البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٢ جمادى الآخرة ١٤٤٧

نظرية داروين (التطوُّر والارتقاء) في منظار (العقل والدين)!

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
نظرية التطوُّر والإرتقاء، أو نظرية (داروين)، شغلت الناس لرَدحٍ من الزَّمن ولا تزال، وأخذت الكثير من وقتهم وجهدهم وفكرهم.
 
إنَّ أكثر ما يعرفه النَّاس عن هذه النظرية أنَّ الإنسان قد تطوَّر من صِنفٍ من أصناف القرود.. فتكون القِرَدَةُ من أجداد البَشَر!
ويغفل كثيرٌ منهم عن أنَّه بناء على هذه النظرية ستكون السَّمَكَةُ جدَّةً لنا أيضاً.. وكذا غيرها من أصناف الحيوانات!
 
لقد صار لهذه النظرية هيمنةٌ أو سطوةٌ في المؤسسات العلمية العالمية، فيقال أنَّ ما لا يقل عن 97 % من الباحثين سيما في مجالات الأحياء والطب يعتقدون بهذه النظرية! رغم أن الإحصاءات تقول أنَّ ما قد يزيد عن نصف سكان الأرض لا يعتقدون بها!
 
فما هي حقيقة هذه النظريَّة؟ وما هي أدلتها؟ وكيف يُقيِّمُها العقل؟
وهل ترتبط بعقيدة التوحيد والإيمان بالله؟ أم أنَّها تُعارضُ المعتقدات والمُسلَّمات الدينية؟
 
هذا ما نعرضه في مباحث ثلاثة:
 
المبحث الأول: حقيقة نظرية التطوُّر والارتقاء
 
تقول هذه النظرية أنَّ أصل الحياة على وجه الأرض قد جاء من خليَّة واحدة، تطوَّرت صفاتها الوراثية مع مرور الزمن وتبدلت إلى أصناف وأنواع مختلفة، وهذا هو الذي يعبَّرُ عنه بـ(التطوُّر الكبير)، في قبال (التطوُّر الصغير) الذي يعني تطوُّراً في خصائص النوع الواحد.
 
ولكي تتبيَّن حقيقة هذه النظرية فإننا ننقل كلمات جملةٍ من مناصريها المعاصرين والمتقدِّمين.
 
يقول أستاذ البيولوجيا الشهير (جيري كوين) عن هذه النظرية التي يعتقد بها ويروِّجُ لها: تطوَّرت الحياة على الأرض تدريجياً من نوع بدائيٍّ واحد ربما جزيء ناسخ لنفسه والذي عاش منذ أكثر من 3,5 مليار سنة مضت، ثم تفرع خلال الزمن، منتِجاً أنواعاً متنوعة وجديدة كثيرة! (لماذا التطور حقيقة ص19).
 
ويقول موضحاً فكرة التطور: خلال أجيال كثيرة يمكن لنوع أن يتطور إلى شيء مختلف تماماً.. فالإنسان.. تَطَوَّرَ من كائنٍ شبيه بالقرد العلوي، لكن ليس ذات القرود العليا المعاصرة (لماذا التطور حقيقة ص19).
 
ويقول عن الأسلاف السابقة: إنَّ أسلافنا كانوا سمكاً مفترساً مسطح الرأس، كمنوا في مياه الأنهار الضحلة! (لماذا التطور حقيقة ص54).
 
وهذا الكلام هو تأكيدٌ لما اعتقد به تشارلز داروين المتوفى سنة 1882م، فهو يقول في كتابه (نشأة الانسان): الإنسان قد انحدر عن حيوانٍ رباعي مُشعِرٍ ومُذَيَّل!
كما يعتقد أن هذا الحيوان بدوره انحدر عن: حيوان على شاكلة الأسماك!
 
ويقول: إنَّ الجد الأعلى المبكر لجميع الحيوانات الفقارية لا بد من أنه قد كان حيواناً مائياً مزوداً بخياشيم! (نشأة الإنسان ج3 ص221)
ويعتقد بأن: جميع الحيوانات كانت على شاكلة الأسماك، حتى القرد والفيل والسمكة! (نشأة الانسان ج1 ص376).
 
وليس غريباً وفق هذه النظرية أن تنقلب الحيوانات البحرية إلى حيوانات بريَّة! ولا أن تكون الخفافيش قد (اكتسبت) أجنحتها عن طريق الانزلاق من شجرة لشجرة! ولا أن تكون الكثير من الطيور قد فقدت (أجنحتها) لأنها لم تستعملها! (أصل الأنواع ص357).
فإنَّ: جميع الحيوانات والنباتات قد انحدرت من نموذج أصلي واحد! (أصل الأنواع ص770).
 
