عن تفسير الميسر: قوله سبحانه "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" ﴿النحل 89﴾ أمة اسم، واذكر أيها الرسول حين نبعث يوم القيامة في كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم، هو الرسول الذي بعثه الله إليهم من أنفسهم وبلسانهم، وجئنا بك أيها الرسول شهيدًا على أمتك، وقد نَزَّلْنا عليك القرآن توضيحًا لكل أمر يحتاج إلى بيان، كأحكام الحلال والحرام، والثواب والعقاب، وغير ذلك، وليكون هداية من الضلال، ورحمة لمن صدَّق وعمل به، وبشارة طيبة للمؤمنين بحسن مصيرهم. وجاء في تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله سبحانه "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ " وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل 89) "و" اذكر "يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم" وهو نبيهم، "وجئنا بك" يا محمد "شهيدا على هؤلاء" أي قومك، "ونزلنا عليك الكتاب" القرآن "تبيانا" بيانا "لكل شيء" يحتاج إليه الناس من أمر الشريعة "وهدى" من الضلالة "ورحمة وبشرى" بالجنة "للمسلمين" الموحدين.
عن دار المستقبل العربي مفهوم الأمة فى القرآن الكريم للدكتور عصمت سيف الدولة: 5 ـ وقد تكون جماعة من الناس لم تلتق زمانا أو مكانا ولكنهم يشتركون فى صفة خاصة بهم مقصورة عليهم يتميزون بها عن غيرهم. انهم حينئذ أمة. كذلك أسمت آيات القرآن جميع الرسل والأنبياء أمة واحدة مع أنه ـ سبحانه ـ قد أسمى كل جماعة آمنت برسول منهم أمة. فابتداء من الاية 48 من سورة الانبياء يتحدث القرآن عن الرسل والأنبياء، فيذكر موسى وهارون ولوطا ونوحا و داوود وسليمان وأيوب واسماعيل وادريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى ثم يقول:" إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" ( الانبياء 92). ولم يشتبه هذا أو يتعارض أو يتناقض مع الحديث عن بنى يعقوب وحدهم على أنهم أمة حين أخبر باشتراكهم فى الايمان بإله أبيهم. فقال تعالى: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ( البقرة 133-134). واذا كان المؤمنون بكل رسول أمة، فان منهم من يكونون أمة بما يتميزون به من اشتراك فى نشاط الدعوة أو منسك من مناسك العبادة. فى المعنى الاول قال الله تعالى: "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " ( الاعراف 159). وفى المعنى الثانى قال تعالى:" مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" (آل عمران 113). ويلاحظ أنه عندما أراد أن يتحدث عن جماعة متميزة بالهداية أو بالتلاوة بين جماعة هى أمة من حيث تميزها برسولها أو بكتابها أسمى الجماعة الاولى " أمة " وأشار الى الجماعة الثانية بما يميزها، مكتفيا به فى التعريف بها دون أن يسميها أمة اظهارا للمميزات المقصود اظهارها، وتلك قمة من قمم البلاغة فى القرآن. على أى حال، فان القرآن قد أسمى الجماعة المميزة أمة حتى حين كان مميزها أمرا لا يتصل بالعقيدة ايمانا أو كفرا. فأسمى الجماعة المتميزة بعلاقة قربى أمة فتعددت الامم بتعدد الفروع، بعد أن كان قد أسمى كل الاقرباء أمة حين اجتمعوا فتميزوا بأصلهم الواحد. قال تعالى: "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" ( الاعراف 159). هذا هو الاصل. ثم قال: "وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا" ( الاعراف 160). وهو واضح الدلالة على أنه حيث تتميز الجماعة تكون أمة فى لغة القرآن، ولا يمنع هذا من أن تكون جزءا من أمة على وجه آخر مما يميز الجماعات.
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله سبحانه "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" ﴿النحل 89﴾ أي: من أمثالهم من البشر ويجوز أن يكون ذلك الشهيد نبيهم الذي أرسل إليهم ويجوز أن يكون المؤمنون العارفون يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي وفي هذا دلالة على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممن يكون قوله حجة على أهل عصره وهو عدل عند الله تعالى وهو قول الجبائي وأكثر أهل العدل وهذا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجة منه هو "وجئنا بك" يا محمد "شهيدا على هؤلاء" يريد على قومك وأمتك وإنما أفرده بالذكر تشريفا له وتم الكلام هاهنا. ثم قال سبحانه "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ" يعني القرآن "تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" أي: بيانا لكل أمر مشكل ومعناه ليبين كل شيء يحتاج إليه من أمور الشرع فإنه ما من شيء يحتاج الخلق إليه في أمر من أمور دينهم إلا وهو مبين في الكتاب إما بالتنصيص عليه أوبالإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والحجج القائمين مقامه أوإجماع الأمة فيكون حكم الجميع في الحاصل مستفادا من القرآن "وَهُدًى وَرَحْمَةً" أي: ونزلنا عليك القرآن دلالة إلى الرشد ونعمة على الخلق لما فيه من الشرائع والأحكام ولأنه يؤدي إلى نعم الآخرة "وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" أي: بشارة لهم بالثواب الدائم والنعيم المقيم.
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله سبحانه "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" ﴿النحل 89﴾ "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ". ووجود هؤلاء الشهود، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم، لا يتعارض مع علم اللّه تعالى وإِحاطته بكل شيء، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي. ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإِسلامي و النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: "وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ". وقيل إِنّ المقصود بـ "هؤلاء" المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنّبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكمل طريقه فيكون شهيداً على الأُمّة (وهو من وسطها)، وينبغي أن يكون طاهراً من كل ذنب وخطيئة، ليتمكن من إِعطاء الشهادة حقّها. ولهذا اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد، حجّة، عادل، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإِمام المعصوم في كل زمان، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم من المذاهب الإِسلامية. ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإِشكال توجيهاً لا يخلو من إِشكال أيضاً حيث قال: (فحصل من هذا أن عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإِلاّ لافتقر إِلى شهيد آخر، ويمتد ذلك إِلى غير النهاية، وذلك باطل، فيثبت أنّه لابدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إِجماع الأمّة حجّة). لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" وليس مجموع الأُمّة شاهداً على كل فرد من أفراد الأُمّة. وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (41) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير "هؤلاء": الأوّل: أنّ "هؤلاء" إِشارة إِلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياء عليهم السلام والأوصياء، فيكون النّبي شاهداً على هذه الأمة وشاهداً على الأنبياء السابقين أيضاً. الثّاني: المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي، أيْ: شخص يكون وجوده قدوة وميزاناً لتمييز الحق من الباطل. (والمزيد من الإِيضاح، راجع ذيل الآية (41) من سورة النساء). وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ".
يقول الشيخ جلال الدين الصغير عن عصمة الشهادة: أولى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مهمة الشهادة على كل الأمم قديمهما وحديثها،فقال سبحانه في الآية الكريمة: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلاَءِ" (النحل 89) وقال: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاَءِ شَهِيداً" (النساء 41) وشهادة كهذه وبهذه الشمولية لا بد وأن تكون مسداة إلى من لا يشهد بالزور ولا يخون الشهادة ولا يكتمها، بل مثلها إنما تسدى لمن تملّكته العدالة الكاملة بحيث انه لا يحيد عنها مطلقاً، وهو ما يطابق معنى العصمة.






