021م، النهار: https://www.annahar.com
ثالث عشرـ الحرب الناعمة المتحوّرة على حزب الله في وثيقة الأمن القوميّ الأميركيّ للعام 2021م
اعتمدت الوثيقة فصلًا كاملًا موضوعه «حزب الله»، وجعلته من القضايا الرئيسة في تهديد الأمن القوميّ الأميركيّ، إلى جانب قضايا دوليّة أخرى، مثل: الحروب السيبرانيّة، والحدّ من التسلّح النوويّ، والخطر الصينيّ. وتبنّت استراتيجيّة ترامب الخشنة التي قامت على «الخنق الاقتصاديّ»، ودعم المعارضين لحزب الله، وهو ما ظهر في الثورة الملوّنة التي سُمّيت ثورة 17 تشرين الأوّل عام 2019م؛ بهدف إحداث التخريب السياسيّ الذي يؤدّي إلى إرغام الخصم على سلوك ما تريده أميركا.
ترى الوثيقة أنّ «أسلوب الرئيس ترامب لمحاربة حزب الله والشبكات الإجراميّة العالميّة لا يفتقر إلى المبادرات، لكنّه افتقر إلى النتائج، وبدلًا من إنشاء استراتيجيّة مختلفة، يجب أن تركّز إدارة بايدن على الاستخدام الأفضل للوسائل المتاحة لاستهداف شبكات الجماعة الإرهابيّة بشكل حاسم»[1].
[1] غسّان الحجّار، واشنطن لبيروت- لا حكومة يشارك فيها حزب الله وقف المساعدات للجيش ومزارع شبعا ليست لبنانيّة، 15/3/2021م، النهار: https://www.annahar.com
كما دعت الوثيقة إلى «جعل قرارات الخزانة (أي العقوبات) أكثر تواترًا واستهداف المزيد من الكيانات والأفراد». وشجّعت على «استهداف النظام المصرفيّ اللبنانيّ بشكل أكثر شراسة»؛ إذ أظهر الانهيار الاقتصاديّ في لبنان عام 2020م إلى أيّ مدى يُشكّل البنك المركزيّ للدولة جزءاً من المشكلة (…) يجب أن تتحرّك استراتيجيّة الولايات المتّحدة نحو قطاع أوسع بدلًا من استهداف المصارف الفرديّة مرّة كلّ سنوات عدّة.
أيضًا دعت إلى «معاقبة الداعمين الماليّين الذين لا ينتمون بالضرورة إلى «حزب الله»، والذين يعملون مع ذلك كميسّرين من خلال الفساد وجرائم تبييض الأموال… يجب على الإدارة الجديدة استخدام هذه السلطات بقوّة لملاحقة «حزب الله» وشبكته الماليّة العالميّة غير المشروعة، وتوفير المزيد من الموارد لوزارة العدل لزيادة قدرتها على التحقيق والمقاضاة لملاحقة المرتبطين بـ»حزب الله».
تقول الوثيقة إنّ إدارة ترامب «حقّقت بعض التقدّم في لبنان، إلاّ أنها عملت تحت الرؤية الخاطئة بأنّ هناك فرقاً بين مؤسّسات الدولة اللبنانيّة و»حزب الله»، وفشلت في إدراك أنّ أيّ جهد لتقوية الدولة اللبنانيّة يقوّي في نهاية المطاف «حزب الله» ويقوّض الجهود الأميركيّة لبذل الضغوط على الحزب».
في موقفٍ لافتٍ، حرّضت الوثيقة الإدارة الجديدة على الجيش اللبنانيّ؛ إذ رأت أنّ «إدارة ترامب واصلت ضخّ الأموال للجيش اللبنانيّ، على رغم أنّ الجيش لم يفعل شيئًا لمعالجة الحشود العسكريّة لـ»حزب الله». في إشارةٍ إلى ما نشره الكيان الصهيونيّ من معلومات استخباريّة تُظهر أنّ «حزب الله» بنى ثلاث منشآت في بيروت والمنطقة المجاورة من الجنوب لتجميع صواريخ دقيقة التوجيه».
