رسالة في توضيح إجابات ابن قِبَة (رحمه الله) في الإمامة والغيبة
السائل :
كلنا يعلم أن الإمام الرضا عليه السلام أجبر على السفر إلى خراسان بلاط الخلافة العباسية وحرمت شيعته من الاستفادة منه في المدينة المنورة ماالذي استفاده الدين والمذهب من هذا السفر والغربة عن الأوطان؟
الجواب بسمه تعالى
وجه الحكمة من هذا السفر والغربة عن الأوطان لا يعلم كنهه بدقة إلا الحق سبحانه وتعالى ولكن سنحاول إبراز ماظهر من الحكمة والخير للإسلام والمسلمين من هذا السفر وسنحاول نسلط الضوء على ما يستفيد واقعنا المعاصر من حياة الإمام أرواحنا فداه
أولاً : قال تعالى
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)}العنكبوت
فالإمام الرضا عليه السلام أول الناس بلاءً واختباراً لأنه حجة الله البالغة وقدوة الخلق فصار بلاءه أن يجبر على الغربة وأن يُقهر على قبول ولاية العهد
هنا الإمام في محل الاحتذاء والقدوة فسلوكه وقوله وتقريره سيكون منهجاً وتربيةً وتعليماً لمن حوله ومن سيأتي بعده إلى يومنا الحاضر
السائل :
ماذا فعل الإمام حين أجبر على الخروج من المدينة؟
الجواب :
مهد الشيعة لقبول إمامة الإمام الجواد عليه السلام والأخذ منه معالم دينهم رغم صغر سنه حيث جمع إخوته وخواصه من شيعته وأوصاهم بوجوب طاعة الإمام الجواد عليه السلام في أمور دينهم ودنياهم وهنا الإمام عليه السلام بدأ يهيء النفوس أن تقبل أن حجة الله سبحانه يكون طفلاً صغيراً فلا قيمة للعمر أمام إرادة الله ونهيه كما جعل النبي عيسى نبياً وهو في المهد من باب أولى أن يكون من هوأكبر منه حجة الله في أرضه
شواهد ذلك
الرواية الأولى
عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا عليه السلام وذكر شيئا فقال: ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة. (1)
الرواية الثانية
عن الخيراني، عن أبيه قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا عليه السلام بخراسان، فقال قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: (إلى أبي جعفر ابني) فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر عليه السلام فقال أبو الحسن عليه السلام: (إن الله سبحانه بعث عيسى بن مريم رسولا نبيا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر عليه السلام. (2)
ثانياً :
تحرك الإمام عليه السلام بعد أن عقد مأتماً على نفسه لأنه يعلم أنه لن يعود لأهله مرة ثانية فبكاه أهل بيته وشيعته وهنا إشارة أنه مهما ظهر للناس أن الخليفة العباسي يريد تقريبه فالغرض هو قتله وأن خروجه ليس طمعاً في الدنيا وإن ظهر خلاف ذلك عند كثير من الناس
شاهد على ذلك
ورد في الرواية
أن الإمام الرضا (عليه السلام) قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدينة، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الوشاء، قال: قال لي الرضا (عليه السلام): ((إني حيث أرادوا الخروج بي من المدينة، جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا علي حتى أسمع، ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثم قلت: أما إني لا أرجع إلى عيالي أبدا))(3)
ثالثاً :
لم يتردد الإمام روحي فداه في هداية الأمة حتى في أغلال السلطة العباسية المعنوية فأبرز ماذكر من كلماته عليه السلام حديث السلسلة الذهبية التي طلب منه الناس أن يحدثهم بحديث عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الشاهد على ذلك
ماورد في الرواية
اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا ابن رسول الله ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك؟ وقد كان قعد في العمارية، فأطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سمعت جبرئيل عليه السلام يقول: سمعت الله عز وجل يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن (من) عذابي، فلما مرت الراحلة
نادانا:بشروطها وأنا من شروطها.(4)
رابعاً:
مواجهة خداع السلطة العباسية في تظليل الرأي العام بقبول ولاية العهد تحت شروط تكشف عن عدم شرعية السلطة وأن يكون مجرد صورة لا يأمر ولا ينهي ولا يعزل ولا يقضي.
الشاهد على ذلك
ورد في الخبر إلى أن وصل..
