يُعبّر عن مفهوم العشيرة في نطاق واسع بأنها الوحدة الاجتماعية التي تعدّ امتدادًا للأسرة، وتتميّز بتسلسل نسبيّ معين يتفق مع نظام سكني خاص عادةً؛ ولذلك يمكن أن تعدّ العشيرة وحدة مكانية أيضًا، ويُعرف عالم الاجتماع الفرنسي (دور كايهم) العشيرة بأنها مجتمع تتعدّد فيه الزمر الاجتماعية، ولكنه لا يزال يحتفظ بوحدته وتجانسه وعدم قبوله للانقسام إلى عدّة مجتمعات متمايزة، على الرغم من أنها تتكون من أُسر صغيرة، ومن هنا يمكن القول: إن العشيرة هي مؤسسة اجتماعية تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار وبث الطمأنينة بين الأفراد، فضلًا عن زرع الألفة والمحبة وغرس المودّة، ناهيك عن دورها في الإصلاح والتكافل الاجتماعي ونبذ التطرّف والعنف والصراع.
وتظهر أهمية العشيرة في الإسلام كعون للفرد ومساعدته في إصلاح ذاتهِ وأسرتهِ، والسير على طريق العدل والإنصاف ونصرة المظلوم، وقد كانت بعض العشائر في الجاهلية تقوم ببعض الأفعال المحرمة مثل الاعتداء على القبائل الأخرى، ونهب أموالهم وممتلكاتهم، وكذلك تتباهى بقوتها بين القبائل الأخرى بمقدار ما تحصل عليه من غنائم، إلا أنّ الإسلام نهى عن تلك الأعمال وجعلها من أشدّ المحرمات.
ودعا الإسلام إلى التمسك بالعشيرة فيما يكون في طاعة الله، ونهى عن اتباع العشيرة المتعصبة التي لا تميّز الحقّ عن الباطل، كما قال تعالى في سورة التوبة: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وتظهر أهمية العشيرة بوضوح في وصية الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما أفضل الصلاة والسلام) بقوله: (أكرم عشيرتك فإنهم أصلك الذي إليه تصير، وجناحك الذي به تطير، هم العدّة عند الشدّة، أكرم كريمهم وعُد سقيمهم، ولا يستغني الرجل عن عشيرته ولو كان ذا مال، فإنّه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهي أعظم الناس حيطة من ورائهِ وألمّهم لشعثهِ، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة اوحلت به مصيبة، ومـن يقبض يـدهِ عن عشيرتهِ فإنما يقبض عنهم يدًا واحده وتقبض عنه أيدً كثيرة).
من المعروف عن المجتمع العراقي أنه يتميّز بتعدّد الأديان والقوميات والقبائل منذ قديم الزمان، وولّدت هذه التعدّدية فئات مجتمعية كثيرة، كما شكلت جغرافية الوطن المتنوّعة وحدات اجتماعية عديدة أيضًا، وعبر هذه الوحدات أو التجمعات البشرية يتمّ تنظيم العلاقات بين أفراد الوحدة، عبر صياغتها لقوانين وسلوكيات تلزم الأفراد التمسّك بمبادئها، وهذا ما يسمى بالعرف العشائريّ أو السنن العشائرية، ولعل البنية العشائرية هي أحد أبرز المكونات الاجتماعية التي تفرض بوجودها مؤثرات قادرة على التحكم بالعلاقات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، ولعل أوضح مثال نستدل على ما ذكر: هو اشتراك العشائر العراقية بمختلف فئاتهم وطبقاتهم في مواجهة الاحتلال الإنجليزيّ للعراق (1904-1918)، وصولًا إلى ذروتها التي تجسدت في ثورة العشرين، تلك الثورة التي وقفت بوجه الاستعمار البريطانيّ وأوقفته عند حدوده، والتي عُدّت نقطةَ انبثاق للدولةِ العراقيّة الحديثة، وانعتاق للهوية الوطنيّة التي باتت تُدحض لولا تلك الثورة، كما رأى الباحث الاجتماعي د. علي الورديّ، في كتابه: «لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث»: (أنّ ثوّرة العشرين كانت أول حدثٍ يشتركُ فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، العمامة بجانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللّفة القلعية، والعقال جنب إلى جنب مع الكلاو، يوحدّهم شعار: "يحيا الوطن")، كذلك الدور الرئيس والبارز الذي لعبته في مجابهة العناصر الإرهابية والتكفيرية عندما سيطرت على ثلث العراق، إذ هبّت بشبانها وكلّ رجالها بعد صدور فتوى الدفاع الكفائي في عام (2014م)، لتسطر أروع الملامح والبطولات في دحض قوى الظلام، إذ أصبحت بالدرجة الأولى القوى المدافعة عن العراق وشعبه وأرضه آنذاك.
