البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦

رسالة في توضيح إجابات ابن قِبَة (رحمه الله) في الإمامة والغيبة

    غيبة الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أكثر المسائل العقائدية التي تناولها أهل البيت (عليهم السلام) بالبيان والتوضيح، وأجابوا عن الأسئلة المثارة حولها من زمن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصولاً إلى الإمام الحجة (عجّل الله فرجه).
وتبعاً لهذا الاهتمام سار علماء الطائفة في بيان غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) ودفع الشبهات والإشكالات المثارة حولها.
وأُلِّفتْ - منذ بدايات عملية التصنيف والكتابة - الرسائلُ والكتبُ حولها.
ومما أُلِّف في رد الشبهات عن الغيبة ما كتبه الفقيه والأصولي عبد الرحمن بن قبة الرازي (أبو جعفر) (رحمه الله)، إذ إن له العديد من المصنفات في هذا الصدد، إلّا أنه لم يصل إلينا شيء مستقل منها، سوى جملة وافرة حوته بطون أمهات الكتب ككتاب كمال الدين للشيخ الصدوق (قدِّس سرّه).
وفي هذا البحث نحاول قدر الإمكان إبراز تراث هذا الرجل العظيم مع شيء من البيان والتوضيح، وهذه هي الحلقة الثانية من توضيح ما أجاب به (رحمه الله) عن بعض الشبهات المثارة حول الإمامة والغيبة، وهو ما يقع في توضيح إجاباته عن مسائل سألها بعض فضلاء علماء الإمامية في زمانه حول شبهات المعتزلي حول الإمامة والغيبة.
المتن:
قال الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه) في كمال الدين (1):
وكتب بعض الإمامية إلى أبي جعفر ابن قبة(2) كتاباً يسأله فيه عن مسائل(3) فورد جوابها:
أمّا قولك - أيدك الله - حاكياً عن المعتزلة(4) أنها زعمت أن الإمامية تزعم أن النص على الإمام واجب في العقل، فهذا تحميل أمرين:
إن كانوا يريدون أنه واجب في العقل قبل مجيء الرُسل (عليهم السلام) وشرع الشرائع، فهذا خطأ.
وإن أرادوا أن العقول دلت على أنه لابد من إمام بعد الأنبياء (عليهم السلام)، فقد علموا ذلك بالأدلة القطعية، وعلموه أيضاً بالخبر الذي ينقلونه عمّن يقولون بإمامته.
توضيح المتن:
يطرح هذا السائل شبهة على لسان فرقة المعتزلة مفادها: أن دعوى الإمامية بلزوم الإمامة هو بواسطة العقل المستقل.
فأجاب عنها الشيخ ابن قبة (رحمه الله) بالتفصيل في قول الإمامة:
فالإمامية لا تقول إن لزوم الإمامة - التي هي منصب بعد خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - هو لزوم عقلي، وأنه يكون قبل وجود النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبل وجود شريعته - فهذا لا تقول به الإمامية - ففعلية الإمامة وأنها لهداية الناس إنما تكون بعد شريعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشريعة الأنبياء (عليهم السلام) لا قبلها، ونسبة القول إلينا بلزوم الإمامة عقلاً قبل نبوة الأنبياء ونبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن هدايتهم لازمة للناس قبل وجود الأنبياء (عليهم السلام)، هذه نسبة باطلة ومخطئة ولا نقول بها، والذي تقول به إن ضرورة وجود الإمام عقلاً إنما هو بعد وجود الشريعة ووجود النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم يأتي دور الإمام (عليه السلام)، وهذا هو واقعنا العملي في هذه العقيدة، نعم دلت الروايات على وجود الأئمة (عليهم السلام) في عوالم أخرى، قبل وجود الخلق، ولكن هذا مطلب آخر لا علاقة له بالحديث عن فعلية الإمامة في هداية الناس وهو المعنى المتنازع فيه مع الفرق الإسلامية الأخرى.
والمعنى الصحيح من الإمامة: هو أنها ضرورة بالعقل بعد الأنبياء (عليهم السلام) وهو مما دل عليه الدليل القطعي العقلي كدليل اللطف (5) والأدلة النقلية الصحيحة والصريحة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن الأئمة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد وقد سجلت الكتب الروائية ذلك مفصلاً (6).
وبكلمة واحدة فإن منشأ الخلاف أن المعتزلة يدّعون أننا نقول في الإمامة بالعقل المستقل، بينما نحن نقول بذلك بالعقل المرشد والذي يستقي مقدماته من الشرع ويؤلف منها القياس الكلامي في مسألة الإمامة.
قال ابن قبة (رحمه الله):
وأمّا قول المعتزلة: إنا قد علمنا يقيناً أن الحسن بن علي (عليه السلام) مضى ولم ينص، فقد ادعوا دعوى يخالَفون فيها وهم محتاجون إلى أن يدلوا على صحتها وبأي شيء ينفصلون (7) ممن زعم من مخالفيهم أنهم قد علموا من ذلك ضد ما ادّعوا أنهم علموه.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن المعتزلة تدّعي أن لديها علماً يقينياً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وأنه لم ينص، ولازمه أنه لا يكون له ولد من عقبه، لأن الغرض من إشكالهم نفي الولد ذريعة بعدم النص.
والشيخ ابن قبة (رحمه الله) يقول: إن هذه الدعوى من المعتزلة مجرد دعوى فاقدة للدليل ومجرد قولها لا يعني ثبوتها، وإلّا فما هو وجه الفرق عن دعوى غيرهم ممن قال بأنه (عليه السلام) توفي وله عقب ولكنه مخفي وغير ظاهر، وهؤلاء - وهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية - يقيمون على دعواهم بأن للإمام الحادي عشر (عليه السلام) خلفاً وولداً من صلبه عدة أدلة توجب العلم بصحة دعواهم، فعلى المعتزلة إقامة الدليل على دعواهم، كما فعلت الإمامية.
وإلّا كانت دعوى المعتزلة في المسألة مجرد مصادرة لتضمّن الدعوى في الدليل دون إقامة حجة أو برهان عليها.
وقال (رحمه الله):
ومن الدليل على أن الحسن بن علي (عليه السلام) قد نص ثبات (8) إمامته، وصحة النص من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وفساد الاختيار، ونقل الشيخ (9) عمّن قد أوجبوا بالأدلة تصديقه أن الإمام لا يمضي أو (10) ينص على إمام كما فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ كان الناس محتاجين في كلّ عصر إلى من يكون خبره لا يختلف ولا يتكاذب كما اختلفت أخبار الأُمة عند مخالفينا هؤلاء، وتكاذبت، وأن يكون إذا أمر ائتُمِر بطاعته، ولا يد فوق يده، ولا يسهو، ولا يغلط، وأن يكون عالماً ليعلِّم الناس ما جهلوا، وعادلاً ليحكم بالحق، ومَن هذا حكمه فلابدّ أن ينص علّامُ الغيوب على لسان من يؤدي ذلك عنه (11) إذ (12) كان ليس في ظاهر خلقته (13) ما يدل على عصمته.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
استدل الشيخ ابن قبة (رحمه الله) بعدة أدلة على وجود الإمام الحجة بعد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وما ذكره من أدلة نضعه في نقاط:
١ - النص من العسكري (عليه السلام):
إن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد نص على إمامة الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) ومن النصوص الكثيرة الدالة على ذلك ما رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فنأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه فقال: بالمدينة (14).