فلما أكثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون: فولاية العهد؟ فأجابه إلى ذلك وقال له: على شروط أسألكها، فقال المأمون: سل ما شئت، قالوا: فكتب الرضا عليه السلام: إني أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي ولا أغير شيئا مما هو قائم، وتعفيني عن ذلك كله. فأجابه المأمون إلى ذلك، وقبلها على كل هذه الشروط... (5)
شاهد ثاني
حوار الإمام الرضا عليه السلام مع المأمون العباسي في قبول ولاية العهد مكرها فقد ورد في الخبر
فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لابد لك من قبول هذا الامر، فقال: لست أفعل ذلك طائعا أبدا فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.
فقال الرضا عليه السلام: والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولا بالسم مظلوما تبكي علي ملائكة السماء وملائكة الأرض وادفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا عليه السلام أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الامر عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا.
فقال الرضا عليه السلام: والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان قال تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة، فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه. وقد آمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فان فعلت وإلا ضربت عنقك.(6)
خامساَ :
واجه أصحاب الملل والنحل والمذاهب في مناظرات عقدها الخليفة العباسي بقصد إسقاطه في أعين الناس ولكن خرج منها منتصراً بنور الله وفضله ورضوانه عليهم وبشهادتهم حتى لا يخرج أحد منهم إلا ويقول لا يوجد أعلم من علي بن موسى الرضا
الشاهد على ذلك ورد في الخبر
عن ابن ذكوان قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول: ما رأيت الرضا عليه السلام سئل عن شئ قط إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شئ فيجيب عنه (7)
سادساً :
لا تخلو سيرة الإمام روحي فداه من كرامات خاصة تزيد يقين الناس في التمسك به وأنه حجة الله سبحانه على عباده كما حصل في إزالة القحط الذي واجهته طوس فنزل المطر كأفواه القرب من كثرة المياه بفضل دعائه عليه
السلام.
الشاهد على ذلك ماورد في الخبر
فلما كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء وخرج الخلائق ينظرون فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم يا رب أنت عظمت حقنا أهل البيت فتوسلوا بنا كما أمرت، وأملوا فضلك ورحمتك، وتوقعوا إحسانك ونعمتك فاسقهم سقيا نافعا عاما غير رائث، ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم.
قال: فوالله الذي بعث محمدا بالحق نبيا، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت،... ونزل من المنبر فانصرف الناس فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم ثم جاءت بوابل المطر فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات، فجعل الناس يقولون: هنيئا لولد رسول الله صلى الله عليه وآله كرامات الله عز وجل. (8)
سابعاً :
عقد مجالس الحسين عليه السلام لرفع حالة الوعي في الأمة وتذكيرهم بمصاب جده الحسين عليه السلام ليكون سنةً حسنةً من بعده حتى وصلت مجالس الإمام الحسين عليه السلام إلينا بهذه الصورة .
الشاهد على ذلك
حكى دعبل الخزاعي قال: دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام في مثل هذه الأيام فرأيته جالسا جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلما رآني مقبلا قال لي: مرحبا بك يا دعبل مرحبا بناصرنا بيده ولسانه، ثم إنه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه، ثم قال لي: يا دعبل أحب أن تنشدني شعرا فان هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصا بني أمية، يا دعبل من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحدا كان أجره على الله يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل من بكى على مصاب جدي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة ثم إنه عليه السلام نهض، وضرب سترا بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدهم الحسين عليه السلام.. (9)
ثامناً :
قضاء حوائج الناس من جميع الطوائف المختلفة فكان مصداقاً لقوله تعالى :
{يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيم )
(16)} المائدة
هذا المقدار يكفي أخي العزيز كي لا أطيل عليك ويكفي ما أشرت لك من مصادر تحت كل نقطة والحمد لله رب العالمين .
السائل :
جزاك الله خير الجزاء و رحم الله والديك.
الجواب :
وأنتم جزاكم الله خير الجزاء ياأخي العزيز .
زاهر حسين العبدالله
المصادر :
(1)الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٣٢٠.
(2)الإرشاد - الشيخ المفيد - ج ٢ - الصفحة ٢٧٩.
(3)أمالي الصدوق ج8 ص195.
(4)بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٩ - الصفحة ١٢٣.
(5)بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٩ - الصفحة ١٣٤.
(6)بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٩ - الصفحة ١٢٩.
(7)إعلام الورى بأعلام الهدى - الشيخ الطبرسي - ج ٢ - الصفحة ٦٣.
(8) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٩ - الصفحة ١٨١.
(9)بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٥ - الصفحة ٢٥٧.