البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦

دور الحوزة العلمية في النجف عبر التاريخ.. الموقف من ثورة الريف في المغرب.

 

 قسم المغرب قبل الحرب العلمية الأولى على ثلاث مناطق الأولى منطقة نفوذ فرنسي وتشمل مراكش، والثانية منطقة نفوذ أسباني مركزها تطوان، والثالثة طنجه التي بقيت تحت الإدارة الدولية.

 وقد تصدى الشعب العربي في المغرب للغزو الأجنبي وتحدى قرارات التقسيم وأعلن رفضه لها وتمسكه بمبدأ الحفاظ على الوحدة والاستقلال. فبعد إعلان الحماية في (آذار 1912) حدثت في المغرب ثورة عارمة في (17 نيسان 1912) وامتدت إلى مختلف أنحاء البلاد. وبعد الحرب العالمية الأولى اندلعت الثورة مجددا ً في اعنف صورها في عهد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي الذي نجح في قيادة حركة المقاومة المسلحة وتعبئة الجماهير للكفاح حتى بدأت ثورة الريف تأخذ أبعادا سياسية وتنظيمية في داخل البلاد بحيث تجاوزت المقاومة العسكرية إلى محاولة بناء دولة حديثة تمثلت بجمهورية الريف. أدى هذا الحدث إلى التحالف الفرنسي الاسباني الذي تم ّ ما بين (1925 – 1926) وترجيح كفة المستعمرين فأدى ذلك إلى سقوط جمهورية الريف واستسلام الأمير عبد الكريم الخطابي([18]).

وقف الشعب العراقي إلى جانب الشعب العربي في المغرب، وخصوصا أبناء مدينة كربلاء والنجف الاشرف في جهاده ضد الفرنسيين والأسبان، فقد كان لفرض فرنسا حمايتها على مراكش صدى ً واضحا ً في أرجاء الحوزة العلمية حيث شاع التذمر وأقيمت المظاهرات الاحتجاجية لنصرة مراكش، ألقيت فيها الخطب والكلمات والقصائد المعبرة عن رفض الشعب العراقي لأعمال فرنسا واسبانيا في المغرب، وقد استمرت مدينة النجف وكربلاء تؤيد نضال الشعب العربي في المغرب إلى ما بعد ثورة العشرين([19]).

وقد نشرت جريدة النجف مقالا ً تحت اسم مستعار فضحت فيه أساليب فرنسا الوحشية في التعامل مع أبناء الشعب العربي في المغرب حيث تقول : (أي ذنب جناه إخواننا الريفيون غير قيامهم ودعوتهم لتحرير أنفسهم من رق ّ عبودية الأسبان لهم ولا يكادون يزيلون الأسبان عنهم حتى قامت عليهم فرنسا الزاعمة إنها أعظم الدول تحدثاً ورقياً وانتصارا للإنسانية ودفاعا عنها بل هي الوحيدة بذلك بزعمها، فحملت على الريف بكل ما تملك من حول وطول وآلات وغازات وسموم حتى شقت البطون وقتلت الأطفال...) ([20])

كما نشرت الجريدة نفسها في (18 حزيران 1926) قصيدة للشيخ ورجل الدين محمد علي اليعقوبي بعنوان " بطل الريف " حيّا فيها الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي ونضاله الطويل ضد فرنسا واسبانيا حيث يقول :

يا بطل الريف عليك السلام
رضيت بالعهد وصنت الحمى
أنبأنا البرق بان العدى
يا أسد الحرب ومقدامها
 

 

في الحرب والسلم رعيت الذمام
ان الوفا بالعهد فرض لـــــــــزام
قد ادركت منك المنى والمـــــرام
كيف استباح القوم منك الاجــــام([21])
 

 

وفي قصيدة اخرى عكس الشاعر الروح القومية التي تملكت العراق حينما وصلت أخبار المقاومة العربية لمجاهدي الريف في المغرب فراح يكسب ذلك الشعور متمنيا مشاركتهم في جهادهم والاستشهاد على ارض المغرب، معبرا بذلك عن وحدة المصير العربي حيث يقول :

أحبائي على الريف
أعدتم سالف المجد
وقفتم في ميادين
إلا يا ليتني معكم
 

 

لقد حن لكم قلبي
وقمتم عنه للذب
الوغى جنباً الى جنب
لا قضي في الوغى نحبي([22])
 

 

كما كتب من شعراء النجف ومن رجال الحوزة العلمية الكثير من القصائد في نصرة الشعب العربي في المغرب معبرين بذلك عن عمق الرابطة القومية بين طرفي الوطن العربي رغم بعد المسافات ومنهم الشيخ محمد علي اليعقوبي، الشيخ محمد جواد الشبيبي، صالح الجعفري وكثيرين غيرهم. ([23])