٢ - النص من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث إنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نصَّ على الأئمة بعددهم وأسمائهم وألقابهم وأنسابهم والروايات في ذلك كثيرة، منها:
أ - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «دفع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى علي صحيفة مختومة باثني عشر خاتماً، وقال له فضّ الأول واعمل به، ودفع إلى الحسن (عليه السلام) يفض الثاني ويعمل به، ودفعها إلى الحسين (عليه السلام) يقض الثالث ويعمل بما فيه، ثم إلى واحد واحد من ولد الحسين (عليه السلام)» (15).
ب - عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن الله (عزَّ وجلَّ) اختار من كل شيء شيئاً...، واختار من الناس بني هاشم، واختارني وعلياً من بني هاشم، واختار مني ومن علي الحسن والحسين، وتكملة اثني عشر إماماً من ولد الحسين تاسعهم باطنهم، وهو ظاهرهم، وهو أفضلهم، وهو قائمهم» (16).
٣ - فساد الاختيار: بيان ذلك: إن الأئمة (عليهم السلام) يشترط فيهم عدة صفات وخصائص، منها العصمة والعلم اللدني، وهذا ما لم يطلع عليه أحد من أفراد الأُمة، فكيف يتسنى للأُمة أن تختار من بين أفرادها الإمام؟!
يقول الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل يتحدث فيه عن صفات الإمام وخصائصه: «... فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ العُقُولُ وتَاهَتِ الحُلُومُ وحَارَتِ الألبَابُ وخَسَأَتِ العُيُونُ وتَصَاغَرَتِ العُظَمَاءُ وتَحَيَّرَتِ الحُكَمَاءُ وتَقَاصَرَتِ الحُلَمَاءُ وحَصِرَتِ الخُطَبَاءُ وجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ وكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ وعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ وعَيِيَتِ البُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِه أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِه وأَقَرَّتْ بِالعَجْزِ والتَّقْصِيرِ، وكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّه أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِه أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِه أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَه ويُغْنِي غِنَاه، لَا كَيْفَ وأَنَّى وهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمِ مِنْ يَدِ المُتَنَاوِلِينَ ووَصْفِ الوَاصِفِينَ، فَأَيْنَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وأَيْنَ العُقُولُ عَنْ هَذَا؟ وأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا؟ ... فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ والإِمَامُ عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ ورَاعٍ لَا يَنْكُلُ، مَعْدِنُ القُدْسِ والطَّهَارَةِ والنُّسُكِ والزَّهَادَةِ والعِلْمِ والعِبَادَةِ مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونَسْلِ المُطَهَّرَةِ البَتُولِ، لَا مَغْمَزَ فِيه فِي نَسَبٍ ولَا يُدَانِيه ذُو حَسَبٍ فِي البَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ والذِّرْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ والعِتْرَةِ مِنَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والرِّضَا مِنَ الله (عزَّ وجلَّ) شَرَفُ الأَشْرَافِ والفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي العِلْمِ كَامِلُ الحِلْمِ مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ الله (عزَّ وجلَّ)، نَاصِحٌ لِعِبَادِ الله، حَافِظٌ لِدِينِ الله» (17).
٤ - الإمام لا يمضي إلّا بعد النص على اللاحق:
نقل الشيعة عن أئمتهم (عليهم السلام) الذين أوجب الله تعالى تصديقهم، أن الإمام السابق (عليه السلام) لا يمضي إلّا بعد النص على الإمام اللاحق (عليه السلام)، وهذا هو ما فعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من النص على إمامة الإمام علي (عليه السلام)، وعله الأئمة (عليهم السلام) بعد ذلك في كل إمام، والنصوص في ذلك كثيرة، منها:
أ - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لا يموت الإمام حتى يعلم من يكون من بعده فيوصي [إليه]» (18).
ب - عن عمرو بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أترون الموصي من يوصي إلى من يريد؟ لا والله، ولكن عهد من الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لرجل فرجل حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه» (19).
٥ - حاجة الناس إلى الإمام المعصوم دائمة:
إن الحاجة في كل عصر إلى الإمام الذي لا يقع الاختلاف في أحكامه وأخباره مما دلت عليه الأخبار، ولأن الإمام (عليه السلام) يعلم ما يقول ومتى يقول، وهذا بخلاف ما عند المذاهب الأخرى التي وقعت في الاختلاف في الأخبار لأنهم يأخذون ممن يقع في أقوالهم وأفعالهم خلاف واختلاف، ومما ورد من الروايات في الدلالة على هذا المعنى مضافاً إلى ما تقدم في حديث الإمام الرضا (عليه السلام)، عدة روايات، منها:
أ - عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَقٌّ ولَا صَوَابٌ ولَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقْضِي بِقَضَاءٍ حَقٍّ إِلَّا مَا خَرَجَ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ، وإِذَا تَشَعَّبَتْ بِهِمُ الأُمُورُ كَانَ الخَطَأُ مِنْهُمْ والصَّوَابُ مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)» (20).
ب - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «مَنْ عَرَفَ أَنَّا لَا نَقُولُ إِلَّا حَقّاً فَلْيَكْتَفِ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا فَإِنْ سَمِعَ مِنَّا خِلَافَ مَا يَعْلَمُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ مِنَّا عَنْه» (21).
٦ - الإمام واجب الطاعة:
إن الإمام (عليه السلام) عندنا واجب الطاعة، فإذا أمر بأمرٍ فهو ممن تجب طاعته على الخلق، ولا يكون ذلك إلّا إذا كان منصَّباً ممن له حق الطاعة على الناس، والله تعالى له حق الطاعة على الناس لأنه خالقهم ومالكهم لذلك أرسل للناس الأنبياء وأمر بطاعتهم قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (النساء: ٦٤)، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ﴾ (النساء: ٨٠)، ومن هذه الطاعة تفرعت طاعة الأئمة (عليهم السلام) كما دل عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، وقد دلت الروايات على أن المراد بأولي الأمر هم الأئمة (عليهم السلام)، فمادام الدليل قد قام على لزوم طاعتهم إذا أمروا فهم أئمة منصوبون كما كانت دلالة الأدلة الخمسة المتقدمة ناصعة على إمامتهم، ومما دل من الروايات على لزوم طاعة الأئمة (عليهم السلام):
أ - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ذِرْوَةُ الأَمْرِ وسَنَامُه ومِفْتَاحُه وبَابُ الأَشْيَاءِ ورِضَا الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وتَعَالَى الطَّاعَةُ لِلإِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِه ثُمَّ قَالَ إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: ٨٠]» (22).
ب - عن الحسين بن أبي العلاء، قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) قَوْلَنَا فِي الأَوْصِيَاءِ إِنَّ طَاعَتَهُمْ مُفْتَرَضَةٌ، قَالَ: فَقَالَ: «نَعَمْ، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: ﴿أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ وهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا﴾» (23).
٧ - يده فوق الأيدي:
بيان ذلك:
أن لا يكون فوق الإمام (عليه السلام) من الرعية شخص، فلأنه واسطة الناس جميعاً إلى الله تعالى فلا يد فوقه، ومما دل على ذلك من الروايات ما رواه الشيخ المفيد (قدِّس سرّه) عن هشام بن سالم ومؤمن الطاق (رحمه الله) في حادثة التعرف على الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) والقصة طويلة ولكنها في غاية الأهمية ننقلها بتمامها، قال (قدِّس سرّه):
باب ذكر طرف من دلائل أبي الحسن موسى (عليه السلام) وآياته وعلاماته ومعجزاته:
أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم، قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا ومحمد بن النعمان صاحب الطاق، والناس مجمعون على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه والناس عنده - فسألناه عن الزكاة في كم تجب، فقال: في مائتي درهم خمسة دراهم، فقلنا له: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف؟ قلنا: والله ما تقول المرجئة هذا، فقال: والله ما أدري ما تقول المرجئة.
