البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٢ جمادى الآخرة ١٤٤٧

تاريخ البشر.. والعلم الحديث!

بسم الله الرحمن الرحيم

هل مضى على وجود آدم عليه السلام الآف السنين؟ أم الملايين منها؟

يعتقدُ غالب أتباع الأديان السماوية أنه قد مضى على زمن آدم عليه السلام حتى الآن ما بين 6000 و7000 سنة أو أكثر ببضعة آلاف من السنين.

فيما تشير الدراسات العلمية الحديثة إلى أن أقدم عظام بشرية عُثر عليها ترجع إلى حوالي (2 مليون سنة)! وذلك في جنوب أفريقيا، كما عثر على عظام أخرى تعود إلى أقل من هذه المدة في جورجيا وكينيا، ما يعني أن البشر أو أصناف منهم كان لهم وجود على الأرض قبل 2.5 مليون سنة تقريباً.

كانت صفات أصحاب هذه العظام كهيئة البشر المعهودة، من حيث الشكل أو الخصائص الجسدية عموماً، وقد كانوا يتمتعون بالإدراك ويشعلون النيران ويصنعون الرماح ويدبِّرون أمورهم، ويقال أنهم لم يتطوروا تطوراً لافتاً لما يزيد عن مليون سنة! وقد أطلق على هذا الصنف من الناس اسم (الإنسان الماهر Homo habilis).

كما عثر الباحثون على عظام بشرية لإنسان عاقل أكثر تطوُّراً من هؤلاء، ترجع إلى حوالي 315 ألف سنة! وذلك في جبل إيغود بالمغرب شمال أفريقيا سنة 1961م، ووجدت معها أدوات حجرية تشير إلى نشاطات صناعية متقدمة، وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة  Natureسنة 2017م، وقد سمي هذا الصنف من الناس باسم (الإنسان العاقل المبكر Early Homo sapiens) أو البدائي، في قبال الإنسان الحالي المعاصر الذي أطلق عليه اسم (الإنسان العاقل Homo sapiens).

ولمّا كنا لا نعتقد بصحَّة نظرية التطوُّر والارتقاء التي قيل أنها بدأت قبل حوالي 4 مليار سنة (لما سنبينه في بحث منفصل إن شاء الله)، ولا نعتقد أنَّ هذه (النِّسَخ البشرية) قد تطوَّرَ بعضها من بعض، ولا أنَّها تَطَوَّرت من القردة (التي عاشت قبل 25 الى 30 مليون سنة)، فإن السؤال الذي يطرح هو حول التطابق بين الرؤية العلمية والرؤية الدينية في تاريخ البشر على هذه الأرض.

ماذا تقول الأديان السماوية؟

يعتقد اليهود أن تاريخ الخلق يرجع إلى سنة 3761 قبل الميلاد، وإذا أضفنا إليها 2025 سنة (حتى اليوم) كان تاريخ الخلق أقل من 6000 سنة، وتحديداً 5786 سنة.

فيما ذهب الأسقف الأيرلندي المسيحي جيمس أوشر (James Ussher) (من القرن السابع عشر) إلى أن الخلق حدث في 23 أكتوبر 4004 قبل الميلاد، أي قبل 6029 سنة من الآن، وذلك بجمع أعمار الآباء عند ولادة أبنائهم كما ورد في سفر التكوين من العهد القديم.

أما المسلمون:

  1. فقد روى السنة ما يقرب من هذه المدة، حيث نقلوا عن رسول الله (ص) قوله: فَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ أَنَا فِي آخِرِهَا أَلْفًا (دلائل النبوة ج7 ص38)، وقوله (ص): الدنيا يوم خُلِقَت إلى يوم أفنيت.. سبعة آلاف سنة (جامع الأحاديث ج9 ص466).
  2. وروى الشيعة أن الإمام الصادق عليه السلام قد سئل عن صحة هذا القول، وهل أن الدنيا كلها منذ آدم إلى انتهاء البشرية هي 7000 عام؟ فقيل له: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الدُّنْيَا عُمُرَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ.

فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ..

ثم ذكر عليه السلام أن الله تعالى خلق فيها خلقاً من غير الجن والملائكة والناس، وأنهم أفسدوا فيها، إلى أن: خَلَقَ آدَمَ وَقَرَّرَ لَهُ عَشَرَةَ آلاف عام، وَقَدْ مَضَى مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ عَامٍ وَمِائَتَانِ، وَأَنْتُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (تفسير العياشي ج1 ص31).