تضيف: «يُحسب لإدارة ترامب أنّها نفّذت سياسة عقوبات صارمة ضدّ «حزب الله». على نقيض ذلك، كانت واشنطن بطيئة في معاقبة القادة السياسيّين الفاسدين، سواء أكانت شراكة علنيّة أم ضمنيّة مع الحزب. وبعد الانهيار الماليّ للبلاد، مرّ عام كامل قبل أن توظّف وزارة الخزانة سلطات ماغنيتسكي وأعلنت إدانة الوزير السابق جبران باسيل، صهر الرئيس والمنافس الرئيسيّ لخلافته بالفساد، وهو في طليعة اللبنانيّين المتحالفين مع «حزب الله».
كان تصنيف وزارة الخزانة لـ»بنك الجمّال» علامة بارزة، إلاّ أنّ اختراق «حزب الله» للنظام الماليّ أعمق بكثير. ووفقًا لشكوى مدنيّة تمّ تقديمها في محكمة مقاطعة نيويورك الفيديراليّة، هناك اتهام لأحد عشر مصرفًا تجاريًّا إضافيًّا في لبنان قدّمت عن علم دعمًا واسعًا، إضافة إلى الدعم المادّيّ المستمرّ، بما في ذلك الخدمات الماليّة لـ»حزب الله» وشركاته ومنظّمات الرعايّة الاجتماعيّة التابعة له. مثال آخر عن
عدم الاتساق الاستراتيجيّ، هو سعي وزارة الخارجيّة في الوقت غير المناسب وغير الضروريّ إلى محادثات ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل. تقدّم المحادثات التي يسيطر عليها «حزب الله» للنظام في لبنان احتماليّة الإيرادات المستقبليّة من الغاز البحريّ مقابل لا شيء. بخلاف السماح، يبدأ كونسورتيوم بقيادة شركة النفط الفرنسيّة الكبرى «توتال» العمليّات والاستثمار في المياه اللبنانيّة.
من المحتمل أن يفتح السعي إلى إجراء محادثات بحريّة الباب للتحدّث عن مسألة مزارع شبعا، وهي شريط صغير من أرض في هضبة الجولان يطالب بها لبنان، اعترفت إدارة ترامب بالسيادة الإسرائيليّة عليها.
تنصّ «وثيقة الدليل الاستراتيجيّ الموقّت للأمن القوميّ» على الآتي:
«حزب الله» أكثر من مجرّد عميل أو وكيل لجمهوريّة إيران الإسلاميّة. إنّه امتداد للنظام. منذ تأسّس «حزب الله» على يد الكوادر الثوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في لبنان كان بمثابة ذراع طهران الطويلة، بالإضافة إلى التصدير الرئيسيّ لإيديولوجيّة النظام ونموذج النظام الثوريّ. يجب أن تكون هذه الفرضيّة مصدر إلهام لجميع جوانب السياسة الأميركيّة. علاوة على ذلك، مع سيطرة المجموعة الآن على مرتفعات البلاد وترسيخها بقوّة في الحكومة، على الولايات المتّحدة أن تتخلّى عن التمييز المصطنع بين الدولة اللبنانيّة و»حزب الله»:
تصعيد الضغط على «حزب الله». على واشنطن أن تنتهج هذه السياسة بغضّ النظر عن أزمة لبنان الماليّة أو أيّ مبادرة دبلوماسيّة إقليميّة.
صوغ عقوبات أميركيّة، سواء أكانت مرتبطة بـ»حزب الله» أم تستهدف أعضاء آخرين من الطبقة السياسيّة تحت قانون Magnitsky Global Human Rights Accountability Act، لتعكس حقيقة أنّ «حزب الله» والدولة لا يمكن تمييزهما. يجب أن تهدف العقوبات إلى الضغط على الشبكات الماليّة للحزب ونظام الأوليغارشيّة الفاسد الذي يسهّل نشاط «حزب الله» ويتشارك معه.
الاستمرار في الضغط على الاتحاد الأوروبيّ لتصنيف الحزب كلّه منظّمة إرهابيّة، لكنّ إدراك -أيضًا- أنّ زيادة الاستثمار الفرنسيّ في لبنان من المرجّح أن تزيد من حدّة معارضة باريس لمثل هذا التعيين. «حزب الله» نفسه يرفض تمييز الاتحاد الأوروبيّ بين ما يسمّى بجناحيه العسكريّ والسياسيّ. لا جزء من «حزب الله» يجب أن يحصل على ترخيص للعمل في أوروبا.
لا تقدّم مساعدات التنمية وإعادة الإعمار للبنان، سواء ثنائيًّا أو في سياق مؤتمر المانحين الدوليّ، ما بقي النظام السياسيّ الطائفيّ القائم الذي يهيمن عليه «حزب الله»، فإنّ مثل هذه المساعدات لا تدعم سوى «حزب الله» وشركائه الفاسدين.
