وقد أحدثت هذه الفتاوى تأثيراً حماسياً في صفوف الجماهير، إذ سارعت جموع كبيرة منهم إلى التطوع في الجيش العراقيّ، ودعم المجهود الحربي بزخم كبير، حتى أن لجان التطوع في النجف اعتذرت عن تسجيل المزيد من الأسماء؛ لأن العدد أصبح أكثر مما يحتاجه الموقف، وتلقى علماء المرجعية في النجف الأشرف كثيراً من البرقيات، يعلنون فيها أصحابها عن استعدادهم التام وأفراد عشائرهم للقيام بالواجب الوطني من أجل إعلاء حكم الله والحق.
وانتهت الانتفاضة الوطنية بالشكل الذي رسمته الإرادة الأجنبية، لأن المواجهة لم تكن متكافئة، فقد كان تفوق لا يحتاج الى بيان كبير، وبعد تغلب الجيش البريطاني ونجاحه في إجهاض الانتفاضة إثر انهيار المقاومة المسلحة العراقية عاد الموالون لبريطانيا إلى الحكم، وكانت عودتهم ايذاناً لخصومهم بحلول وقت التنكيل بهم.
ونرى الكثير من الأطراف المعنية العائدة لسدة الحكم كانت تحرص دائماً على كسب ولاء المرجعية وتأييدها ومساندتها المعنوية ومباركتها الدينية، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار خطورة الفتاوى التي أصدرتها، والخاصة بالجهاد في سبيل الله، ومقاتلة البريطانيين الغاصبين، الأمر الذي استدعى تدخل الحكومة الجديدة والبلاط الملكي من خلال إرسال متصرف لواء كربلاء وقائمقام النجف إلى علماء الدين ومراجع التقليد هناك؛ للضغط عليهم وإقناعهم بالعدول عنها، وإصدار فتاوى جديدة تدعم الاحتلال البريطانيّ، وتؤيد النظام السياسيّ في العراق، إلاّ أنَّ تلك الجهود لم تؤد إلى نتيجة تذكر، بل إنَّ ردود العديد من العلماء جاءت واضحة ولا غبار عليها، لا سيما عندما طلب متصرف لواء كربلاء من الشيخ عبد الكريم الجزائري إصدار فتوى جديدة لدعم موقف الوصيّ عبد الاله والحكومة العراقية، إلا أنَّ الجزائري رفض طلب المتصرف بقوة، مخاطباً إياه: "انكم لن تحصلوا مني على أي فتوى جديدة، كما لن أحيد عن رأيي السابق بالاستعمار البريطاني ومؤيديه في العراق".
ومما له مغزاه أنَّ حكومة نوري السعيد (9 تشرين الأول 1941 – 8 تشرين الأول 1942)، نتيجة لفشلها الذريع في التأثير على مواقف الحركة الوطنية عموماً، وعلماء الدين بشكل خاص، اتجهت نحو التشكيك بالفتاوى الدينية التي صدرت عن طريق دفع بعض الأقلام المأجورة لتفسير تلك الفتاوى تفسيراً خاطئاً ومخالفاً للحقيقية.
ولم تكتف الحكومة بذلك، بل إنّ الضغط على علماء الدين استمر، واشترك فيه – هذه المرة – نخبة من ساسة العراق البارزين، وفي مقدمتهم الوصي عبد الاله، الذي قام بزيارة خاصة إلى النجف الأشرف في (17 تشرين الأول 1941) برفقة كل من السيد محمد الصدر رئيس مجلس الاعيان، وصالح جبر وزير الداخلية ووكيل وزارة الخارجية، وعبد المهدي المنتفكي وزير المعارف، وغيرها، وأثناء ذلك التقوا بالمرجعين الكبيرين السيد أبي الحسن الاصفهاني، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، ويؤكد عدم الكشف عما دار في الاجتماع وبقائه سراً، على فشل الجهود المبذولة وعلى مستويات رفيعة في الدولة لكسب علماء الدين.
انتهى
المصدر موسوعة فتوى الدفاع الكفائي الجزء 3 ص 185