البحث المتقدم

البحث المتقدم

معارف فاطمية -٢- قراءة اجتماعية في خطبة السيدة الزهراء "عليها السلام"

0 تقييم المقال

 بعد أنْ تم بيان القراءة المعرفية لخطبة الزهراء عليها السلام إجمالًا في أحد مقاطعها، ومعرفة تلك المجالات المعرفية الخمسة، ننتقل في هذه الحلقة إلى بيان قراءة أخرى تتعلق بالمجتمع الذي كانت تخاطبه الزهراء آنذاك، أو المجتمع الذي كان ينظر إلى الإسلام أنه المخلِّص والمنجي له من ظلمات الجاهلية.
      فالمجتمع بجميع فئاته المتعددة يحتاج إلى نظام يصلح أحواله، ويضع له منهجًا لصلاحه، ابتداء من الأسرة إلى الأمة، فمثلًا فيما يتعلق بالأسرة كان للزهراء "عليها السلام" رؤيتها في بيان أهميتها ومقامها، انطلاقًا من كتاب الله تعالى.
 قالت "عليها السلام": (فجعل .. وبرَّ الوالدينِ وقايَةً من السخَطِ). 
       إنَّ التعامل مع الوالدين من أهم المواضيع الاجتماعية الذي يعيشه الإنسان في جميع المجتمعات الإسلامية وغيرها، والعربية وغيرها، فالإنسان أينما كان على هذه البسيطة فهو له علاقة طبيعية فطرية مع الوالدين (الأب والأم)، ولا يمكن له أنْ ينكر ذلك، أو يتخلَّى عنها، فهما مصدر أساس في تكوينه ورعايته وبناء شخصيته إلخ من مصادر وجوده، بل هو يعدُّ بالنسبة لهما نبتةً جميلةً رائعةً، ينظرون فيها (الأمل)، وموضوع (الأمل) موضوع عظيم جدًّا لا يمكن للكلمات أنْ تقف عند حدوده وما تتضمنه من معانٍ ومعانٍ، وهذا (الأمل) ينمو يومًا بعد يوم، بل لعله ساعة بعد ساعة، أو نظرة بعد نظرة من الوالدين لأبنائهما، حتى تصل تلك البذرة فتكون ثمرة يانعة آن قطفها والتلذذ بها من جميع جوانبها، ولكن مع وصولها إلى هذه الحال، هناك جسد قد أنهكته مجالات التفكير بتلك (البذرة) التي غدت (ثمرة).
فعلى الإنسان أنْ يتأمل بهذه الرحلة العظيمة كثيرًا، والشريعة الإسلامية في نظامها الكامل قد راعت ذلك رعاية تامة، فكان التأكيد على مواجهة ذلك الإحسان العظيم من (الوالدين) وما قدَّماه من ثمرة حياتهما من أجل (أبنائهما) في نظر المشرِّع، فقال تعالى في إحدى روائع القرآن الكريم: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [النساء: ٣٦]، وقال تعالى في رائعة ثانية: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الأنعام: ١٥١]، وفي هاتين الآيتين تحدَّث عن (بر الوالدين) بعد حديثه عن عقيدة التوحيد المتعلقة بالخالق المعبود، بل تم التفصيل أكثر بهذه المسؤولية من البر فقال تعالى في رائعة ثالثة عظيمة لا تترك أي مجال للأبناء بمغادرة هذا النظام تجاه الوالدين أو تجاههله، فضلًا عن إنكاره مع بيان المسؤولية الحقيقة في هذه المرحلة من عمر الوالدين: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء: ٢٣-٢٤].
     فالتأمُّل بقول السيدة الزهراء "عليها السلام" يمكن قراءته من جوانب متعددة ومنها:
١- بيان أهمية التربية القرآنية للأسرة، وأثر الدين في بناء الشخصية عامة، والإسلامية خاصة؛ حيث بيانها "عليها السلام" لأعظم مادة قانونية إسلامية تتعلق بالأسرة والحفاظ عليها من الضياع والانحراف.
٢- إنَّ دعوتها المباركة إلى التحذير من عدم بر الوالدين هو تأكيد لمنهج القرآن الكريم الداعي إلى ذلك (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، وفيه بيان إلى وحدة هذا المنهج والخطاب وكماله في بناء المجتمع الإسلامي خاصة.
٣- إنَّ بيانها لآثار هذا البر للوالدين وهو (الوقاية من السخط) فهي تؤكد الصراط المستقيم الذي يحافظ على المجتمع من سقوطه إلى الهاوية، كما نرى ذلك في المجتمعات الغربية التي تفككت فيها الأواصر الأسرية، ووصل السخط المجتمعي وسوء المعاملة مع الأبوين في مرحلة العمر المتقدمة.
٤- إنَّ مما لا يخفى فإنَّ قولها في التحذير من (السخط) يقينًا هي تقصد (السخط الإلهي) على الأبناء العاقِّين سواء في الدنيا أو الآخرة، وأول ذلك حرمان النظرة الإلهية الرحيمة، بل لعله يمكن أنْ يتعدى الأمر إلى (السخط المجتمعي) الآني، والذي له أثر كبير على الإنسان العاق بوالديه اجتماعيًّا، إذا كان المجتمع واعيًا لهذه المبادىء الإنسانية، فضلًا عن الإيمانية، وفي ذلك نوع من أنواع الانحراف المجتمعي الذي تعالجه هذه الوصية الفاطمية المباركة.
٥- إنَّ مما يؤسف له أننا نرى بعض الناس وحتى من المؤمنين يخشى (السخط المجتمعي) أكثر من خشيته (السخط الإلهي) وفي ذلك تمام الانحراف العقدي للمجتمع، وهذا مما أشار الله تعالى إليه في إحدى بيانته لانحراف المجتمع فقال تعالى: ((إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)) [النساء: ٧٧]، فمثلًا هناك من البناء يريد أنْ يرمي أبويه في (دور المسنِّين) ولكنه يخشى نظرة المجتمع السلبية إليه!! ولا يجعل الخشية الإلهية نصب عينيه كما في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)) [الأحزاب: ٣٩].
 ختامًا.. 
إنَّ تأكيد السيدة الزهراء "عليها السلام" على (بر الوالدين) والوقاية من السخط في التقصير تجاههما إنما هو دعوة مباركة لقراءة اجتماعية واعية على وفق (منهج الثقلين) الهاديين إلى الصراط المستقيم، وإلى بناء مجتمع صالح. والسلام

 خادم الثقلين
السبت ١٦ / ج١ / ١٤٤٧هج

نعم
هل اعجبك المقال