قال فخرجنا ضلالاً لا ندري إلى أين نتوجه، أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكيين لا ندري أين نتوجه إلى من نقصد، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى المعتزلة، إلى الزيدية، [إلى الخوارج]، فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس على من يجتمع بعد جعفر الناس، فيؤخذ فيضرب عنقه، فخفت أن يكون منهم.
فقلت للأحول: تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنح عني لا تهلك فتعين على نفسك، فتنحى عني بعيداً.
وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه - وقد عرضت على الموت - حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (عليه السلام) ثم خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: ادخل رحمك الله.
فدخلت فإذا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي ابتداء منه:
«إليَّ إليَّ، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، ولا إلى الزيدية»، قلت: جعلت فداك، مضى أبوك؟ قال: «نعم»، قلت: مضى موتا؟ قال: «نعم» قلت: فمن لنا من بعده؟
قال: «إن شاء الله أن يهديك هداك» قلت: جعلت فداك، إن عبد الله أخاك يزعم أنه الإمام بعد أبيه، فقال: «عبد الله يريد ألا يعبد الله» قال: قلت: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: «إن شاء الله أن يهديك هداك» قال: قلت: جعلت فداك، فأنت هو؟ قال: «لا أقول ذلك».
قال: فقلت: في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك، عليك إمام؟ قال: «لا» قال: فدخلني شيء لا يعلمه إلّا الله إعظاماً له وهيبة، ثم قلت: جعلت فداك، أسألك كما كنت أسأل أباك؟ قال: «سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح» قال: فسألته فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جعلت فداك، شيعة أبيك ضلال، فألقي إليهم هذا الأمر وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت علي الكتمان، قال: «من آنست منهم رشداً فألق إليه وخذ عليه بالكتمان، فإن أذاع فهو الذبح» وأشار بيده إلى حلقه.
قال: فخرجت من عنده ولقيت أبا جعفر الأحول، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: الهدى؟ وحدثته بالقصة. قال: ثم لقينا زرارة وأبا بصير فدخلا عليه وسمعا كلامه وساءلاه وقطعا عليه، ثم لقينا الناس أفواجاً، فكل من دخل عليه قطع عليه، إلّا طائفة عمار الساباطي، وبقي عبد الله لا يدخل إليه من الناس إلّا القليل (24).
والشاهد في الرواية قوله للإمام (عليه السلام): (عليك إمام؟ قال: لا) وهو موضع استدلال الشيخ ابن قبة (رحمه الله).
٨ - الإمام معصوم من الخطأ والسهو:
إن من خصائص الإمام (عليه السلام) التي نعتقد بها أنه لا يسهو ولا يغلط، ومما دل من الآيات والروايات على هذا المعنى كثير، منها:
أ - قوله تعالى: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (25) (الأحزاب: ٣٣) وقد فسرت بأهل البيت (عليهم السلام) والإرادة في إذهاب الرجس عنهم (عليهم السلام) مطلقة فتشمل موارد السهو والغلط وغيرها.
ب - ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في خصائص الإمام (عليه السلام) وقد تقدمت الرواية في الرقم (٣)، ومما جاء فيها: «فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ قَدْ أَمِنَ مِنَ الخَطَايَا والزَّلَلِ والعِثَارِ يَخُصُّه الله بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَه عَلَى عِبَادِه وشَاهِدَه عَلَى خَلْقِه و﴿ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الجمعة: ٤؛ الحديد: ٢١]» (26). 
٩ - علم الإمام (عليه السلام) الخاص:
إن من خصائص الإمام (عليه السلام) أن يكون: (وأن لا يأخذ علمه من الناس وإنما علمه لدني)، عالماً وأن علمه لدني بمعنى أن يكون أعلم أهل زمانه وأن لا يدانيه أحد في علمه لكي يعلم الناس ما جهلوا، ومبدأ علم الإمام من أهم المبادئ والأصول في عقيدتنا بالإمامة وصفات الإمام (عليه السلام)، وقد دلت العديد من الروايات على جهات علوم الأئمة (عليهم السلام) وخصائص علمهم وسعته ومنها:
أ - عن سورة بن كليب، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «والله إِنَّا لَخُزَّانُ الله فِي سَمَائِه وأَرْضِه لَا عَلَى ذَهَبٍ ولَا عَلَى فِضَّةٍ إِلَّا عَلَى عِلْمِه» (27).
ب - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده (عليهم السلام)» (28).
ج - عَنِ الوَشَّاءِ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: «قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) عَلَى الأَئِمَّةِ مِنَ الفَرْضِ مَا لَيْسَ عَلَى شِيعَتِهِمْ وعَلَى شِيعَتِنَا مَا لَيْسَ عَلَيْنَا، أَمَرَهُمُ الله (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَسْأَلُونَا، قَالَ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُونَا ولَيْسَ عَلَيْنَا الجَوَابُ إِنْ شِئْنَا أَجَبْنَا وإِنْ شِئْنَا أَمْسَكْنَا» (29).
١٠ - الإمام (عليه السلام) عادل:
إن الإمام (عليه السلام) قائم بالعدل، فالأئمة (عليهم السلام) هم أهل العدل ولأجل إقامته جعلهم الله تعالى، فهم أئمته وبه يحكمون، ومما ورد من الروايات في ذلك:
أ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مِنْ وُلْدِيَ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً نُجَبَاءُ مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ آخِرُهُمُ القَائِمُ بِالحَقِّ يَمْلأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً» (30).
ب - عن يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول الله أنت القائم بالحق؟ فقال: «أنا القائم بالحق ولكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون».
ثم قال: «طوبى لشيعتنا، المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أولئك منا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة، ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة» (31).
وبناءً على هذه الأدلة المتقدمة فوجود الإمام الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه باعتبار أن الخصائص التي تقدم ذكرها في الإمام (عجّل الله فرجه) لا يعلمها إلّا الله تعالى علّام الغيوب، فلابد أن يبين الله تعالى للناس الشخص الذي تتجسد فيه هذه الصفات والجامع الذي يجمع هذه الصفات هو العصمة، وهو ما عبر عنه الشيخ ابن قبة (رحمه الله) في آخر كلامه بقوله: (إذ كان ليس في ظاهر خلقته ما يدل على عصمته).
قوله (رحمه الله):
فإن قالت المعتزلة: هذه دعاوى (32) تحتاجون أن تدلّوا على صحتها.
قلنا: أجل، لابد من الدلائل على صحة ما ادعيناه من ذلك، وأنتم، فإنما (33) سألتم عن فرع والفرع لا يُدلُّ عليه دون أن يُدَلَّ على صحة أصله، ودلائلنا في كتبنا موجودة على صحة هذه الأصول.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن ادّعت المعتزلة وقالت:
إن الأدلة المتقدمة في الدلالة على وجود الحجة بن الحسن (عليه السلام) هي مجرد دعاوى وليس فيها دلالة على دعوى الإمامية من وجود الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فإن الشيخ ابن قبة (رحمه الله) يقول:
هذا القول من أن الدعاوى لابد أن تقام عليها أدلة هو قول صحيح، وكما هو موجه لنا هو كذلك للمعتزلة في دعواهم النفي.
وأمّا دلالة الأدلة المتقدمة على وجود آخر الأئمة (عليهم السلام) فهو مبني على صحة الأصول التي تعتقد بها الإمامية (أعزهم الله تعالى) وعلى هذه الأصول تفرعت الأدلة المتقدمة، وكتب علماء الإمامية مشحونة ببيان هذه الأصول.