موقف الحوزة العلمية من القضية الفلسطينية :

كانت المدن المقدسة خصوصا النجف وكربلاء في مقدمة المدن العربية التي أولت اهتماما كبيرا بقضايا العرب القومية يشكل عام وقضية فلسطين بشكل خاص، فقد تحسس رجال الدين بالخطر الصهيوني على الأمة العربية منذ صدور وعد بلفور (1917)، حيث اخذ الشعب العراقي بشكل عام ينشد لفلسطين، ويمد يد العون والمساعدة الى الشعب العربي الفلسطيني ماديا وأدبيا ويخصها بالعديد من التجمعات والاحتفالات العامة، حتى أصبح حديث فلسطين مادة الشاعر والأديب العراقي وحديث المجالس والتجمعات الدينية([24])

حينما تصاعدت حركة المقاومة العربية الفلسطينية في (آب 1929)، واتخذت طابع الثورة الواسعة، كان السبب المباشر لذلك ما يعرف بـ (حادثة البراق) وهي حادثة معروفة، انعكست أحداث الثورة في النجف و بين رجال الدين خصوصا ً، فاستنكر شعراؤها بقصائدهم أعمال الصهاينة ومساندة البريطانيين لهم، وحيوا إخوانهم العرب بالكثير منها، ومنها قصيدة الشاعر صالح الجعفري :

فلسطين هي ام الرزايا
شب بركانها في القدس ولكن
فببغداد ضجة وهياج
نحن لم نعقد اليوم مضاء
 

 

وهي اليوم سامة حربية
عم ّ كل الجزيرة العربية
وببيروت رنة ورزية
لا ولم نعدم النفوس الأبية([25])
 

 

وعند استشهاد الشيخ عز الدين القسام في (1935) أثناء أحدى المعارك مع القوات الصهيونية في فلسطين، كان لهذا الحادث الأثر الكبير في أروقة الحوزة العلمية في النجف وكربلاء، فأقيمت مظاهرة ألقيت فيها الخطب الحماسية الوطنية التي تندد بالاستعمار البريطاني والوجود الصهيوني في فلسطين([26]).

وحينما تأسست (جمعية الدفاع عن فلسطين) في بغداد عام (1936) برئاسة العميد طه الهاشمي، زار وفد منها تشكل من محمد مهدي كبة، وسعيد الحاج ثابت، وعيسى طه، كربلاء والنجف، واجتمعوا برجال الدين وحصلوا من الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وغيره من رجال الدين على الفتاوى التي تلزم المسلمين بالجهاد لنصرة فلسطين وبذل النفس والمال في سبيل ذلك([27]).

وعلى اثر قرار (لجنة بل) بتقسيم فلسطين الى ثلاث مناطق عربية ويهودية وبريطانية، عقدت الحوزة العلمية بجميع مراجعها العظام العديد من الاجتماعات في النجف وكربلاء المقدسة أسفرت عن تقديم الاحتجاجات البرقية الى ملوك العرب والإسلام من قبل رجال الدين والشخصيات الوطنية، وكلها تستنكر بأشد لهجة فكرة التقسيم وتطالب بالتدخل في هذه القضية التي شغلت العرب والمسلمين. كما تقرر اعتبار يوم (26 تموز 1937) يوم فلسطين في كربلاء والنجف حيث أضربت المدينتان بالكامل وخرجت المظاهرات العامة إلى الأضرحة المقدسة وكلها تهتف لفلسطين وعروبة فلسطين وتستنكر التقسيم الذي جاءت به بريطانيا([28]).

كما نشرت مجلة الاعتدال في عدد شهر آب (1937) مقالة افتتاحية بعنوان (يوم فلسطين المشهود في النجف المقدسة) تطرقت فيه إلى مظاهرات رجال الدين التي خصصوها لوطنهم الثاني فلسطين، وأشادت بالموقف القومي لهم، كما نشرت العديد من القصائد والخطب التي ألقيت في الصحن الشريف([29])

كما نشرت مجلة الهاتف في افتتاحيتها مقالة بعنوان (محنة فلسطين والنجف) وعت فيه ابناء البلاد إلى دعم مجاهدي فلسطين ماديا لأعانتهم على جهادهم المقدس وقالت ان التظاهر والاحتجاج لا يكفي([30]).

وعند وصول (اللجنة الفنية للتقسيم) برئاسة جون ووهيد إلى فلسطين في عام (1939) اضرب السكان العرب في فلسطين رافضين كل مشروع يرمي (إلى أقامة دولة لليهود) واحتل الثوار الفلسطينيون مواقعهم في مدينة القدس القديمة للدفاع عنها كما تم تأليف (مجلس القيادة الأعلى) للثورة وتقرر الاستمرار في الكفاح الفلسطيني وتعميم الثورة لتشمل كل فلسطين.

