موقف المرجعية الدينية العليا من التطورات السياسية في العراق حتى عام 1955 (2)
وأرسل كاشف الغطاء برقيةً مستعجلة إلى البلاط الملكي كان لها وقعٌ شديد؛ إذ سجّل احتجاجه الغاضب على الانتهاكات الصارخة لحقوق المواطنين، والأساليب القمعية التي تمارسها السلطة ضد الطلبة والأهالي، وأرسل أحد اتباعه إلى الوصي عبد الإله ليقابله شخصياً، ويبلغه طلب علماء المرجعية بإبعاد صالح جبر عن الحكم، وإيقاف المجازر، وإعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، واستمرت المظاهرات بعد ذلك، حتى سمع الناس نداءً من مأذنة الصحن الحيدري الشريف يذيعه الشيخ كاشف الغطاء بنفسه، ويلعن فيه عن استقالة حكومة صالح جبر، وسقوط المعاهدة الجائرة، واندحار الاستعمار، وتشكيل حكومة جديدة رئاسة رجل الدين العالم السيد محمد الصدر، ففرح الناس وأخذوا يرددون (الهوسات) تعبيراً عن الانتصار.
ان المتمعن في إلتفاتة الشيخ كاشف الغطاء الأخيرة وقيامه بمخاطبة الجماهير من خلال مكبرات الصوت في المرقد العلوي المطهّر، يجد لها معاني ودلالات جليلة، لعل أهمها منزلته القيادية المتقدمة، وعلو كعبة بين العلماء المعاصرين، وتميزه بالشعور العالي بالمسؤولية الشرعية لأبناء شعبه المقهور، وتدخله الإيجابي في توجيه الحركة الوطنية وإرشادها، واستجابة العامة له.
وقبل أن نغادر البحث حول دور المرجعية الدينية في وثبة كانون سنة 1948، أرى من الضروري التوقف عند نقطة هي باعتقادي في غاية الأهمية، ألا وهي محاولة البريطانيين الفاشلة، في اشهار سيف الطائفية، لشق وحدة شعبنا العراقي، وتمزيق نضاله الموحد آنذاك، عندما شرح بعض المغرضين في يوم (26 كانون الثاني 1948) بتوزيع منشورات تتهم القائمين بالحركة بعدة تهم، كان أهمها رميهم بالطائفية، باعتبار أن صالح جبر شيعي المذهب، وهو أول رئيس وزراء من هذه الطائفة منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة، لهذه تأليف عليه بقية الطوائف.
ولدحض هذه التقولات يمكن القول أن معظم قادة الاحتجاجات كانوا من أقطاب الشيعة كمحمد مهدي كبه، رئيس حزب الاستقلال، وسعد صالح جريو (النجفي) 1894 – 1949 رئيس حزب الأحرار، والشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس كتلة الجبهة الشعبية المتحدة النيابية، وجعفر حمندي 1894 – 1952 الذي كانت داره مقراً للاجتماعات والتنظيمات.
لهذا قوبلت هذه المنشورات بسخط شديد، وصدرت بيانات من السياسيين تشجب الالتجاء إلى الدجل السياسي، وتنبه الشعب إلى ما يُراد به. كما أن المرجعية بموقف علمائها المشرف، الرافض للمعاهدة، والمطالب بأسقاط وزارة صالح جبر، قد ضربت كل تلك الدسائس عرض الحائط، بعد أن أثبتت عمق انتمائها الوطني الإسلامي الأصيل، وبذلك قطعت الطريق أمام الاستعمار البريطاني، ومن ورائه الدساسين والمغرضين، الذين أغاضهم ذلك التلاحم الجماهيري الرائع الذي شهده العراق يومذاك.