من أخطر ما يواجه مجتمعاتنا هو (الأمية الثقافية)، التي هي من وجهة نظري أخطر بكثير من (الأمية العلمية)، وإن كانت هناك جدلية بين هذه وتلك، ولكن (الأمية الثقافية) تهدد مصير المجتمع بأكمله، فكيف يكون حالنا إذا ونحن نعيش (أمية تعليمية)؟! بمعنى أننا نعيش في وسط اجتماعي، يعاني من أمية التعليم ولا يعي ما للـ (أمية الثقافية) من تأثير سلبي في أن تجعل المجتمع أكثر تراجعا وأشد تعلقا بالتاريخ، ولا أدل على ذلك من وجودنا في مقدمة قائمة الدول الأكثر تخلفا.
ما نحتاجه هو فكر مقترن بالفعل يدعونا لفهم واقعنا وحل إشكالية النهضة، التي لا تُحل من وجه نظر محمد عابد الجابري من دون حل جميع المشكلات التي شكلتها، وفي مقدمتها العمل على تجاوز «الأمية التعليمية»، من خلال الاهتمام بقطاعي التربية والتعليم، ومن ثم الاهتمام بـ «التنمية الثقافية» التي لا تتحقق من دون الاهتمام بالفنون التي تهذب الذوق العام، والردفع بالتجاه دعم الدراسة في أقسام العلوم الإنسانية، لا سيما الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم النفس، لأننا يمكن أن نستقدم أطباء ومهندسين من دول أجنبية شتى، ولكن من الصعب أن نأتي بعالم مثل علي الوردي أو شاعر مثل السياب، أو فنان تشكيلي مثل فائق حسن أو جواد سليم، وعدد ما تعرف من مبدعي هذا البلد، الذين يُمثلون ضمير الأمة ويدونون تاريخها ويصنعون الجمال الذي فيها.
في مقابل تنامي «الأمية الثقافية» نجد في الوقت ذاته إصرارًا على أن يعيش المجتمع «الأمية العلمية والتقنية» ولا أدل على قبولنا بهيمنة الأميات التي ذكرنا أهمها هو غيابنا عن الحضور والتأثير في ثورات الإنفوميديا أو الثورات المعلوماتية أو الثورات العلمية.
واحدة من مشكلات مجتمعنا أنه يعيش فكرًا نكوصيًا يتحكم في صناعة وعيه أناس لا يعون أهمية الثقافة والعلم في تقدم مجتمعاتهم.
من الصعب علينا قبول ما آل إليه حالنا لنكون في مقدمة الدول الأكثر فسادًا، لأننا لا نعي أهمية «التنمية الثقافية» في تنمية الشعور بقيمة «الانتماء الوطني»، الذي يجعل الفرد حريصًا على تطور مجتمعه والاجادة في عمله.
تعمل العلوم الانسانية على بناء «عقل نقدي» لا ينخدع بالشعارات والخطابات الوجدانية والعاطفية، والسير مع الجمع، ولك أن تنظر للأمم المتقدمة تجدها هي الأمم التي تحتفي بمثقفيها وبفلاسفتها وعلمائها وفنانيها.
كيف لمجتمع مثل المجتمع العراقي له كل هذا التاريخ منذ عصر التشكيل الحضاري، وصولًا لبغداد عاصمة الدنيا وحاضرة الثقافة والعلم أن يؤول مصيرها لتكون في لائحة الأمم الأكثر تراجعًا؟
مشكلة مجتمعنا أنه تنازل عن حقه التاريخي في الريادة الحضارية، ليستلم زمام أمره صُناع قرار ينتمون فكريًا لعقلية قروسطية، لذلك نجد تراجعنا أمرا طبيعيا، لأن الأمة بقادتها، وكل مجتمع يتحكم به قادة ينتمون فكريًا للماضي ويجعلون الحاضر في خدمة هذا الماضي، لا يكون من المستغرب عليهم تغافلهم عن تراجعنا الثقافي والعلمي، بل هم من يسعون جادين لبقاء المجتمع بلا رؤية ستراتيجية لتطوير التعليم ولا ينشغلون بما هو ثقافي وعلمي بقدر ما ينهمكون بالدفاع عما هو طقوسي وشعائري، قد لا يكون له تأصيل لا في الدين ولا في الموروث العقائدية «التعددية الثقافية» تحصيل حاصل للأمية في التعليم والتربية، وبالتأكيد تكون «الأمية العلمية» نتيجة طبيعية في مجتمع يُقدس المشايخ ويستخف بما قدمه كبار المثقفين في السرد والشعر وكل النتاج الأدبي، وفي العلماء ومن سار على نهجهم. قد تجد شخصًا حاصلا على شهادة عليا ماجستير أو دكتوراه، ولكنه يُمكن وصفه بأنه من الذين يعيشون (الأمية الثقافية) لأنه تعلم علمًا أتقنه، ولكنه جاهل بتحديات المجتمع الثقافية الذي يعيش فيه، فتجده عالمًا في مجاله العلمي، ولكنه جاهل بقيمة «التعددية الثقافية» والدينية الأيديولوجية في مجتمعه، وتجده مُدافعًا عن موروثه العقائدي، من دون معرفة حقيقية بتاريخ متبناه العقائدي أو الديني. كل شخص يرث معتقد وتجده يُدافع عنه من دون تبريرات عقلية ومنطقية، إنما هو شخص يُعاني أزمة معرفية وثقافية، وهو يحتاج لدروس يتعلم فيها كيفية محو «الأمية الثقافية»، التي جعلته يعتقد بأن موروثه العقائدي هو الأحق أن يُتبع «الأمية الثقافية» مرض يُصيب المثقفين والأكاديميين على حد سواء، حينما يظنون أن مُتبنياتهم الفكرية هي من قبيل الحق الذي لا يحق لغيرهم التشكيك فيه.
هناك مفاهيم أخرى عن تجليات الأمية الثقافية والعلمية معًا مثل «الأمية المعلوماتية» و» الأمية التكنولوجية» وكلها تمظهرات وتشكلات لأمية الأصل فيها هو «الأمية الثقافية»، التي لا تأصيل لها من دون عمل على خلق استراتيجية فاعلة في تجاوز «الأمية التعليمية».