يقول السيد المرتضى في المقنع في الغيبة (34): وإني لأرى من اعتقاد مخالفينا: (صعوبة الكلام في الغيبة وسهولته علينا، وقوته في جهتهم، وضعفه من جهتنا) عجباً!
والأمر بالضد من ذلك وعكسه عند التأمل الصحيح، لأن الغيبة فرع لأصول متقدمة، فإن صحت تلك الأصول بأدلتها، وتقررت بحجتها، فالكلام في الغيبة أسهل شيء وأقربه وأوضحه، لأنها تبتني على تلك الأصول وتترتب عليها، فيزول الإشكال.
وإن كانت تلك الأصول غير صحيحة ولا ثابتة، فلا معنى للكلام في الغيبة قبل إحكام أصولها، فالكلام فيها من غير تمهيد تلك الأصول عبث وسفه.
فإن كان المخالف لنا يستصعب ويستبعد الكلام في الغيبة قبل الكلام في وجوب الإمامة في كل عصر وصفات الإمام، فلا شك في أنه صعب، بل معوز متعذر لا يحصل منه إلّا على السراب.
وإن كان (له مستصعباً) مع تمهد تلك الأصول وثبوتها، فلا صعوبة ولا شبهة، فإن الأمر ينساق سوقا إلى الغيبة ضرورة إذا تقررت أصول الإمامة.
ثم يقول (قدِّس سرّه): أصلان موضوعان للغيبة: الإمامة، والعصمة، وبيان هذه الجملة:
إن العقل قد دل على وجوب الإمامة، وإن كل زمان - كلف فيه المكلفون الذين يجوز منهم القبيح والحسن، والطاعة والمعصية - لا يخلو من إمام، وأن خلوه من إمام إخلال بتمكينهم وقادح في حسن تكليفهم.
ثم دل العقل على أن ذلك الإمام لابد من كونه معصوماً من الخطأ والزلل، مأموناً منه فعل كل قبيح.
وليس بعد ثبوت هذين الأصلين (إلّا إمامة) من تشير الإمامية إلى إمامته، فإن الصفة التي دل العقل على وجوبها لا توجد إلّا فيه، ويتعرى منها كل من تدعى له الإمامة سواه، وتنساق الغيبة بهذا سوقاً حتى لا تبقى شبهة فيها.
وهذه الطريقة أوضح ما اعتمد عليه في ثبوت إمامة صاحب الزمان، وأبعد من الشبهة.
فإن النقل بذلك وإن كان في الشيعة فاشياً، والتواتر به ظاهراً، ومجيؤه من كل طريق معلوما، فكل ذلك يمكن دفعه وإدخال الشبهة فيه، التي يحتاج في حلها إلى ضروب من التكليف، والطريقة التي أوضحناها بعيدة من الشبهات، قريبة من الأفهام.
وبقي أن ندل على صحة الأصلين اللذين ذكرناهما.
ثم يشرع (قدِّس سرّه) بالاستدلال على أصل وجوب الإمامة وأصل وجوب العصمة مفصلاً، فراجع.
وكذلك ذكر شيخ الطائفة (قدِّس سرّه) ذلك في كتاب الغيبة (35).
قوله (رحمه الله):
ونظير ذلك أن سائلاً لو سألنا الدليل على صحة الشرائع لاحتجنا أن ندل على صحة الخبر وعلى صحة نبوة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى أنَّه أمر بها، وقبل ذلك أن الله (عزَّ وجلَّ) واحد حكيم، وذلك بعد فراغنا من الدليل على أن العالم محدث، وهذا نظير ما سألونا عنه.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
في مسألة إمامة الحجة (عجّل الله فرجه) وغيبته توجد نظائر، ومن أوضح نظائر هذه المسألة - في ضرورة الرجوع إلى الأصول، وكون الغيبة فرعاً لأصول إن صحت فإنها تصح بلا تردد -، عدة مسائل لا يخالف فيها المعتزلي (36) منها ما لو سألنا عن صحة الشريعة، فإن الجواب على صحتها متوقف على أصول لابد أن تصح أولاً لكي يترتب عليها صحة الفروع، ومنها صحة الشريعة، وهذه الأصول هي:
١ - إننا نعتمد في إثبات الصحة من عدمها على الأخبار، فلابد أن نبحث في هذه المسألة ونبين المسالك في الخبر الذي نعتمد عليه ونأخذ بمضمونه في مقابل الخبر الذي لا يصح الاعتماد عليه في هذه المسألة، فهذا أصل لابد من الفراغ عنه، لأن طريقنا الآن منحصر بالأخبار لنعرف بها الشريعة وتفاصيلها ومسائلها، وهو ما يبحث عنه في علم الرجال والحديث والدراية.
٢ - إننا نعتمد كذلك في إثبات صحة الشرائع على ثبوت النبوة والاستدلال على صحة دعواها، وهو ما تتكفل به مسائل علم الكلام في مسائل بحث النبوة.
٣ - إننا نعتمد على صحة الأخبار التي صدرت من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ثبوت نبوته والدالة على التعبد بالشريعة وهو ما نأخذه من الروايات المعتبرة الدالة على ذلك.
٤ - قبل كل هذا فإننا نعتمد على إثبات وحدانية الله تعالى وحكمته، وكذلك مسألة حدوث العالم الذي ينتهي إلى ضرورة وجود الذات المقدسة المتصفة بصفات الجمال والمنزهة عن صفات الجلال، وهو ما يتكفل بإثباته البحث في مسائل علم الكلام في بحث إثبات الذات والصفات والتوحيد، وتذكر عادة في كتب الكلام عدة أدلة دالة على ذلك، كل هذه المسائل نظير ما سألنا عنه المعتزلي.
قوله (رحمه الله):
وقد تأملت في هذه المسألة(37) فوجدت غرضها ركيكاً، وهو:
إنهم قالوا: لو كان الحسن بن علي (عليه السلام) قد نص على من تدعون إمامته لسقطت الغيبة.
والجواب في ذلك: أن الغيبة ليست هي العدم، فقد يغيب (38) الإنسان إلى بلد يكون معروفاً فيه ومشاهداً لأهله ويكون غائباً عن بلد آخر، وكذلك قد يكون الإنسان غائباً عن قوم دون قوم، أو عن أعدائه لا أوليائه.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن مدعى المعتزلة في نفي وجود الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) بعد الأدلة المتقدمة هو من المدعيات الموهونة والضعيفة، فما يقولونه من دفع وجود الإمام (عجّل الله فرجه) ودفع حصول الغيبة فيه كل هذه المدة، ركيك وغير مستدل.
فإنهم يدعون أن الإمام العسكري (عليه السلام) لو كان لديه نص على إمامة ولده الحجة (عجّل الله فرجه) فهذا معناه أنه لابد أن ينص على شخص ظاهر معروف بين الناس لكي يصح النص عليه والإشارة بالإمامة له، ومع دعوى الإمامية غيبته وعدم وجوده بين الناس يكون النص عليه باطلاً، لأنه لا يصح النص والإشارة على الغائب!
الشيخ (رحمه الله) يقول لهؤلاء: إنكم فسرتم الغيبة بمعنى خاطئ فوقعتم في الاستدلال الركيك، فالغيبة ليست بمعنى العدم، إذ لو كانت الغيبة تساوق العدم أو تساويه فكيف يصح إطلاقها على الإنسان المعروف الذي يذهب ويسافر إلى بلد آخر فهو قد غاب عن بلده إلى بلد آخر معروف فيه، فيصدق عليه أنه معروف ومشهور وفي ذات الوقت يصدق عليه أنه غائب عن بلده، هذا تنافٍ - حسب مدعى المعتزلة -، ومرد حصول هذا التنافي هو تفسيركم الخاطئ للغيبة.
