نقلها بتصرّف: مقدام راتب المفرجيّ.
-نجف... نجف... طالع نجف
جملة غالبًا ما ينادي بها أصحاب السيارات في المرآب الموحّد.
دخلت إلى ذلك المرآب (الكراج) وأنا أنظر لباعة الشاي والكعك (أبو السمسم) وأصحاب الكافتريات وأهل (الجنابر) والمتجولين ممن يحملون السكائر والعلكة وحب عين الشمس والحب الأحمر كلهم قد أخذ الزمن منهم مأخذه حتى بدا ذلك على سحنة وجوههم التي غيرتها الشمس والملابس البالية التي لا تقيهم شيئًا سوى أنها تغطي أجسامهم.
اقتربنا من السيارة (الريم) ذات الـ(44) راكبًا يقف أمامها سائقها وقد وضع السيجارة في فمه ويضع (الخاولي) على أحد كتفيه، يرتدي دشداشة بيضاء وقد بان من خلالها جلده فضلاً عن أنها مفتحة الأزرار نتيجة الحر.
جلست في مكاني المخصص في السيارة الذاهبة بنا من كربلاء إلى النجف الأشرف، بمعية جدتي وبعض صويحباتها القريبات إلى قلبها.
السيارة تسير بسرعة طبيعية حيث أنك تكاد ترى كلّ ما يمر أمامك بشكل واضح من النافذة.
كان الطريق هو الشق الوحيد المعبد في صحراء بين المحافظتين قبل أن يمتد إليها العمران فيما بعد.
وأنا كأيّ طفل يحبّ الجلوس قرب النافذة وكأنّها أكبر أمنياته.
لاحت إلى ناظري مجموعة من الجمال على مسافة من الشارع العام.
وبينما أنا أنظر إلى هذه المجموعة بدهشة وفرحة في الوقت ذاته، كوني لم أرَ جملًا في الواقع إلا في التلفاز وفي أفلام الكارتون.
ولكن بعد برهة من الزمن، وجدت أن جدتي والسيّدات اللاتي معها يرددن هذه الجملة (سلام الله عِليج يَزِينَب) بلهجتهن الريفية البسيطة التي تنبيك بكمِّ هائل من الحنين والدفء وحتى (كسرة الخاطر) انتبهت لهذا الموقف فوجدتهن ينظرن من النافذة إلى الجمال ويرددن الجملة مع البكاء.
لم أفهم ما يحدث أمامي، ما الذي جرى؟ ولماذا البكاء؟ ومن هي زينب؟ وما علاقة الجمال بزينب؟ هذه أسئلة وردت إلى ذهني بهذه السرعة الخاطفة كأيّ طفلٍ يُحاول أن يعرف ما يجري حوله.
لكنّني آثرت الصمت ولم أسأل أحدًا عن ذلك.
وصلنا النجف وزرنا سيّد الوصيين (عليه السلام) وانتهينا من ذلك ورجعنا إلى كربلاء مرة أخرى.
أخذ السفر مني مأخذه فأحسست بالتعب، وعندما استقلينا السيارة الراجعة إلى كربلاء غلبني النعاس، واستسلمت له، ولكن صوت جدتي وجملتها التي رددتها من قبل لم تبارح فكري.
وبينما أنا كذلك حتى وجدتني بين جمال، ونساء، ورجال مدججين بالسلاح، ومن هول المنظر كنت احتبس البكاء في داخلي، رأيت أطفالاً تبكي، وكل ذلك وأنا لا أعرف ما الذي يجري.
جلست على الأرض وأنظر لهذه المشهد الذي لا يمكن للكلمات أن تصفه، وبعد مدّة وجيزة أقبلت عليّ امرأة بكاملة حجابها من رأسها حتى أقدامها، متّشحة بالسواد، لا يُرى منها سوى النور والهيبة والجلال، وعلى الرغم من أنّ الغبار قد عَلُق في ثيابها، شقّت كلّ تلك الجموع والأطفال والنساء، وقالت بصوت دافئ يضفي على الروح الاطمئنان والهدوء:
-أنت الذي تسأل عن زينب؟
- نعم.
-ماذا تريد منها؟
-سمعت جدتي تقول: (سلام الله عِليج يَزِينَب) وهي تنظر إلى الجمال في الصحراء، فما علاقة هذه بهذه؟
- ماذا ترى أمامك؟
-جيش ورجال ونساء وأطفال وجمال.
- وجمال... أ تعرف ماذا يعني هذا؟
-لا.
- يعني أنّ هذه الجمال كانت تحمل هذه الأطفال والنساء سبايا.
-سبايا؟ وَلِمَ؟
-لأنّنا عيال الحسين الذي قُتل في كربلاء على يد شرّ خلق الله، ونحن سبايا شرّ خلق الله.
-نعم أعرف ذلك، وسمعته من كاسيت المقتل أنّ الحسين (عليه السلام) قتله يزيد في كربلاء على يد جيش عمر بن سعد وذبحه شمر، وأحرقوا خيامه وشرّدوا أطفاله، وسمعت أنّ زينب أخته كانت تحاول أن تحمي الأطفال والنساء وابن أخيها السجاد أيضًا، لكنّني لم أعرف ماذا جرى بعد ذلك.
- ما جرى يا بُنَي أنّ الجيش هذا أخذ عيال الحسين بهذه الجمال التي ترى إلى الكوفة عند مجلس ابن زياد، وبعدها سنذهب إلى الشام إلى مجلس يزيد.
-يزيد؟ ولماذا؟ أنتم لا علاقة لكم، الحسين قُتل، وأنتم يجب أن تذهبوا إلى دياركم.
-علاقتنا أن العدو يريد أن يُشمِتَ بنا الناس، ولكن هيهات له ذلك.
عرفت في تلك اللحظة ما علاقة السيّدة زينب بهذه الجمال.
قامت السيّدة بعد ذلك... فناديتها (خالة انتي منو؟) فالتفتت وقالت: أنا زينب.
تسمرت قدماي في الأرض لم أستطع السلام عليها ولا اللحاق بها وكأن حاجزًا لا مرئيًا حال دون ذلك.
مشت وعيناي تمشيان وراءها منهمرة بالدموع.
-محمد ... محمد... شبيك تبجي؟
استيقظت من نومتي هذه وأنا أبكي.
-اكعد وصلنا بس كَلي شبيك تبجي؟
-ماكو شي... حلم حلم.