ولئن اتفق الشيعة والسنة على أنَّ تاريخ بني آدم في هذه الدُّنيا غير معروف، كما يوم القيامة، فإنَّهم اختلفوا في صحة هذه الأخبار وعدمها، فذهب بعض علماء السنة إلى أنها موضوعة، كما اختلفوا في معناها على فرض صحتها.

ولكن.. مهما كانت المُدَّة بين آدم عليه السلام وبين أيامنا، فمن الواضح أنها تُعدُّ بآلاف السنين وليس بملايين السنين.

وهو ما لا يجتمع مع الاكتشافات العلمية الحديثة، التي يقول الباحثون فيها أنها تورث درجةً من القطع واليقين، والتي تبتني على دراسة دقيقة تحدد التأريخ (بنظير البوتاسيوم - أرغون) في طبقات الرماد البركاني التي دفنت فيها العظام، ويمكن عبرها معرفة تاريخ العظام بشكل دقيق.

كما تعتمد على دراسة ما يسمى بـ (التألُّق الحراري) للأدوات الحجرية المحروقة التي وجدت مع العظام.

إضافة إلى بعض الأبحاث حول أسنان هذه الهياكل العظمية.

فهل من سبيل للتوفيق بين هذه الدراسات العلمية وبين المعتقدات الدينية؟

ماذا يقول الشيعة؟

ينفردُ الشيعة بنقل رواياتٍ عن الأئمة الأطهار عليهم السلام، تفيد أنَّ الله تعالى قد خلق عوالم كثيرة جداً قبل هذا العالم، وأنها كانت تحوي بشراً غيرنا، فقد روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام حديثاً يقول فيه أن الله تعالى سيخلق خلقاً على غير هذه الأرض بعد أن يدخل أهلها الجنة والنار، ثم يقول عليه السلام: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ الله إِنَّمَا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْوَاحِدَ؟

وَتَرَى أَنَّ الله لَمْ يَخْلُقْ بَشَراً غَيْرَكُمْ؟

بَلَى وَالله، لَقَدْ خَلَقَ الله أَلْفَ أَلْفِ عَالَمٍ! وَأَلْفَ أَلْفِ آدَمٍ! أَنْتَ فِي آخِرِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ وَأُولَئِكَ الْآدَمِيِّين‏ (التوحيد للصدوق ص277).

وروي مثل هذا المعنى عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال:

لَقَدْ خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ خَلَقَهَا سَبْعَةَ عَالَمِينَ، لَيْسَ هُمْ وُلْدَ آدَمَ، خَلَقَهُمْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ فَأَسْكَنَهُمْ فِيهَا وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ عَالَمِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ أَبَا هَذَا الْبَشَرِ، وَخَلَقَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْه‏ (الخصال ج‏2 ص359).

وهذه النصوص صريحةٌ في أن هناك خلقاً قد تقدَّموا على جدنا آدم في الحياة على هذه الأرض، وأن عوالمهم كثيرة جداً، والاختلاف بين الروايات في عددهم لا يقدحُ فيها، لأنَّ العدد القليل (7 عوالم) جزء من الكثير (ألف ألف عالَم)، أو لغير ذلك من وجوه الجمع، والنص الأول صريحٌ في أنَّهم من البشر، وإن لم يكونوا من أولاد آدم عليه السلام.

كذلك أشارت بعض النصوص إلى أنَّ الله تعالى خلق خلقاً يُدعون (النسناس)، وأنهم (ليسوا بإنسٍ)، وقد كانوا يسكنون الأرض هم والجنّ قبل آدم عليه السلام، وأنَّ بعضهم قد علا على بعض، وبغوا في الأرض، وسفكوا الدماء، ورأى الملائكة منهم ذلك، وهو ما يفسِّرُ قولهم لله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ حينما قال لهم: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة﴾ (البقرة30).

ففي الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنَّ الله تعالى بعدما خلق الملائكة روحانيين لهم أجنحة، وأسكنهم أطباق السماء، وخلق الجنَّ روحانيين لهم أجنحة، وأسكنهم أطباق الأرض، بعد ذلك: خَلَقَ خَلْقاً دُونَهُمْ لَهُمْ أَبْدَانٌ وَأَرْوَاحٌ بِغَيْرِ أَجْنِحَةٍ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، نَسْنَاسٌ أَشْبَاهُ خَلْقِهِمْ وَلَيْسُوا بِإِنْسٍ.. (قصص الأنبياء للراوندي ص36).

ثم يذكر عليه السلام تمرُّدهم وطغيانهم..