وكذلك يصح إطلاق لفظ الغائب على الشخص الذي يغيب عن جماعة من الناس دون جماعة أخرى، فلا يراه بعض الناس مع أنه يُرى من قبل الجماعة الأولى منهم.
وكذلك يصح إطلاق لفظ الغيبة على الإنسان الذي يتخفى عن أعدائه ويغيب عنهم، مع أنه حاضر مع أوليائه وأهل مودته.
فالمشكلة ليست في الغيبة التي وقعت في الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه)، والتي دلت عليها الأدلة، ومنها بعض ما تقدم، بل المشكلة في تفسيركم الخاطئ والركيك للغيبة.
قوله (رحمه الله):
فيُقال: إنه غائب وإنه مستتر.
وإنما قيل: غائب، لغيبته عن أعدائه، وعمّن لا يوثق بكتمانه من أوليائه، وأنّه ليس مثل آبائه (عليهم السلام) ظاهراً للخاصة والعامة، وأولياؤه مع هذا ينقلون وجوده، وأمره، ونهيه، وهم عندنا ممّن تجب بنقلهم الحجة، إذ (39) كانوا يقطعون العذر، لكثرتهم، واختلافهم في همهم، ووقوع الاضطرار مع خبرهم (40)، ونقلوا ذلك.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
فإن الذي يغيب في بلد عن آخر، وعن جماعة من الناس دون جماعة، وعن أعدائه دون أوليائه، يسمى غائباً ومستتراً مع أنه في نفس الوقت موجود مع أوليائه ومع جماعة من الناس وفي مكان يُعرف فيه، ووجه تسميته بأنه غائب هو لحصول الغيبة عن بعض الأمكنة أو الناس أو صنف منهم، فبهذا اللحاظ يسمى غائباً، وهذا لا يعني انعدامه بغيبته، فمن لا يكون متواجداً مع من لا يثق بهم وبكتمانهم من محبيه وأوليائه، لا يقال له إنه معدوم عنهم فضلاً عن غيرهم.
وسبب حصول هذه الحالة من الغيبة في الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) أنه يختلف عن الأئمة من آبائه (عليهم السلام) حيث كانوا ظاهرين للخاصة والعامة من الناس دونه هو (عجّل الله فرجه)، فقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا الصدد أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني منها فجعلني نبياً، ثم اطَّلع الثانية فاختار منها علياً فجعله إماماً، ثم أمرني أن أتّخذه أخاً وولياً ووصياً وخليفة ووزيراً، فعلي مني وأنا من علي وهو زوج ابنتي وأبو سبطي الحسن والحسين، ألا وإن الله تبارك وتعالى جعلني وإياهم حججاً على عباده، وجعل من صلب الحسين أئمة يقومون بأمري يحفظون وصيتي، التاسع منهم قائم أهل بيتي، ومهدي أُمتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله، يظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلة...» (41).
ورغم وقوع الغيبة في الإمام (عجّل الله فرجه) التي أخبر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمعنى المتقدم، إلّا أن أولياء الإمام (عجّل الله فرجه) ممن يوثق بكتمانهم قد نقلوا إلى الناس ما يصدر منه (عجّل الله فرجه) من أوامر ونواهي، وهذا يكشف عن وجوده (عجّل الله فرجه) وعن حصول اللقاء به (عجّل الله فرجه) والأخذ عنه (عجّل الله فرجه)، ويترتب عليه وجوب طاعته والتزام أوامره ونواهيه (عجّل الله فرجه).
وهذا النقل عنه بتوسط هؤلاء الأولياء هو المعروف بالسفارة والوكالة عنه (عجّل الله فرجه) من قبل السفراء الأربعة، العمري وابنه وابن روح والسمري (رحمهم الله).
وقد نقلوا عنه العشرات بل أكثر مما عرف بالتوقيعات التي تصدر من الناحية المقدسة، منها ما رواه الشيخ الصدوق قال (قدِّس سرّه): (توقيع من صاحب الزمان (عليه السلام) كان خرج إلى العمري وابنه (رضي الله عنهما) رواه سعد بن عبد الله...) (42).
وروى أيضاً عن عبد الله بن جعفر الحميري: (وخرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه (رضي الله عنهما)...).
حتى أن علماءنا (قدّس سرهم) بوَّبوا في ذلك الأبواب.
قال الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه) باب: ذكر التوقيعات الواردة عن القائم (عليه السلام) وذكر فيه (٥٢) توقيعاً (43)، وكذلك ذكر غيره.
وهؤلاء النَقَلة لهذه التوقيعات يتمتعون بأعلى درجات الوثاقة والأمانة في النقل حتى صاروا هم الواسطة بينه (عجّل الله فرجه) وبين شيعته ومواليه.
ونقل مثل هؤلاء تجب فيه الحجية اللازمة.
ثم نقلت التوقيعات عنهم بواسطة الرواة وأصحاب الحديث إلى الحد الذي يوجب بسبب كثرة النقل الاطمئنان بصدور التوقيعات من الناحية المقدسة لكثرة من نقل هذه التوقيعات على اختلافهم في الزمان والمكان والمكانة العلمية والاجتماعية وغير ذلك.
فصار من اللازم الاضطرارُ إلى قبول ما نقل عنهم والاطمئنان بصدوره والأخذ به وتصديقه.
ومما نقلوه وقوع الغيبة على الحجة (عجّل الله فرجه) مع اعتقادهم بوجوده والأحاديث في ذلك متواترة.
قال (رحمه الله):
كما نقلوا إمامة آبائه (عليهم السلام)، وإن خالفهم مخالفوهم فيها وكما (44) تجب بنقل المسلمين صحة آيات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى القرآن (45) وإن خالفهم أعداؤهم من أهل الكتاب(46)، والمجوس(47)، والزنادقة(48)، والدهرية(49)، في كونها، وليست هذه مسألة تشتبه على مثلك مع ما أعرفه من حسن تأملك.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن من نقل غيبة الحجة (عجّل الله فرجه) هم بأنفسهم الرواة الموثوق بهم والمعتمد عليهم في نقل أحكام الدين من إمامة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، فلا معنى للتفصيل بين نقلهم لإمامة آباء الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) فنقبل بها، ونقلهم لإمامته وغيبته (عجّل الله فرجه) فنرفضها ولا نقبل بها، هذا تفصيل لا معنى له ولا دليل عليه.
ونحن نقبل من هؤلاء الرواة الموثوق بهم وبصدقهم في النقل، ونأخذ منهم أحكام الدين المنقولة بواسطتهم، رغم وجود مخالف يخالفهم في نقل أحكام أخرى في الدين، قد تكون مباينة لما ينقله الرواة الذين نعتمد عليهم في العمل بأحكام الدين، فمن يدعي التفصيل بين نقل ونقل عليه أن يقدم هو الدليل لا نحن.
وهذه القضية في تصديق الرواة والأخذ بما ينقلون جارية عند الطاعنين علينا، فهم يأخذون بنقلة أحكام الدين رغم أن هناك زنادقة ومجوساً ودهرية وغيرهم ينكرون هذا النقل ولا يأخذون به، وهذا البناء في الأخذ من الرواة سيرة قائمة في كل مذهب ودين وملة، فلا وجه للتفصيل فيه بغير دال ومستند على التفصيل، نعم فيما يرتبط بالأخذ بالآيات من القرآن الكريم المسألة مختلفة لأن وصوله بنحو التواتر - بل هو معجزة قائمة بنفسه لا يحتاج إلى نقل - لا بنقل الأخبار واحداً عن واحد، وإن كان تقدم أن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) هي من القضايا التي نطمئن بل نقطع بها لكثرة من نقلها على ما تقدم في توضيح المقطع السابق.
