البحث المتقدم

البحث المتقدم

رسوم المستشفيات.. حين يتحوّل الإصلاح إلى عبء اجتماعي

0 تقييم المقال

 

في مشهد يعكس التباسًا في ترتيب الأولويات الاقتصادية، قررت الحكومة العراقية فرض رسوم جديدة على دخول المستشفيات الحكومية، بلغت عشرة آلاف دينار للمراجعة الواحدة، ورغم أن القرار يبدو، من حيث المظهر، إجراءً تنظيمياً لتحسين إيرادات المؤسسات الصحية، إلا أن مضمونه يكشف عن توجّه مقلق نحو تحميل الفئات الأضعف كلفة العجز المالي، في وقت تتعاظم فيه مظاهر الهدر والامتيازات في قمة الهرم الإداري.

توقيت القرار ليس بريئًا؛ فهو يأتي في سياق ضغوط مالية تمر بها الدولة، حيث يتعاظم العجز في الموازنة الاتحادية، وتتصاعد الحاجة لتمويل نفقات تشغيلية وخدمية متزايدة، غير أن السؤال المركزي هو: هل إصلاح المالية العامة يبدأ من جيب المواطن؟

الجواب الواقعي أن الرسوم المفروضة لن تُحدث فارقًا ملموسًا في ميزان الإيرادات، لكنها ستترك أثرًا مباشرًا على شرائح واسعة من الفقراء الذين يعتمدون على المستشفيات الحكومية كملاذ وحيد، فبدلًا من أن تُحمى هذه الفئات، تُعاقب بإجراءات تضعف قدرتها على الوصول إلى الخدمة الصحية الأساسية، وهو ما يتعارض مع فلسفة الدولة الاجتماعية وحقوق الإنسان الدستورية، الا إن أكثر ما يثير الحفيظة في هذا الإجراء ليس قيمته المالية فحسب، بل المفارقة بينه وبين استمرار امتيازات مالية ضخمة تستنزف الخزينة العامة، رواتب وامتيازات بعض المسؤولين، والمخصصات الخاصة، ورواتب "رفحاء"، ومزايا التقاعد المزدوج والدرجات الخاصة، تُشكل عبئًا هائلًا على الموازنة، ومع ذلك تبقى خطوطًا حمراء يصعب الاقتراب منها، فإذا كان الهدف من الرسوم ترشيد الإنفاق أو توليد إيرادات، فإن الإنصاف والجدوى الاقتصادية معًا يقتضيان أن يبدأ الإصلاح من الأعلى، لا من الفئات المهمشة.

الأخطر من تبعات القرار المالية، هو ما يتركه من أثر نفسي على علاقة المواطن بالحكومة، فعندما يُفرض رسم صحي على الفقير دون أن يُمسّ دخل المتنفذ، فإن الرسالة التي يتلقاها المجتمع هي أن العدالة مؤجلة، وأن الإصلاح مجرد شعار يُرفع حينًا ويُسقط حين يصطدم بالمصالح العليا، وهنا، يتحوّل القرار من خطوة إدارية إلى أزمة ثقة حقيقية بين الدولة ومواطنيها، وهي أزمة لا تُحل بالأرقام، بل بالعدالة السياسية والجرأة في مواجهة الامتيازات.

إن إصلاح القطاع الصحي لا يبدأ بفرض الرسوم، بل بإعادة هيكلته، وتحسين جودة الخدمة، وتفعيل نظام التأمين الصحي الشامل، وضمان استقلاليته عن العبث السياسي، كما أن إصلاح المالية العامة يقتضي مراجعة عميقة لبنية الإنفاق العام، ومكافحة الفساد البنيوي، وتوجيه الدعم نحو الفئات المستحقة، كما إن الدولة التي تبدأ إصلاحها من المواطن الفقير، وتتردد في الاقتراب من مكامن الترف والنفوذ، لا تبني نظامًا عادلاً، بل تُكرّس اختلالًا في توزيع الأعباء والفرص.

الرسوم الصحية قد تبدو إجراءً عابرًا، لكنها تكشف منطقًا خطيرًا في الإدارة العامة: منطق تحميل الضعفاء وزر ما لم يرتكبوه. والإصلاح الذي لا يبدأ من القمة، لن يصل إلى القاعدة.

نعم
هل اعجبك المقال