كشفت حادثة كربلاء العظيمة عن عِظَم بعض النفوس التي أبت إلّا أن تكون عظيمة لا يتأتّى لها الضعف ولا الهوان ولا الذلّ، فهي ترى الحقّ رأيّ العين، وتستنشقه كالهواء، وتحس به غاية الإحساس، فلا يحيدها عن الحقّ سوى خيوط واهنة من الشكوك أو عدم وضوح الرؤية في بعض الأحايين.
فحادثة كربلاء أعطتنا أمثلة واضحة وجلية عن هذه الأرواح الجليلة العظيمة التي دافعت ونافحت عن الحسين عليه السلام لا لشخصه بل لأن الحق الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، ومن تلك النفوس العظيمة شخصية الحر الرياحي الشهيد رضوان الله عليه.
فهو الحر بن يزيد بن ناجية التميمي اليربوعي الرياحي، ينتمي الحر إلى أسرة شريفة في الجاهلية والإسلام.
كان الحر واحدًا من أبرز رجالات الكوفة ومقاتليها، ولشدة انضباطه والتزامه بالأوامر التي تصدرها السلطة أعطي أمارة الجيش في الكوفة وإمارة النفر الذين وكّلت إليهم مهمة لقاء الحسين عليه السلام.
عرف بدماثة خلقه وتدينه وعدم ميله إلى السياسة وشؤون الدولة إلا بما يناط به من مهام الجيش والإمرة بحكم كونه قائدا عسكريا آنذاك.
التقى الحر مع الحسين عليه السلام على مشارف الكوفة في منطقة تدعى جبل ذي حسم وهذا اللقاء جاء بأمر من عبيد الله بن زياد حاكم الكوفة في ذلك الحين، إلا أن الحر لم يؤمر بأن يقاتل الحسين عليه السلام في تلك المنطقة.
جرى حديث طويل بين الحسين وبين الحر ولم يبد الحر سوى الاحترام والتبجيل للحسين ع وأهل بيته ومن معه على الرغم من أنه على الطرف النقيض من الحسين، إلا أن النفس العظيمة التي يحملها هذا الرجل أبت إلا أن تصغي لنفس هي أعظم وأرفع منها منزلة ومقاما وهي نفس الحسين عليه السلام، وبالتالي فهذا لقاء النفوس لابد من أن يخرج بمخرجات إيجابية لأن المثل يقول: (الجنس لجنسه أميل) بمعنى أن النفس تميل إلى ما يماثلها، وإن كانت على الطرف النقيض، فهي تصغي ولو بشكل يسير إلى الطرف الآخر، فكيف والطرف الآخر هو الحسين؟ لذا ذكر المؤرخون الحوار بين الحسين وبين الحر، حتى انجلى اللقاء بأن يسير الحر مع الحسين حتى وصولهم إلى أرض كربلاء عندها قفل الحر راجعا إلى المعسكر ولكنه في حالة تختلف عما ذهب عليها، فقد ذهب بحال وعاد بحال مختلفة تماما، فقد استوعب كلام الإمام الحسين تمام الاستيعاب وبدأ بالتفكير الذي غاب عنه طويلا وبدأ يخير نفسه ما بين الجنة والنار ما بين أن يقاتل مع الحسين أو يقاتل الحسين، وهذه المعادلة الصعبة هي التي انتهت بالقرار الصعب الذي اتخذه رضوان الله عليه بأن يترك كل شيء وراءه ويلتحق بركب الحسين عليه السلام ويعلن التوبة ومن ثم يقاتل تحت لواء الحسين عليه السلام ليكون من الشهداء السعداء الذي فازوا فوزا عظيما
نعم هؤلاء الرجال هم من صنيع الحسين عليه السلام، وكفى.