وهذه المسألة يرى الشيخ ابن قبة (رحمه الله) أنها مما لا ينبغي أن يقع فيها الاشتباه خصوصاً من مثل الشخص النبيه وحسن التأمل، وهو حسب نص عبارته (مع ما أعرفه من حسن تأملك) يرى أن الشخص الذي سأله من أهل الفضل والدقة فكيف انطلت عليه شبهة المعتزلة.
قال (رحمه الله):
وأمّا قولهم إذا ظهر فكيف يُعلم أنه محمد(50) بن الحسن بن علي (عليه السلام)؟
فالجواب في ذلك:
أنه قد يجوز بنقل من تجب بنقله الحجة من أوليائه كما صحت إمامته عندنا بنقلهم.
وجواب آخر وهو:
أنه قد(51) يجوز أن يُظهِر معجزاً يدل على ذلك.
وهذا الجواب الثاني هو الذي نعتمد عليه ونجيب الخصوم به وإن كان الأول صحيحاً.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن المعتزلة تقول كيف لكم أن تتعرفوا على الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) إذا ظهر من غيبته الطويلة، فبعد أن لم تكن لكم معرفة بشخصه ولم تروه من قبل ولم تشاهدوا صورته وهيأته، كيف لكم أن تتعرفوا عليه إذا ظهر؟
إذ قد يدعي مدعٍ أنه هو مع أنه ليس كذلك؟
وكم حصل ذلك.
الشيخ (رحمه الله) يقول: لنا طريقان صحيحان للتعرف عليه:
الأول: أن نعرفه من خلال قول من يكون قوله حجة علينا، فإذا وُجد في زمان ظهوره أشخاصٌ تكون أقوالهم حجة علينا في المسائل الدينية، فإن قول هؤلاء كافٍ في التعرف عليه وتحديد شخصه، بعد الفراغ عن كون قولهم حجة علينا في هذه المسألة، وهذا له نظير في زمان الأئمة (عليهم السلام)، فليس كل شخص شاهد آباءه الطاهرين وتعرف على شخوصهم، وإنما اعتقد إمامتهم عامة الناس ممن يوالونهم اعتماداً على نقل من تجب بنقلهم الحجة، خصوصاً في ذلك الزمان وفي البلدان البعيدة عن تواجد الأئمة (عليهم السلام)، كذلك الأمر عند ابن الحسن الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن قول هذا - أي الشخص الذي قوله حجة علينا - حجة علينا، وبه نتعرف عليه (عجّل الله فرجه).
الثاني: أن نعرفه من خلال إقامته للمعجزة كما فعل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عدة مواطن وكذلك فعلها الأئمة (عليهم السلام) من بعده، بل فعلها الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) مباشرة بعد ولادته أو بواسطة النواب والسفراء، حيث دلت الأخبار على ظهور المعاجز على يديه، هذا طريق آخر وصحيح، وهو الطريق المعتمد في مجال النقاش والمحاورة مع المخالفين والخصوم، وإن كان الطريق الأول صحيحاً أيضاً كما صرح الشيخ (قدِّس سرّه) بذلك.
قال (رحمه الله):
وأمّا قول المعتزلة فكيف لم يحتج عليهم علي بن أبي طالب بإقامة المعجز يوم الشورى؟
فإنا نقول: إن الأنبياء والحجج (عليهم السلام) إنما يظهرون من الدلالات والبراهين حسب ما يأمرهم الله (عزَّ وجلَّ) به مما يعلم الله أنه صالح(52) للخلق، فإذا ثبتت الحجة عليهم بقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه، ونصه عليه، فقد استغنى بذلك عن إقامة المعجزات.
اللهم إلّا أن يقول قائل: إن إقامة المعجزات كانت أصلح في ذلك الوقت.
فنقول له: وما الدليل على صحة ذلك؟
وما ينكر الخصم من أن تكون إقامته لها ليس بأصلح وأن يكون الله (عزَّ وجلَّ) لو أظهر معجزاً على يديه في ذلك الوقت لكفروا أكثر من كفرهم ذلك الوقت ولادّعوا عليه السحر والمخرقة(53)، وإذا كان هذا جائزاً لم يُعلم أن إقامة المعجز كانت أصلح.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
وقد ينقض على ما تقدم بأن المعجزة لو كانت متاحة للأولياء لإثبات دعواهم فلِمَ لمْ يُقِمْ الإمام علي (عليه السلام) المعجزة يوم الشورى، ويثبت حقانيته بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
والجواب عن هذا النقض بـ:
١ - إن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يأتون بالمعجزة امتثالاً لأمر الله تعالى، وهو تعالى يعلم متى يكون الصلاح في إقامة المعجزة.
٢ - إن حقانية الإمام علي (عليه السلام) ثابتة بالنقل الصحيح من أقوال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في النص عليه باسمه وصفته في عدة مواطن، وبعد وضوح النص عليه - خصوصاً عند أصحاب الشورى - وثبوته فإنه مستغنٍ عن الإتيان بالمعجزة لإثبات حقانيته.
إن قلت: نسلِّم ما تقولون ولكن الأصلح هو إقامة المعجزة في ذلك الوقت، فمع كون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أثبت حقانية إمامته إلّا أن الأصلح الإتيان بالمعجزة في يوم الشورى.
قلت: من قال إن الأصلح هو ذلك، وما الدليل عليه؟
وهل للمعتزلي أن يجزم ويقطع أنه لو أقام المعجزة فإنهم سوف يخضعون له؟
ألا يحتمل أنهم يتّهمونه بالسحر والشعوذة؟
ألا يحتمل أن يكفروا أكثر مما هم عليه من الكفر بالإمامة.
فمع وجود هذه الاحتمالات لا يمكن القول إن إقامة المعجزة هو الأصلح.
قال (رحمه الله):
فإن قالت المعتزلة: فبأي شيء تعلمون أن إقامة مَن تدّعون إمامته المعجز على أنه ابن الحسن بن علي (عليه السلام) أصلح؟
لسنا نعلم أنه لابد من إقامة المعجز في تلك الحال، وإنما نجوِّز ذلك.
اللهم إلّا أن يكون لا دلالة غير المعجز، فيكون لابد منه(54) لإثبات الحجة، وإذا كان لابدّ منه(55)، كان(56) واجباً، وما كان واجباً كان صلاحاً لا فساداً.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
قد تدّعي المعتزلة عدم وجود صلاح وضرورة في إقامة المعجزة من الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) عند ظهوره، وذلك لعدم وجود علم لدينا - ومن یدعي إقامة المعجزة - يكشف عن لزوم إقامتها لإثبات أنه الحجة (عجّل الله فرجه).
المصنف (قدِّس سرّه) يقول: نحن نفصل بين حالتين:
الحالة الأولى: إذا وجد طريق آخر لإثبات هوية الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) ففي هذه الحالة نحن لا ندعي أن المعجزة لازمة، بل قلنا على ما تقدم إنها أحد طرق إثبات أنه هو الحجة ابن الحسن (عجّل الله فرجه) فله أن يأتي بالمعجز لإثبات هويته وله غير ذلك، فنحن نقول بالجواز لا بالوجوب واللزوم.
الحالة الثانية: إذا انحصر طريق إثبات هويته وأنه الحجة ابن الحسن (عجّل الله فرجه) بالمعجز، فهنا يجب الإتيان بالمعجزة ولا تكون جائزة بل واجبة، وإذا كانت واجبة كانت مشتملة على المصلحة، ومن الصلاح الإتيان بها بل لا يجوز تركها.
فنحن نفصل، وفي الحالتين لا يوجد فساد في الإتيان بالمعجز.