تعليق كلّ المساعدات للجيش اللبنانيّ. تواصل القوّات المسلّحة التعاون مع «حزب الله» وفشلها في التعامل مع أيّ من أعمال «حزب الله» أو كبح جماحه، حتّى ضدّ منشآت صواريخ «حزب الله» المكشوفة أو مستودعات الأسلحة في المناطق المدنيّة.
التحرّك بسرعة لتطبيق العقوبات وفقًا لقانون دروع الحزبين. استخدام الدروع البشريّة جريمة حرب ويجب على الولايات المتّحدة أن تستهدف مسؤولي «حزب الله» والكيانات المرتبطة به، وكذلك أيّ سياسيّ لبنانيّ ومسؤولين أمنيّين متورّطين في وضع أصول عسكريّة لـ»حزب الله» في مناطق مدنيّة.
خلاصة المبحث ومناقشته:
بعد الاطلاع على وثيقة الأمن القوميّ الأميركيّ التي نشرتها إدارة الرئيس جو بايدن عام 2021م، يمكن ربط دراسة معهد واشنطن بمضامينها واكتشاف التطابق والانسجام بين الإجراءات المقترحة وبين الأهداف والعناوين التي وضعها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث إنّها خطّة عمليّة تنفيذيّة لخدمة هذه الوثيقة، وتؤكّد استنتاجنا بأنّ الحرب الناعمة على حزب الله، تحوّرت بعد العام 2016م، واتجهت نحو عقيدة الإرغام.
خاتمة:
يمكن الاستنتاج أنّ الحرب الناعمة قد تحوّرت على مستوى المفهوم والتطبيق، بما يشبه تحوّر الفيروسات، وغدت أكثر خشونة ويمكن وصفها بأنّها حرب شبه صلبة، تعتمد على الإجراءات الاقتصاديّة ولغة التهديد والإرغام ولو من دون إجراءات عسكريّة، مع إضافة الحرب السيبرانيّة، وهي أخذت من القوّة الناعمة بعض الموارد والإجراءات والبرامج بخاصّة لجهة حرب المعلومات والتضليل عبر وسائل الإعلام اللبنانيّة المموّلة والموجّهة أميركيًّا، ومن خلال تمويل عشرات منصّات التواصل الاجتماعيّ وصفحاته، والاستناد أكثر على دور المنظّمات غير الحكوميّة NGOS ودور الجامعة الأميركيّة في بيروت، وبروز دورهما فيما سمّي بانتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019م.
ما لا شكّ فيه أنّ الحرب الناعمة بمفهومها المتحوّر المُدمج المُتّجه أكثر نحو الأخذ بعقيدة الإرغام هي جزء من مفاهيم الإدارة الأميركيّة واسترتيجيّاتها بأذرعها المختلفة العسكريّة، والخارجيّة الديبلوماسيّة، وهي واقع فعليّ، ليست نظريّة علاقات دوليّة أو دبلوماسيّة عامّة كما كان يقول بعض الباحثين والكتّاب.
كما لاحظنا أنّ الدراسات والمستندات الأميركيّة أصبحت تعترف بدعمها للثورات الملوّنة، تحت عنوان وبند «دعم الحركات اللاعنفيّة والمعارضات السياسيّة للأنظمة والجهات المستهدفة». وفي الواقع يوجد عشرات المنشورات حول مواد تدريبيّة تقدّم «للثوّار» مصدرها معهد السلام الأميركيّ USIP وهو معهد تابع للكونغرس وفيه قيادات من الحزبين الجمهوريّ والديموقراطيّ. ومنها مستند بعنوان «تحقيق التظافر بين التحرّك غير العنيف وبناء السلام، للكاتبتين: نادين بلوك وليزا شيرش، منشور باللغة العربيّة سنة 2018م عن معهد USIP، ويظهر من لائحة المؤلّفين أسماء بعض الباحثين المشاركين من لبنان، هما: (إيلي أبو عون الذي شارك في دورات تدريبيّة ومحاضرات لكوادر القوّات اللبنانيّة حسب ما نشره موقع القوّات اللبنانيّة وماريا اسطفان، وهناك منشورات صادرة عن معهد السلام نفسه منذ العام 2005م، ما يكشف عن تبنّي هذا الخطّ واستمراريّته إلى اليوم.