وهنا أضافت المدن المقدسة يوما آخر لأيامها الفلسطينية حيث تجلى الشعور القومي الثائر حين اعتبر يوم (16- مايس 1938) يوما فلسطينيا فأضربت مدينة كربلاء برمتها و أغلقت الأسواق وعطلت المدارس واجتمع العلماء والزعماء والشباب وتظاهروا محتجين على ما يجري في فلسطين وهم يهتفون بحياة الأمة وحياة فلسطين وفي ختام التظاهرة أبرق الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى مفتي القدس أمين الحسيني والمندوب السامي) هاجت مدينة كربلاء والنجف الاشرف لفكرة التقسيم المشؤومة، يطلبون منا فتاوى الجهاد الديني، نشكر جهودكم وبسالة عرب فلسطين المجاهدين دام النصر لهم).

كما أبرق الشيخ عبد الكريم الجزائري الى الملك غازي يقول (...أن بلاد ثاني ألحرمين فلسطين البلاد المقدسة الإسلامية تستنجد بملوك الإسلام مما حل بها من الاضطهاد والتنكيل وعزم تقسيمها على مشردي الآفاق الصهيونيين الأمر الذي أزعج الإسلام والعرب فالنجدة والغوث لأبنائكم العرب وبلادكم بلاد الإسلام والله ناصركم) ([31])

وفي (28 تشرين الأول 1938) احتجت النجف الاشرف بجميع حوزاتها الدينية وشرائحها الاجتماعية على سعي الصهيونية العالمية لدفع الحكومة الأمريكية للتدخل في فلسطين والتزام جانب الصهاينة فيها حيث بعثت العديد من الهيئات والشخصيات النجفية رسائل احتجاج الى السفير الأمريكي في بغداد لابلاغ حكومته عن سخطهم للمحاولات الصهيونية لجر الحكومة الأمريكية الى جانبهم، وجاء في برقية (جمعية الرابطة العلمية والأدبية) (ان على أمريكا ان تعلم ان بلاد العرب للعرب كما هي أمريكا للأمريكيين) ([32])

كما أرسل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء كتابا الى اللجنة العليا لجمعية الدفاع عن فلسطين في بغداد، استنكر فيه أعمال الانكليز والصهاينة في فلسطين ودعى ملوك العرب والمسلمين إلى ان يكونوا كصلاح الدين ورجالات العرب الفاتحين، كما خاطب المسلمين بوجوب نصرة مجاهدي فلسطين، وختم كتابه بتحية نضال مجاهدي فلسطين، وصمودهم أمام الأعداء([33]).

وأشارت جريدة العالم العربي في (12 تشرين الثاني 1938) إلى ان جمعية الدفاع عن فلسطين في العراق / فرع كربلاء، قامت بعدة نشاطات منها جمع التبرعات وإقامة المهرجانات الأدبية، وعندما قام مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني بزيارة بغداد، أبدى أهالي كربلاء والنجف استعدادهم للتضحية من اجل فلسطين أثناء مقابلة الوفد الذي كان برئاسة الشيخ عبد الرسول كاشف الغطاء الذي زار الحسيني في بغداد([34]).

من خلال دراسة المواقف التي لتخذتها الحوزة العلمية في النجف وكربلاء تجاه القضايا العربية بين عامي 1925 – 1956 م توصل الباحث إلى ان الحوزة العلمية كمؤسسة دينية لها أهميتها الخاصة ومكانتها المتميزة في العراق والعالم العربي. حيث ساهمت بشكل فعال في رسم صورة الحدث السياسي في العراق وشاركت في جميع الأحداث العربية والإسلامية الرامية للتحرير والاستقلال.

كما كان لوجود هذه المؤسسة في مدينة كربلاء والنجف قد دفع رجال الحركة الوطنية والقومية للتنسيق مع رجال الدين في إصدار الفتاوى التي تحرم تدنيس الأراضي الإسلامية من قبل الاستعمار الأجنبي. حيث امتزج الشعور الوطني بالشعور القومي والإنساني لتشكيل النشاط السياسي في المدن المقدسة ولم يقف عند الحدود الإقليمية للعراق، بل تعداه إلى الأقطار العربية والإسلامية فكانت الحوزة العلمية خير نصير للشعوب المناهضة للاستعمار والصهيونية والعبودية، فثارت المدن المقدسة بفعل رجال الدين مرات ومرات وضحت بالكثير من أبنائها دفاعا عن كرامة الوطن وحريته وحفاظاً على أصالة الرسالة الإسلامية.

والخلاصة.. لابد من القول ان انتشار الوعي والثقافة وكثرة الاجتماعات بين صفوف رجال الحوزة العلمية، أسهم بشكل فاعل في إظهار دور هذه المؤسسة السياسي على مستوى الوطن والعالم الإسلامي.

 

مواضيع ذات صلة