في زمنٍ أصبح فيه العمل والاقتصاد هما العنوان الأكبر لحياة الكثير من الآباء، لم يعد الأب مجرد شخص حاضر جسديًا في البيت، بل صار ظلًا يختفي خلف عبء المسؤوليات اليومية وتراكم الضغوط، وهذا الافتقاد للدور الأبوي لا يعني غياب الأب عن المنزل فقط، بل غياب تأثيره الفعلي في حياة أبنائه، وهو ما ينعكس على الأسرة بأكملها، ويترك فراغًا لا يسدّه إلّا الوعي الحقيقي والإرادة في إدارة الوقت وبناء علاقات صحية.
تُشير الدراسات الاجتماعية إلى أنّ انشغال الأب الدائم يؤثر على تماسك الأسرة، ويزيد من شعور الأطفال بالعزلة والاضطراب النفسي، كما يُظهر البحث أن غياب التواصل المنتظم والمباشر بين الأب وأبنائه يُضعف الروابط العاطفية ويُحفز ظهور سلوكيات سلبية أو صعوبات في التعبير عن المشاعر[1] ولكن الحلول ليست بعيدة، يقترح علماء الاجتماع تقسيم الوقت بشكل واعٍ، بحيث يخصص الأب وقتًا أسبوعيًا منتظمًا، قد تكون عطلة نهاية الأسبوع أو مساءات محددة، تكون خاصة للتواصل الحقيقي مع العائلة بعيدًا عن ضغوط العمل، هذه اللحظات تُشبع الحاجة العاطفية عند الأبناء، وتُعزز من تماسك الأسرة وتفاهمها.
في هذا السياق، ينقلنا التراث الإسلامي إلى أهمية الدور الأبوي ليس فقط في النفقة، بل في الحنان والتربية والتوجيه إذ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (دعِ أبنك يلعب سبع سنين، ويُؤدَّب سبعًا، والزمه نفسك سبع سنين، فإن فلح وإلّا فلا خير فيه)[2] أي أن الحب والتواصل والتربية يخلق علاقة مستقرة بين الأب وأبنائه.
والقرآن الكريم يؤكد مكانة الوالدين ودورهما، ويحث الأب على المسؤولية الحقيقية:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (وهذا الإحسان يتجاوز مجرد النفقة إلى العناية والاهتمام والحوار.
ومن التجارب الفعالة التي توازن بين متطلبات الحياة والعمل، هي اعتماد (وقت الجودة) إذ يبتعد الأب عن المشتتات مثل: الهواتف والشاشات، ويركز على التواصل المباشر والاستماع، ولعب الأدوار التربوية التي تبني الثقة والأمان النفسي عند الأطفال.
كما أن منح الأب عطلة أسبوعية منتظمة، تمكنه من التفرغ للحياة الأسرية، تعود بالنفع الكبير على الجميع هذه العطلة ليست رفاهية، بل ضرورة اجتماعية لتوازن العمل والحياة.
المعاناة الحقيقية التي يعيشها الأب اليوم ليست في الوقت أو الجهد المبذول فقط بل في الشعور بأنه لم يؤد دوره كاملاً، وهذا قد يولد ضغوطًا نفسية تؤثر على سلوك الأسرة كلها، وهنا تأتي أهمية الوعي الذاتي والتخطيط الأسري، ومحاولة إشراك الأبناء في فهم طبيعة الحياة، بحيث لا يُنظر إلى الأب فقط كمصدر للدخل، بل كمرشد وأب وصديق.
غياب الأب عن دوره الحقيقي ليس نهاية الطريق، بل بداية لرحلة إدراك وتصحيح،
كما في قول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ))من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلّمه الكتابة ، ويزوّجه إذا بلغ))[3] إذن فتعليم الكتابة حق حياتي تنقشع من خلاله غيوم الجهل والاَميّة عن الطفل
وفي حديث نبوي آخر، نلاحظ أنّ حق تعليم الكتابة يتصدر بقية الحقوق الحياتية للطفل ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة ، والسّباحة ، والرّماية ، وأن لا يرزقه إلاّ طيّبًا))[4]
فالتربية والاهتمام هما الاستثمارات الحقيقية التي لا تنضب.
لكن الواقع لا يخلو من صعوبات، فالكثير من الآباء يشعرون بالذنب نتيجة انشغالهم وعدم قدرتهم على منح الوقت الكافي، مما قد يؤدي إلى توتر داخل الأسرة، وهنا يأتي دور الوعي الأسري بالتفاهم والتقدير، ومحاولة مشاركة الأبناء أسباب هذا الانشغال، لتعزيز الصبر والتواصل.
في الختام، يبقى السؤال الذي يرافق كل أب وكل أسرة:
كيف يمكننا أن نكون آباءً (أحياء) حقًا في زمن تتزايد فيه ضغوط العمل ويشتتنا اقتصاد الحياة؟