البحث المتقدم

البحث المتقدم

الثقافة والهوية الوطنية المنسية

185 تقييم المقال

عندما نتحدث عن الهوية الوطنية، نميل غالبًا إلى التركيز على العناصر الحضارية والسياسية والتاريخية؛ الأعلام، الأبطال الوطنيون، المعالم الأثرية، وحتى الحركات السياسية والاجتماعية التي شكلت ماضي الأمة، لكن هناك عنصرًا أساسيًا، غالبًا ما يُنسى في هذا السياق، وهو الطبيعة، فهل يمكننا حقًا أن نفصل الهوية الوطنية عن بيئتها الطبيعية؟

الطبيعة ليست مجرد خلفية جغرافية أو ديكور طبيعي يُحيط بالمجتمعات، بل هي عنصر حيوي ومتفاعل ساهم بعمق في صياغة الهويات الثقافية والاجتماعية عبر التاريخ، الأنهار، الجبال، الصحارى، والغابات ليست فقط معالم طبيعية، بل رموز تمتد جذورها في الذاكرة الجماعية، وقد لعبت دورًا في تشكيل القيم والممارسات والعادات التي تميز كل مجتمع عن الآخر.

خذ على سبيل المثال مناطق الأهوار، حيث شكّل الصيد والزراعة نمط حياة فريد انعكس على الطقوس الشعبية، الصناعات المحلية، وحتى الأدب والفن، أو البيئة الصحراوية، التي غرست قيمًا مثل الصبر والتحمل والتكيف مع الطبيعة القاسية، هذه البيئات، رغم تنوعها، جمعت بين الإنسان والطبيعة في علاقة تكاملية أنتجت ثقافات فريدة وحافظت عليها.

مع ذلك، نادراً ما تُذكر الطبيعة في الخطاب الوطني، حيث تطغى الرموز السياسية والتاريخية الأكثر وضوحًا وإثارة، قد يكون هذا الإغفال مفهومًا؛ إذ إن استحضار الرموز السياسية والتاريخية أسهل وأشد تأثيرًا على العواطف الجماعية، لكن هل يمكن للهوية الوطنية أن تكتمل بدون الطبيعة التي شكّلت أساسًا للثقافة والاقتصاد وحتى طريقة التفكير؟

اليوم، وفي ظل التغيرات المناخية وفقدان التنوع البيولوجي، بدأ العالم يدرك أهمية الطبيعة ليس فقط كعامل بيئي، بل كجزء أصيل من الهوية الوطنية، والحفاظ على الطبيعة هو، في جوهره، حفاظ على الذاكرة الجماعية وعلى التراث الثقافي الذي نشأ في كنفها. فمن غير المنطقي أن ندعو إلى الحفاظ على هوية وطنية تتجاهل جذورها البيئية.

ربما حان الوقت لإعادة النظر في مفهوم الهوية الوطنية، ودمج الطبيعة ضمن عناصرها الأساسية، ليس فقط للاعتراف بمساهمتها في تشكيل الماضي، ولكن أيضاً لضمان استدامة الحاضر والمستقبل، علينا أن نرفع صوتنا للتأكيد على أن الحفاظ على الطبيعة ليس خيارًا ترفيًا، بل ضرورة ترتبط ارتباطًا وثيقًا باستدامة الهوية الوطنية.

إن الطبيعة ليست مجرد شاهد على تاريخنا، بل شريك في صنعه، وفي وقت أصبحت فيه تحديات البيئة قضايا وجودية، يجب أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من أي خطاب وطني يطمح للاستدامة والشمولية، الهوية الوطنية ليست ثابتة؛ إنها عملية مستمرة تتجدد بتجدد فهمنا لعناصرها، والطبيعة، بلا شك، أحد هذه العناصر التي لا يمكن إغفالها بعد الآن.

نعم
هل اعجبك المقال