قال (رحمه الله):
وقد علمنا أن الأنبياء (عليهم السلام) قد أقاموا المعجزات في وقت دون وقت، ولم يقيموها في كل يوم ووقت ولحظة وطرفة، وعند كل محتجّ عليهم ممّن أراد الإسلام، بل في وقت دون وقت، على حسب ما يعلم الله (عزَّ وجلَّ) من الصلاح.
وقد حكى الله (عزَّ وجلَّ) عن المشركين أنهم سألوا نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يرقى في السماء وأن(57) يُسقِط السماء عليهم كسفاً أو يُنزِّل عليهم كتاباً يقرؤونه، وغير ذلك مما في الآية(58)، فما فعل ذلك بهم، وسألوه(59) أن يحيي لهم قصي بن كلاب(60)، وأن ينقل عنهم جبال تهامة(61)، فما أجابهم إليه، وإن كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أقام لهم غير ذلك من المعجزات، وكذا حُكم ما سألت المعتزلة عنه، ويقال لهم كما قالوا لنا: لم نترك أوضح الحجج وأبين الأدلة من تكرر المعجزات والاستظهار بكثرة الدلالات.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن من المعلوم لدينا ولدى المعتزلي أن الأنبياء وكذا الحجج (عليهم السلام) قد أقاموا المعجزات، ولكن ليست إقامتهم لها في كل لحظة وعند كل طلب، بل في أوقات يرون صلاح إقامة المعجز فيها بتعليم الله تعالى لهم، والقصص في بيان هذا التفصيل منها:
ما حكاه القرآن الكريم في بيان طلبات المشركين لبعض المعاجز وعدم استجابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها.
وكذلك منها: ما حكي من أخبار النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطلب إحياء بعض الأشخاص، وغير ذلك.
فالملاك في الإتيان بالمعجز هو المصلحة، ولا يعلمها إلّا النبي أو الحجة (عليهما السلام)، فالحكم في مسألة إقامة المعجزة من الحجة (عجّل الله فرجه) منوط بوجود مصلحة هو يقدرها بتعليم الله تعالى له.
على أن الأدلة التي تثبت نبوة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحقانية دعوته، من غير الجهة التي رفض فيها قبول بعض طلبات المشركين ظاهرة الدلالة على حقانيته سواء أكانت بالإعجاز أم بغيره، والأمر مع الحجة (عجّل الله فرجه) كذلك.
فلا وجه لما يقوله المعتزلي.
قوله (رحمه الله):
وأمّا قول المعتزلة: إنه احتجَّ بما يحتمل التأويل.
فيُقال: فما احتجَّ عندنا على أهل الشورى إلّا بما عرفوا من نص النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأن أولئك الرؤساء لم يكونوا جهالاً بالأمر، وليس حكمُهم حكمَ غيرهم من الاتباع.
ونقلب(62) هذا الكلام على المعتزلة فيقال لهم: لِـمَ لَـمْ يبعث الله (عزَّ وجلَّ) بأضعاف مَن بعث من الأنبياء؟
ولِـمَ لَـمْ يبعث في كل قرية نبياً؟ وفي كل عصر ودهر نبياً أو أنبياء إلى أن تقوم الساعة؟
ولِـمَ لَـمْ يُبيِّن معاني القرآن حتى لا يشك فيه شاك؟
ولِـمَ كان محتملاً للتأويل؟
وهذه المسائل تضطرهم إلى جوابنا.
توضيح ما قاله (رحمه الله):
إن المعتزلة تدعي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) احتج على أهل الشورى بما هو قابل للتأويل، وما هو كذلك لا يكون فيه الحجة القاطعة، ومع عدم كون الحجة قاطعة فلابد من المعجزة، وعدم إتيانها في ذلك الوقت رغم وضوح الحاجة إليها يكشف أنها ليست بيد الحجج (عليهم السلام)، فكيف تدعون أنه يمكن التعرف على الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) إذا ظهر بالمعجزة.
المصنف (قدِّس سرّه) يقول لهم: إن دعوى احتجاج الإمام (عليه السلام) يوم الشورى بما هو قابل للتأويل، منكرة، فالذي لدينا من أدلة تكشف عن احتجاجه بما هو نص في إثبات أحقيته بالأمر بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، على أن من احتج عليهم من قدماء الصحابة ليسوا جهالاً بما يصدر من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى يقال إنه قابل للتأويل، وحكم قربهم من عهده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوجب عليهم ما لا يوجب على غيرهم من الاتباع ممن تأخروا.
ثم نقول للمعتزلة على وجه الجواب النقضي ومن وجوه عدة:
١ - لِـمَ لَـمْ يبعث الله تعالى من الأنبياء بأعداد مضاعفة؟
٢ - لِـمَ لَـمْ يبعث الله تعالى في كل قرية نبياً أو عدداً من الأنبياء؟
٣ - لِـمَ لا يكون بعث الأنبياء مستمراً إلى يوم القيامة وفي كل دهر وعصر؟
٤ - لِـمَ لَـمْ يجعل الله تعالى معاني القرآن ظاهرة وواضحة للجميع؟
٥ - لِـمَ جعل الله تعالى القرآن الكريم حمالاً للوجوه ومحتملاً للتأويل؟
فإنهم سوف يجيبون بأن وراء ذلك مصالح خفيت علينا ولا نعلمها والله تعالى هو العالم بها وقد علَّمها حججه وأولياءه (عليهم السلام)، وجوابنا هو هو في قضية الإمام (عجّل الله فرجه)، وبهذه الأجوبة يظهر الجواب على المعتزلي.
يقول الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه): إلى هنا كلام أبي جعفر بن قبة (رحمه الله)، أي إنه ينتهي ما وصل من جوابه على من سأله من الإمامية حول نقض المعتزلي على إقامة الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) وغيبته والتعرف عليه عند ظهوره.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في حلقة قادمة توضيح إجابات الشيخ ابن قبة (رحمه الله) في نقض كتاب الأشهاد الذي ألفه أبو زيد العلوي، وأدرج معظمه الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه) في كتابه كمال الدين.
والحمد لله تعالى أولاً وآخراً.

الهوامش:

(1) كمال الدين: ص٦٧.
(2) تقدمت ترجمته في الحلقة الأولى.
(3) لم نعرف من الذي كتب إلى أبي جعفر (رحمه الله)، و لم يذكر أيٌّ من المؤرخين ولا الشيخ الصدوق أو ابن قبة (رحمهما الله) نص هذه المسائل، نعم يمكن التعرف على بعضها من خلال الأجوبة الصادرة من الشيخ ابن قبة (رحمه الله)، كما ويظهر من بعض عبارات الشيخ ابن قبة (رحمه الله) الآتية مكانة هذا السائل وأنه من أهل الفضل حيث قال في وصفه (وليست هذه مسألة تشتبه على مثلك مع ما أعرفه من حسن تأملك).

(4) فرقةٌ كلاميّةٌ ظهرت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي. لعبت دوراً رئيساً على المستوى الديني والسياسي. غلبت على المعتزلة النزعةُ العقلية فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بالفكر قبل السمع، ورفضوا الأحاديث التي لا يقرها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرعٌ بذلك. وأنه إذا تعارض النص مع العقل قدموا العقل لأنه أصل النص، ولا يتقدم الفرع على الأصل. والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، فالعقل بذلك موجبٌ، وآمرٌ وناهٍ. ينقدُهم معارضوهم أنهم غالوا في استخدام العقل وجعلوه حاكماً على النص، وبذلك اختلفوا عن السلفية الذين استخدموا العقل وسيلة لفهم النص وليس حاكماً.
من أشهر المعتزلة واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وإبراهيم النظام، وهشام بن عمرو الفوطي، والزمخشري صاحب تفسير الكشاف، والجاحظ، والمأمون، والقاضي عبد الجبار.
