البحث المتقدم

البحث المتقدم

الكتاب. . . الصديقُ الذي لا يشيخ

0 تقييم المقال

 في السنواتِ الأخيرة، وبعدٌ أنْ تقدمَ بنا العمر، وتفرقتْ بنا سبلَ الحياة، بدأَ الجسدُ يبوحُ بأوجاعهِ الصغيرة، وبدأتْ ملامحُ التقاعدِ تلوحُ في الأفقِ، ومعَ انحسارِ الزحامِ منْ حولي، وجدتني أفتش عنْ رفقةٍ تؤنسُ ما تبقى منْ أيامِ العمر، رفقةٌ لا تثقلُ القلبَ بثرثرةِ السياسةِ ولا تربكُ الذاكرةُ بحساباتِ المناصبِ والوظائف. بحثتْ كثيرا عنْ أصدقاءٍ يشبهونَ هدوئي الجديد، فلمْ أجدْ أصدقُ منْ الكتاب؛ ذاكَ الرفيقِ القديمِ الذي يعودُ كلُ مرةٍ أكثرَ شبابا ووفاء. 
    ففي صفحات الكتاب، لا أجد غيبةً أو نفاق، لا صراخ ولا جدال، بلْ حوارٌ صامتٌ عميقٌ يملأُ القلبُ سكينة ويشعلُ العقلُ نورا. فتحتْ أبوابُ القراءةِ على مصراعيها، فلمْ أعدْ أكتفي بكتبي القانونيةِ القديمة، بلْ جلتْ في عوالمِ الأدبِ والفنِ والسياسةِ والرياضة، حتى وجدتْ في الكتابِ محرضا على الكتابةِ نفسها، شيئا فشيئا، تحولتْ منْ قارئٍ إلى كاتب؛ أكتبُ مقالاتٌ نقديةٌ وفكريةٌ واجتماعية، تجاوزُ عددها المائة، نشرتها في صحفِ ومواقعَ مختلفة.  ومنْ خلال كتاباتي، تعرفتْ إلى أصدقاءٍ جددَ منْ كلِ مدنِ الوطن، منْ الشمالِ حتى الجنوب، بلْ تجاوزتْ صداقاتي حدودُ الجغرافيا.
    لقدْ أدركتْ أخيرا أنَ الصديقَ الأوفى لا يسكنُ البيوت، بلْ ينامُ على الرفوف، ينتظرَ أنْ تمتدَ إليهِ يدٌ عاشقةٌ للمعرفة. ذلكَ هوَ الكتاب؛ الصديقُ الذي لا يخون، ولا يشيخ، ولا يرحل، مهما طالَ بنا العمرُ أوْ قصرِ الطريق.
    تدبّرتُ آياتِ كتابِ اللهِ العزيز، فوجدتُ عشرات المواضع في الذكر الحكيم التي تشير إلى الكتاب بمعانٍ متعدّدة، تجمع بين الهداية والرحمة والحق والعدل. 
   كما في قولهِ تعالى في الآيات الكريمة: ( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدى للمتقين) سورةَ البقرة: 2.  وقوله تعالى: ( وهذا كتابٌ أنزلناهُ مباركٌ فاتبعوهُ واتقوا لعلكمْ ترحمون). سورةُ الأنعام: 155. وقوله تعالى: ( إنا نحنُ نزلنا عليكَ الكتابُ بالحقِ فاعبدْ اللهَ مخلصا لهُ الدين). سورةً الزمر: 2.  وقوله تعالى: (ولقدْ آتينا موسى الكتابِ وقفينا منْ بعدهِ بالرسلِ). سورةُ البقرة: 87.  وقوله تعالى: (اللهُ الذي أنزلَ الكتابُ بالحقِ والميزانِ). سورةُ الشورى.: 17.
 أما فيما ذكره الفلاسفة والأدباء عن الكتاب، فنستعرض هنا بعضًا من أقوالهم:
   ففي قول المتنبي: " خيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ ."أما أبو حيان التوحيدي:  فيقول:"الكتاب هو العالم الذي لا يفنى، والصديق الذي لا يُمَلّ". في حين يعبر فرانسيس بيكون، عن أثر القراءة بقوله : "القراءة تصنع الإنسان الكامل، والمحادثة تصنع الإنسان المستعد، والكتابة تصنع الإنسان الدقيق." وفي ما يتعلّق بعلاقة الكتاب بالصداقة، فقد جاء في مثلٍ عربي: "الكتاب صديق لا يملك، ولا يطلب منك سوى وقتك". ونستمر في القراءة دون أي ملل أو كلل، حتى تحين ساعة الرحيل."
ونختم مقالتنا؛  بعبارة من رائعة فيلم المريض على لسان (هانا): ( أحب الكتب لأنها لا تسألني من أنا،  بل تفتح ذراعيها  كما لو كانت تنظرني منذ قرون) المقتبس من رواية( مايكل اونداتجي).
 

نعم
هل اعجبك المقال