لا يخفى على الجميع ما يشهده مجتمعنا اليوم من تحديات اجتماعية كبيرة ومؤثرة تعصف بقيّمه الأصيلة، متسببة بذلك في تفكك الروابط الدينية والتربوية والأخلاقية التي لطالما كانت أساس تماسكه وقوته، ومع انتشار هذه الظواهر السلبية وتفشيها في المجتمع، بات البعض من الأجيال الشابة يعاني من فقدان البوصلة الأخلاقية والاجتماعية، مما جعلهم عرضة سهلة للهجمات الثقافية والفكرية الشرسة التي تستهدف هويتهم وقيمهم الأصيلة، فأمسى الكثير من الشباب ممزق دينيًا وعلميًا وعاطفيًا، فيما أصبحوا لاهثين وراء ملذات الحياة المتنوعة، من دون الإحساس أو الشعور برغبة في تحقيق أهدافهم الدنيوية الدينية والاجتماعية المنجلية عليهم.
هذه التحديات تُبرّز الحاجة إلى دور اجتماعي فاعل ينهض بالمسؤولية لإعادة بناء النسيج المجتمعي، إذ أن أغلب الشباب اليوم، وهم عماد المجتمع ومستقبله، يعانون من حالة من الضِيّاع الفكري والأخلاقي؛ نتيجة إلى غياب البيئات الداعمة التي ترشدهم نحو الطريق السليم، ومع تصاعد الهجمات الفكرية والثقافية التي تُعرف بالحرب الفكرية الناعمة، أصبح الشباب أكثر تأثرًا بأفكار وممارسات دخيلة على قيّمنا وعاداتنا المتعارف عليها، ونتيجة لذلك ظهرت ظواهر مقلقة جدًا، مثل تعاطي المخدرات، والشذوذ الجنسيّ وارتفاع نسب الطلاق، وما يتبعها من ظواهر التفكّك الأسري الأخرى، مما أدّى إلى ولادة جيل جديد يعاني من آثار هذا التصدّع المجتمعي، وهنا تظهر أهمية المضايف العشائرية كمحاور تغيير ومنابر إصلاح.
فلطالما كانت المضايف العشائرية رمزًا للكرم والأصالة ومركزًا لحل النزاعات وتعزيز التضامن الاجتماعي، ولكن مع التحولات التي طرأت على المجتمع ودخول التكنلوجيا الحديثة إليه، فقدت كثير من هذه المضايـف دورها المحوري، لتتحول في كثير من الأحيان إلى أماكن للتفاخر والمظاهر الشكلية، متناسية وظيفتها الأعمق والأهم في رعاية أبناء العشيرة وتوجيههم نحو القيم الصحيحة، ويعكس هذا التراجع في الدور التربوي والاجتماعي للمضايف العشائرية وعلى فق العلوم التربوية والاجتماعية تآكلًا في القيادة المجتمعية وهو أمر يستدعي التدخل العاجل لإعادة توجيه البوصلة نحو الإصلاح.
إنّ المضايف العشائرية بتنوعها وثرائها قادرة على أن تكون مراكز إشعاع فكري وثقافي، وإنّ مواجهة هذا الواقع يتطلّب تدخلًا فاعلًا من شيوخ وأمراء العشائر الذين يمتلكون مكانة رمزية واجتماعية تخولهم قيادة التغيير، إذ يجب على المضايـف أن تتحول من أماكن شكلية إلى مراكز للوعي والتثقيف، لتُعقد فيها جلسات تربوية ودورات تنموية علمية وأخلاقية تهدف إلى بناء الإنسان الواعي والمسؤول، هذه المضايف يمكن أن تكون مدارس غير رسمية تُصقل فيها عقول الشباب وتُغرس فيهم القيّم الأصيلة التي تحصنهم من التأثيرات السلبية، كما إن هذا التحول لا يمكن تحقيقه من دون الاستعانة بالخبراء والمتخصّصين في مجالات التنمية النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فضلًا عن القانونية والطبية، عن طريق هذه الشراكات يمكن للمضايف أن تُصبح مراكز للإصلاح والتوجيه، تسهم في حل المشكلات الاجتماعية وتعزز مناعة المجتمع ضد التحديات الفكرية والثقافية.
وأخيرًا إنّ دعوة شيوخ العشائر لتحمل هذه المسؤولية وإدراكهم حجم الخطر الذي يواجه أبناء عشيرتهم، ليست مجرد أمنية، بل هي ضرورة وجودية للحفاظ على تماسك المجتمع وقيّمه، ليكونوا حصنًا منيعًا في وجه كل التحديات التي تهدد هويتهم ومستقبلهم، فالمضايف ليست مجرد أماكن للكرم وحلّ النزاعات، بل هي مؤسسات اجتماعية وثقافية يمكن أن تسهم في إنقاذ المجتمع من أزماته، فليكن لكلّ شيخ مضيف دور رائد في استغلال مكانته الاجتماعية، عبر بناء الوعي ونشر القيّم التي تحفظ كياننا الاجتماعي، ليظل مجتمعنا حصنًا منيعًا أمام كلّ ما يهدد وحدته وأصالته.