يُعتقد أن أول ظهور للمعتزلة كان في البصرة في العراق، ثم انتشرت أفكارهم، اختلف المؤرخون في بواعث ظهور مذهب المعتزلة وتمثله الرواية الشائعة في اعتزال واصل بن عطاء عن شيخه الحسن البصري في مجلسه العلمي في الحكم على مرتكب الكبيرة، وكان الحكم أنه ليس بكافر. وتقول الرواية إن واصل بن عطاء لم ترقه هذه العبارة وقال هو في (منزلة بين منزلتين)، أي لا مؤمن ولا كافر. وبسبب هذه الإجابة اعتزل مجلس الحسن البصري وكوّن لنفسه حلقة دراسية وفق ما يفهم ويقال حين ذاك إن الحسن البصري أطلق عبارة (اعْتزَلنا واصل). [يراجع لذلك عدة مصادر، منها: ١ - الفرق بين الفرق - عبد القاهر البغدادي؛ ٢ - بحوث في الملل والنحل - الشيخ جعفر السبحاني].
(5) يراجع للوقوف على دليل اللطف كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: ص١٣؛ وتلخيص الشافي: ج١، ص٦٩، الطريقة الأولى في الكلام في وجوب الإمامة عقلاً.
(6) راجع كتاب الكافي: ج١، ص٢٨٥-٣٢٨، حيث أورد العديد من الأحاديث في عدة فصول في النص على إمامة كل إمام من أئمة أهل البيت من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الحجة (عجّل الله فرجه).
(7) يختلفون ويتميزون.
(8) أي أنه ذكر النص على إثبات إمامة من يأتي من بعده وهو ولده الحجة (عجّل الله فرجه).
(9) في نسخة أخرى الشيعة وهو الأقرب.
(10) أي لا يمضي إلّا وينص على إمام، ولعل الأصوب في العبارة (إلّا أن ينص).
(11) أي أن ينص الله تعالى بواسطة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام السابق على الإمام اللاحق.
(12) لعل الأصوب (إذ إنه ليس...).
(13) لعل الأصوب (خلقه).
(14) الكافي: ج١، ص٣٢٨.
(15) الغيبة للشيخ النعماني: ص٦١.
(16) الغيبة للشيخ النعماني: ص٧٣.
(17) الكافي: ج١، ص٢٠٢.
(18) الكافي: ج١، ص٢٧٧.
(19) الكافي: ج١، ص٢٧٨.
(20) الكافي: ج١، ص٣٩٩.
(21) الكافي: ج١، ص٦٦.
(22) الكافي: ج١، ص١٨٦.
(23) الكافي: ج١، ص١٨٧.
(24) الإرشاد: ج٢، ص٢٢١.
(25) صحيح مسلم: ج٧، ص١٣٠، ح٢٤٢٤.
(26) الكافي: ج١، ص٢٠٣.
(27) الكافي: ج١، ص١٩٢.

(28) الكافي: ج١، ص٢١٣.
(29) الكافي: ج١، ص٣١٢.
(30) الكافي: ج١، ص٥٣٤.
(31) كمال الدين: ص٣٨٩.
(32) في نسخة (دعاوٍ).
(33) لعل الفاء زائدة والصواب (وأنتم إنما سألتم).
(34) المقنع في الغيبة - السيد المرتضى: ص٣٨.
(35) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص١٣، فصل في الكلام في الغيبة، الطريق الثاني حيث قال: (الكلام في غيبة ابن الحسن (عليه السلام) فرع على ثبوت إمامته، والمخالف لنا إمّا أن يسلم لنا إمامته ويسأل عن سبب غيبته (عليه السلام) فنتكلف جوابه، أو لا يسلم لنا إمامته فلا معنى لسؤاله عن غيبة من لم يثبت إمامته).
(36) مسألة وجود أصول ترجع إليها تفرعات المسائل الكلامية وتبتني عليها من المسائل الكلامية التي لم يقع فيها خلاف حتى عند المعتزلي، ولمزيد من التفصيل يراجع كتاب الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي عند بحثه في مسألة (النظر في طريق معرفة الله واجب) حيث قال: إنه ليس العلم بالله أول الواجبات وكذلك ليس الخوف هو الأول وكذا ليس مشاهدة الأدلة أول الواجبات. وكذلك بحث المسألة مفصلاً في بحث (الكلام في النبوات) في معرض رده على البراهمة وإنكارهم للنبوة بعد إثبات الصانع. وبحثها أيضاً في عدة مواضع من كتابه المتقدم.
(37) مسألة الغيبة.
(38) أي يذهب.
(39) في بعض النسخ (إذا).
(40) في بعض النسخ (الاطمئنان).
(41) كمال الدين: ص٢٨٥.
(42) كمال الدين: ص٥٣٨.
(43) كمال الدين: ص٥١٠.
(44) في بعض النسخ (كما).
(45) القرآن لا يحتاج إلى الثبوت بواسطة النقل فهو ثابت بنفسه حتى عرف بين المسلمين أنه قطعي الصدور.

(46) هم اليهود والنصارى.
(47) عبدة النار وقيل يعبدون إلهين يزدان وأهرمن، يراجع الملل والنحل: ج١، ص٢٣٣.
(48) قد يعبر عنه بالملحد، ولا يتمسك بشريعة.
(49) يؤمن أن الموجد للكون هو الدهر، ويرى ديمومية العالم.
(50) يظهر من عبارة الشيخ (قدّس سرّه) أنه يرى جواز تسمية الإمام الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) باسمه الشريف، والمسألة محل خلاف بين العلماء والفقهاء على عدة أقوال وتفصيلات، يراجع للتفصيل أكثر كتاب كشف التعمية في حكم التسمية للشيخ الحر العاملي (قدّس سرّه) صاحب كتاب وسائل الشيعة، وإن كان في بعض النسخ الوارد هو (أنه ابن الحسن بن علي (عليهما السلام))، فبناء على هذه النسخة يكون الظاهر منه الميل إلى عدم جواز التسمية، وإن كان مقتضى قاعدة (الأصل عدم الزيادة) أن ما في نسخ (ابن الحسن (عليه السلام)) هو سقط، فيترجح القول الأول لاستبعاد زيادة (محمد) في بعض النسخ حسب هذه القاعدة.
(51) في بعض النسخ لا يوجد (قد).
(52) في نسخة أخرى (أصلح).
(53) المخرقة: نوع من أنواع السحر والحِيَل يشتمل على تهويل وتمويه وشعوذة وإيهام للمقابل وليس فيه حقيقة، يراجع لذلك تاج العروس: ج١٣، ص٤٣٩ (مخرق).
(54) أي لابد من المعجز.
(55) أي لابد من المعجز.
(56) أي المعجز.
(57) في نسخة أخرى (أو أن).
(58) ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَـراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: ٩٣).
(59) في نسخة أخرى (وساموه).
(60) يراجع لذلك حاشية محي الدين على تفسير البيضاوي: ج٤، ص١٢٢، وكذلك روح البيان للبروسوي: ج٣، ص٩١؛ إذ طلب المشركون من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحيي لهم اثنين من موتاهم قصي بن كلاب وهو الجد الرابع للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجدعان بن عمرو.
(61) مجموعة جبلية تقع في الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية من أشهرها جبل جازان وضرغم وغيرها، وحول طلبهم منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك يراجع السيرة النبوية لابن هشام: ج١، ص١٩٢، ومما جاء فيه (فسل لنا ربك الذي بعثك به فليسيِّر عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا... وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب...).
(62) في نسخة أخرى (ويُقلب).

مواضيع ذات صلة