أزمة التوجيه لا المعرفة
من آخر شخصية أو محتوى أثّر في طريقة تفكيرك؟
وهل تساءلت يومًا: من الذي يزرع فينا هذه القناعات؟
نحن لا نعيش أزمة معرفة، بل أزمة توجيه معرفة.
فكثيرون يعرفون، لكن قلةً فقط يدركون من أين جاءت معارفهم وإلى أين تقودهم.
لسنا بحاجة إلى من يُخبرنا ماذا نعرف، بل إلى من يوقظ فينا السؤال الأهم: من الذي زرع فينا ما نعرف؟
قال تعالى:
﴿ وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) ﴾ الأسراء.
إن الفكر اليوم يُصنع كما تُصنع السلع، ويُسوَّق كما تُسوَّق المنتجات، حتى أصبح كثير من الناس يستهلك الأفكار دون وعيٍ بمصدرها أو غايتها.
كيف تُصنع الفكرة في زمن الإعلام؟
في عالمٍ تتدفق فيه الرسائل والصور والمقاطع بلا توقف، تُصنع الأفكار وفق آلياتٍ نفسية وإعلامية محكمة، تقوم على أربع ركائز رئيسية: التكرار، العاطفة، التأطير، العزلة.
1. التكرار
ما يتكرر يصبح مألوفًا، وما يألفه الإنسان يميل لتصديقه.
حين يُعاد على الأسماع والمشاهدات نفس المعنى كل يوم، يتحول من الغرابة إلى القبول.
الشاب الذي يتعرض يوميًا لمقاطع تروّج أن “النجاح يعني الشهرة”، سيجد نفسه بعد حين مقتنعًا بها بلا تمحيص.
فالتكرار يصنع الاعتياد، والاعتياد يصنع القناعة.
2. العاطفة
الإعلام الحديث لا يقنع بالعقل بل بالمشاعر.
فمشهد درامي مؤثر، أو موسيقى حزينة، أو قصة تُبكي — كفيلة بتبديل قناعةٍ راسخة، لا لأنّها منطقية، بل لأنها لامست العاطفة.
ولهذا يُخاطب الإعلام القلب أولًا، ويُغيب التفكير حتى يستسلم المتلقي لِما يحبّ لا لما يصحّ.
3. التأطير
التأطير هو فنّ عرض الحدث لا الحدث نفسه.
فقد تُصوَّر الواقعة الواحدة في صورتين متناقضتين:
بطولة في جهة، وهمجية في جهة أخرى، بحسب زاوية العرض واللغة المستخدمة.
وهكذا يتحكم “الإطار” في القناعة أكثر من الحقيقة ذاتها.
4. العزلة
حين يُعزل الإنسان عن القرآن والعترة ومجالس العلماء، يفقد مناعته الفكرية.
العزلة الفكرية أخطر من الجسدية؛ لأنها تفصله عن منابعه الأصيلة، وتجعل فكره سهل الاختطاف من قبل أي موجة أو مؤثر.
حين يغيب النور، تتشابه الأصوات في الظلام.
وعي القرآن مقابل وعي المنصّة
المنصّات الرقمية تغذي الضجيج اللحظي والانفعال العابر،
أما القرآن الكريم وكلام أهل البيت (عليهم السلام) فيغذي البصيرة والهدوء الداخلي.
قال تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
في تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي:
أفضل شاهد على الإنسان في محكمة القيامة هو نفسه، لأنها تعرف حقيقتها أكثر من غيرها، وإنّ الله تعالى أقام عليها الحجّة بالدلائل الباطنية والظاهرية.
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنًا ويُسرّ سيئًا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول: بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية». (1)
فالبصيرة وعي داخلي لا يخدع، تشهد به النفس على نفسها وإن تذرعت بالأعذار.
وقال تعالى أيضًا:
﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
فالقرآن يخاطب العقول الحرة التي تبحث عن المعنى، لا الأهواء التي تتبع الصخب.
الوعي القرآني هو البوصلة التي توازن بين العقل والعاطفة، وبين الهدوء والضجيج، وبين الحقيقة والزيف.
ملامح الشاب الواعي قرآنيًا
الشاب الواعي ليس من يملك كل الإجابات، بل من يملك الأسئلة الصحيحة.
يسأل دائمًا: من أين جاءت الفكرة؟ ما دليلها؟ من المستفيد منها؟
يُزن القول بالحجة لا بعدد الإعجابات، ولا يجعل “الترند” مقياسًا للحق، بل ينتمي للحق لا للمؤثر.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :
(انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال). (2)
«إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله». (3)
مسؤولية الشاب الجامعي
الجامعة ليست مكانًا للدراسة فحسب، بل مصنع الوعي وصناعة المستقبل.
فأنت من يصنع فكر المجتمع القادم، فكن صاحب بصمة فكرية لا نسخة مكرّرة.
واجعل الإعلام وسيلة معرفة لا مرجع إيمان.
قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّـهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)﴾ الزمر.
وفي هذا توجيه رفيع: الاتباع الحق لا يكون إلا بعد تمييز وتفكر وبصيرة.
وروي عن النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين قوله:
(كأنّي دُعِيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما) (4)
حرية الفكر أم فوضى الفكر؟
الحرية الفكرية ليست أن نفكر بلا ضابط، بل أن نُعمل عقولنا في ضوء القيم والحقائق.
أما الفوضى الفكرية، فهي انطلاق بلا أصول، وجرأة بلا معرفة، وادعاء حرية ينتهي بالضياع.