أعقاب الهزيمة العسكرية للعرب في حرب حزيران 1967، التي شكلت صدمة كبيرة في العالم العربي وأثرت بشكل مباشر على انطلاق روح الثورة، دخلت المقاومة الفلسطينية منعطفاً جديداً في تاريخها، مؤكدة ضرورة اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم في الدفاع عن وطنهم من خلال تصعيد المقاومة المسلحة.
وفي هذا السياق، لعبت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، ممثلة بالمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (قدس سره)، دوراً بارزاً في دعم القضية الفلسطينية، اذ أصدر السيد الحكيم سلسلة من الفتاوى التي أكدت على ضرورة الكفاح المسلح كوسيلة لاستعادة الأرض المحتلة. وأفتى بجواز تقديم الأموال للفدائيين الذين يقاتلون الاحتلال الإسرائيلي، مؤيداً بذلك الاتجاه القاضي بتصعيد المقاومة واعتماد الفلسطينيين على أنفسهم.
وفي لقاء خاص جمعه مع وفد يمثل حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بقيادة الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات (رحمه الله)، أبدى السيد الحكيم دعمه الكامل لحركة التحرير، وأجاز التطوع في العمل الفدائي ضد الاحتلال بشرط توافر القدرة على العمل ضمن قيادة حكيمة. وأعرب الحكيم عن مباركته للجهود التي يبذلها الفدائيون لتحرير أرضهم، مؤكداً أن الجهاد ضد الكيان الصهيوني هو واجب مقدس.
لم يتوقف دعم السيد الحكيم عند حد الفتاوى، بل قدم مساعدة مالية للثوار الفلسطينيين وأعلن في مقابلة إذاعية أن الجهاد ضد الكيان الصهيوني يمثل دليلاً على حيوية الأمة، وأن الشعب الفلسطيني يمثل منبعاً للعمل الجهادي، مما سيحقق صمودهم العزة للأمة الإسلامية بأكملها.
ومع مطلع عام 1968، صعّدت المرجعية الدينية مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، حيث دعا السيد الحكيم إلى تعبئة الطاقات البشرية والمالية لدعم المقاومة الفلسطينية والجيوش العربية، لا سيما الجيش المصري الذي كان يخوض حرب استنزاف شرسة مع الاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، أعربت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية عن قلقها من تداعيات فتاوى السيد الحكيم، مشيرة إلى مخاوف من امتداد المنظمات الفدائية إلى جنوب لبنان. وفي هذا السياق، بذلت الولايات المتحدة الأمريكية جهوداً للضغط على السيد الحكيم عبر حكومة الشاه في إيران، حيث نقل أحد المسؤولين الإيرانيين رسالة إلى السيد الحكيم خلال تواجده في المدينة المنورة، يعرب فيها عن قلق الأمريكيين من دعمه للمنظمات الفلسطينية.
إلا أن السيد الحكيم رفض التراجع عن موقفه، مؤكداً أن الجهاد ضد إسرائيل هو واجب مقدس لا يقبل المساومة.
كما برز دعم علماء آخرين في النجف الأشرف للقضية الفلسطينية، من بينهم الشيخ علي آل كاشف الغطاء، الذي أصدر فتاوى تدعم العمل الفدائي، مجيزاً نقل الأضاحي إلى الفدائيين لسد احتياجاتهم من المواد الغذائية.
في عام 1969، استنكر السيد الحكيم بشدة الجريمة الصهيونية بإحراق جزء من المسجد الأقصى المبارك، داعياً المسلمين إلى مواجهة المخاطر التي تتعرض لها مقدساتهم، واصفاً جريمة إحراق المسجد بأنها "أفضع الجرائم التي اقترفها الإسرائيليون في تاريخهم الأسود."
وتبقى المرجعية الدينية في النجف الأشرف صوتاً مدوياً داعماً للشعب الفلسطيني ومناصراً لقضيته العادلة، مؤكدة أن الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي واجب على كل مسلم، وأن دعم المقاومة الفلسطينية هو جزء لا يتجزأ من مسؤوليات الأمة الإسلامية.
المصدر: موسوعة فتوى الدفاع الكفائي، الجزء الثالث، ص285-صى288