فإذا صحت هذه الرواية، كان من المحتمل أن يكون هؤلاء مشابهين للبشر في خصائصهم، لكنهم ليسوا متطابقين معهم، وقد تنطبق عليهم صفات أقدم عظام عثر عليها.

وعلى كلِّ حال فإن الروايات المتقدِّمة تؤكد أن هناك عوالم قبل عالمنا، وقد اعتمد عليها الشيعة، فلم يقع التنافي بين عقيدتهم وبين تلكم الاكتشافات بوجه.

وهي وإن لم تكن قطعيَّة الصدور ولا مفصَّلةً من ناحية الدلالة وجزئيات تلك العوالم، إلا أنَّه يمكن الركون إليها والاطمئنان بالمعنى الإجمالي المستفاد منها.

لكنَّ علماء السنة أنكروا هذا القول، لمّا لم يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الروايات، ولم يقبلوا روايات آل محمد عليهم السلام، مع أنَّ قولهم هو قول رسول الله (ص).

واعتقد علماء السنَّة أن الفساد في الأرض كان من الجنّ فقط، لكنَّ بعضهم بالغَ في الطَّعن على الشيعة لاعتقادهم بتعدُّد العوالم!

فقال الآلوسي (المتوفى سنة 1270 هـ): والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدِّثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد وهو أبو البشر..

ثم نقل روايات الشيعة تعدُّد العوالم وقال:

وأما القول بظواهر هذه الأخبار فما لا يراه أهل السنة والجماعة، بل قد صَرَّحَ زينُ العَرَب بكفر من يعتقد التعدد! (روح المعاني ج2 ص391).

وزين العرب هذا هو هو فقيهٌ شافعيٌّ ومحدِّثٌ توفي في القرن الثامن للهجرة.

ولم يبق هذا القول والتشنيع في بطون الكتب السالفة، بل سرى إلى الفتاوى المعاصرة! فقد أفتى بعض علماء أهل السنة اليوم بأنَّ الصلاة خلف من يعتقد بأن الله خلق إنساناً قبل آدم لا تصح! فهو عندهم: ضالٌّ لا يُصلى خلفه، ويُخشى عليه الكفر، وأقل أحواله أن يكون ضالاً، مبتدعاً، فاسقاً، فتُترَكُ الصلاة خلفه زجراً له! (موقع الإسلام سؤال وجواب الفتوى رقم 302544).

فما السبب في تكفير الشيعة إذا اعتقدوا بما ورد عن أئمتهم؟ في عقيدة تفتح الباب أمام كنزٍ من العلوم والمعارف عن تاريخ البشر وأصل الخلقة.

إنَّ هذه الحدَّة تجاه الشيعة قد تُفسَّرُ عند شريحةٍ وفق قول الصادق عليه السلام: إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام) (الكافي ج8 ص159).

ولقد خالفت الأمة قول رسول الله في عليٍّ عليه السلام، وأنكرت حقه وجحدته، وخالفته في كلِّ ما قدرت على مخالفته، وسرى ذلك إلى أئمة المذاهب، حتى قال الإمام الكاظم عليه السلام أن أبا حنيفة: كَانَ يَقُولُ: قَالَ عَلِيٌّ، وَقُلْت‏! (الكافي ج‏1 ص56).

ثمَّ انجرَّ إلى مخالفة بنيه من بعده.. حتى حُكِيَ عن أبي حنيفة أيضاً أنه قال: خالفت جعفراً في كل ما سمعته منه، ولا أدري أكان يغمض عينيه في السجود أو يفتحهما حتى أخالفه! (كما نقل السيد العاملي في مفتاح الكرامة ج3 ص393).

وفي نَقلٍ آخر: ففتحت واحدةً وغمضت أخرى! (قاموس الرجال ج10 ص376).

وإذا كان مَن قبلنا من العوالم قد أفسدوا وسفكوا الدِّماء، فإنَّ البشر في هذه النشأة الأخيرة شاركوهم في ذلك، فقتلوا أنبياء الله ورسله وأولياءه، وظلموهم وقهروهم، وسلبوهم حقَّهم، وبغوا عليهم، فعذَّبَّ الله بعض الأمم السابقة، واستحقَّت هذه الأمة العذاب، لكنَّ الله رفعه وأجله إلى ظهور المهديِّ عليه السلام، عجل الله فرجه، وسهل مخرجه.

والحمد لله رب العالمين

السبت آخر جمادى الأولى 1447 هـ، الموافق 22 – 11 – 2025

مواضيع ذات صلة