تعترف المنشورات الأميركيّة بتمويل ودعم ميلشيات مسلّحة معادية لخصومها وأعدائها، وهذه الجماعات قد تكون إرهابيّة، مثل: داعش أو تنظيمات تستخدم العنف ضدّ المدنيّين، وهو عين مفهوم الإرهاب، حيث يعرّف الإرهاب بأنّه «استخدام العنف ضدّ المدنيّين لأهداف سياسيّة». وهذا ما أشار إليه سماحة الأمين العامّ لحزب الله في عدّة خطابات.
قراءة آخر الدراسات الأميركيّة، نجد عدّة اعترافات بالكثير من جوانب الفشل لاستراتيجيّاتها (القدرة على الإرغام أو المنطقة الرماديّة وغيرها) نتيجة قدرة أعداء أميركا وخصومها من التملّص منها، وتوليد بدائل عمليّاتيّة، أدّت إلى تقويض القوّة الأميركيّة الصلبة والناعمة وتآكلهما على السواء، وتعترف أيضًا بوجود نقاط ضعف كبيرة في هياكل الإدارات والوزارات الأميركيّة المعنيّة بهذه الحروب (الدفاع والخارجيّة والخزانة، ووكالات الاستخبارات CIA والتنمية الدوليّة USAID).
بالمقابل، يظهر من الدراسات تركيز الإدارة الأميركيّة على استخدام العقوبات الاقتصاديّة والمصرفيّة والأنظمة الماليّة، واستخدام حرب «الدولار والعملات». وهناك اهتمام ملحوظ وقويّ باستخدام شبكة الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعيّ كجزء من استراتيجيّات التضليل، وأنّ أميركا تملك القدرة على تشكيل «وعي الأعداء والخصوم» من خلال سيطرتها على المعلومات، وشنّ حرب المعلومات من خلال التضليل وبثّ الإشاعات وتشويه السمعة.
ما نستفيده من الدراسة، أنّ الحرب الناعمة لا تزال تعمل، وهي جزء من الاستراتيجيّة الأميركيّة، لكنّها تحوّلت إلى قوّة أكثر إكراهيّة وأكثر إرغاميّة، وهذا ما كشف عن ضعف المصداقيّة والجاذبيّة والشرعيّة في النموذج الأميركيّ، دفع بالحاجة إلى جرعة وشحنة من الخشونة.
بالمقابل، يمكن لمحور المقاومة أن يستفيد من هذه المعطيات والمتغيّرات بخاصّة عودة عقيدة الإرغام لأجل تحويل التهديد إلى فرصة، من خلال إعادة صناعة الحساسيّة والعدائيّة المطلوبة للمواجهة مع الشيطان الأكبر وحلفائه، وهذا الأمر يخدم في تحسين أسلوب المواجهة وتحديد العدوّ من الصديق وهي من أهمّ الخصائص التي طالما نوّه إليها الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، (صدر عام 2020م كتاب «معرفة العدوّ» عن دار الثورة الإسلاميّة التابعة لمكتب حفظ ونشر آثار الإمام الخامنئيّ». وهي مجموعة خطابات طرحها سماحته حول العدوّ ومعرفته تمّ ترتيبها في 600 صفحة تعرض مختلف الأفكار، وهي موزّعة على 14 فصلًا).
تتطلب معرفة العدوّ تخصّص جمع المعلومات عن خطط العدوّ وتحرّكاته وشموليّتها ورصدها ومتابعتها بصورة استباقيّة، حيث لا يمكن للعدوّ التحرّك على نطاق واسع في بيئتنا ومجتمعنا من دون ترك بصمات وآثار، تظهر عبر فلتات لسان شخصيّاته، أو من خلال رصد بنك أهداف وسائل إعلامه ومنصّات حلفائه ومراكز دراساته وسفرائه ودبلوماسيّيه، وهو ما أثبتته تجربة السنوات والأحداث الأخيرة في لبنان وسوريا والعراق وإيران وغيرها، وهو ما يساعد على توقّع خطوات العدوّ الأميركيّ والأوراق والمخطّطات والعمليّات التي يحضرها ويُجهّزها، والأهمّ توقّع المواقيت التي تناسب استهدافات العدوّ ومؤشّرات التحرّك، لأجل إحباط جهوده وبرامجه بالطريقة المناسبة والزمن المقتضي كما يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله).