ضرر الفساد في أمثلة (لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا)
في تقريرها السنوي لعام 2024، كشفت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة "PFAA" عن سلسلة من الانتهاكات غير المسبوقة التي تعرض لها الصحفيون العراقيون، مؤكدةً أن المشهد الإعلامي في العراق لا يزال يعاني من تحديات كبيرة تتراوح بين القمع المباشر والتضييق على حرية التعبير، فمع تسجيل 457 انتهاكاً ضد الصحفيين، من قتل واعتقال وتهديد إلى منع التغطيات الإعلامية ورفع دعاوى قضائية، يبدو أن الصحافة العراقية تتعرض لأبشع صور القمع في ظل واقع سياسي مضطرب.
إن أكثر ما يلفت الانتباه في التقرير هو أن بغداد كانت المدينة الأبرز في انتهاك حقوق الصحفيين، حيث سُجلت 105 حالات انتهاك، شكلت الدعاوى القضائية من الجهات الحكومية الجزء الأكبر منها، وهذا يشير إلى أن الحكومة، بدلاً من أن تكون داعمة لحرية الصحافة، أصبحت أحد أكبر المساهمين في تقويض هذه الحرية، من خلال محاكمة الصحفيين وحبسهم بتهم غالباً ما تكون متعلقة بالنقد أو التحقيقات الصحفية التي تفضح الفساد والممارسات السياسية غير القانونية.
التقرير أيضًا لم يقتصر على ذكر الجهات الحكومية، بل أشار إلى دور الهيئات المستقلة والنقابات المهنية، بما في ذلك نقابة الصحفيين، في "انتقامها" من الصحفيين وإرهابهم، بل والأكثر إثارة للقلق أن النقابة التي من المفترض أن تكون حامية لحقوق الصحفيين قد ساهمت في رفع دعاوى قضائية ضدهم وحجبت رخص العمل عن الصحف، مما يجعلنا نتساءل عن دور هذه النقابة في تعزيز بيئة صحفية حرة وآمنة.
من بين التحديات التي يواجهها الصحفيون العراقيون، تبرز محاولات فرض الوصاية على وسائل الإعلام، فهناك سعي مستمر من قبل بعض الجهات المتنفذة للرقابة على المحتوى الإعلامي عبر "الإنذار" أو حجب ظهور شخصيات معينة، وهو ما يعكس تراجعاً كبيراً في التعددية الإعلامية.
أما التوصيات التي طرحتها الجمعية، فهي تتسم بالأهمية والضرورة، ومن أبرز هذه التوصيات إحياء محكمة الإعلام والنشر، وإنشاء لجنة خبراء من مجلس القضاء الأعلى لتقييم المنشورات، بالإضافة إلى إطلاق سراح الصحفيين المعتقلين غير المشروط والفوري.
هذه التوصيات يمكن أن تشكل خطوة نحو تحسين وضع الصحافة في العراق، لكن تبقى الإرادة السياسية هي العامل الحاسم في تنفيذها.
إن مستقبل الصحافة العراقية مرهون بمدى قدرة المجتمع المدني والناشطين الصحفيين على مواجهة هذه الانتهاكات من خلال الضغط المستمر على السلطات العراقية والمنظمات الدولية، لذا يجب أن تكون هناك جهود أكبر لتعزيز حرية الصحافة وضمان سلامة الصحفيين، فحرية التعبير تعد حجر الزاوية في بناء أي ديمقراطية حقيقية.
في النهاية، إن استمرار هذه الانتهاكات لن يؤثر فقط على الصحفيين، بل سيعكس تدهوراً في مستوى الحريات العامة في العراق، وإذا كانت الحكومة جادة في تقديم صورة ديمقراطية حقيقية، فعليها أن تتوقف عن القمع وتدافع عن حرية الصحافة باعتبارها حقاً أساسياً من حقوق الإنسان.