المبحث الثاني: أدلة نظرية التطوُّر ومناقشتها
 
لقد مرّت نظرية (التطور والارتقاء) والتي عرفت بنظرية (داروين) بمراحل عدة، وتَطّوَّرَت ودُعِّمت بما يعتقد أصحابها أنها أدلةٌ متينة لا تقبل المناقشة، حتى غدت عند بعضهم حقيقة علمية لا ريب فيها.
 
ففي حين اعتبرت النظرية في أوائل أيامها غير مكتملة الملامح، وعُدَّ داروين من أهم من وضعها في إطارها الذي سارت عليه من بعده، وبنى لها بناءً متيناً، كانت تنقصه فراغاتٌ معرفية، يعتبر المعاصرون اليوم أنهم تمكنوا من ملء قسمٍ كبير منها بما دفع أغلب الإشكالات على النظرية.
 
يقول الملحد الشهير (ريتشارد دوكنز) أن: الأدلة الداعمة للتطور قوية بشكل هائل.. حقيقة التطور والحقائق العلمية العديدة الأخرى ساحرة بشكل رائع وجميلة جداً (وهم الإله ص286).
 
ويقول في مقال مشترك مع (جيري كوين): باختصار: نظرية التطور هي حقيقة، بالضبط مثلما أن الصفائح التكتونية لسطح الأرض هي حقيقة علمية!! (حوارات سيدني ص222).
 
كما يقول (كوين): اليوم لدى العلماء يقين بالتطور بنفس القدر الذي لديهم في وجود الذرات! (لماذا التطور حقيقة ص12).
ويقول: إنّ التطور أكثر بكثير من فرضية علمية، إنه حقيقة علمية، لقد نظرنا إلى الأدلة من مجالات كثيرة.. الأدلة تبرهن دون ذرة من الشك أن الكائنات قد تطورت، وهو ليس مجرد تغيرات "تطورية صغيرة" ضئيلة، بل بالأحرى: لقد رأينا تكون أنواع جديدة (لماذا التطور حقيقة ص233).
 
وفي قبال هؤلاء برز علماء معاصرون عبرَّوا عن شكوكهم أو رفضهم للنظرية، وأكدوا أن سطوة المعتقدين بها أو شهرتها تفرض الالتزام بها في المؤسسات العلمية حتى لمن لا يعتقد بها.
 
ورغم محاولات تصوير الأمر كإجماع لا يقبل النقاش، إلا أن وجود قائمة نشرت من قبل معهد ديسكفري تحت عنوان (معارضة علمية للداروينية -A Scientific Dissent from Darwinism) تضم أكثر من 1000 عالم يحملون الشهادات العليا بينهم علماء من جامعات مرموقة يعلنون شكوكهم رسمياً، يثبت أن القضية ليست محسومة تماماً كما يُروّج لها.
 
لكنَّ المهم هو عرض أدلَّة هذه النظرية والنظر فيها:
 
الدليل الأول: السجل الأحفوري
 
يعتمدُ هذا الدليل على دراسة بقايا الكائنات المحفوظة في طبقات الأرض، وملاحظتها بحسب التسلسل الزمني، أي أنك إذا استخرجت من طبقات الأرض عظام الحيوانات المحفوظة فيها، ونظرت إليها من القديم الذي في الأسفل إلى الجديد الذي في الأعلى، لوجدت الكائنات البسيطة دائماً في الأسفل، ثم فوقها الأكثر تعقيداً، وهكذا حتى تصل إلى الأعلى.
 
ويدَّعي أنصار هذه النظرية أنَّه لم يُعثَر على حيوانٍ واحد متطوِّرٍ في طبقةٍ أدنى من حيوانٍ أبسط منه.
وهذا لا يمكن تفسيره عندهم إلا بناء على نظرية التطُّور.
 
ويحتجُّون أيضاً أنَّنا نجد بين هذه الطبقات كائنات هجينة (انتقالية) تجمع صفات الأسلاف القديمة مع صفات الأحفاد الجدد، مما يجعل فرضية الخلق المستقل عاجزة عن تفسير هذه الكائنات الهجينة، لأنَّ بعض هذه الصفات لا وظيفة لها، بل هي بقايا موروثة في المرحلة الانتقالية زالت بعد ذلك، ولو كان الخالق قد صنعها لكان ينبغي أن يصنع ما له حاجة، لا ما سيندثر بعد ذلك.
هذه خلاصة دليل السجل الأحفوري.
 
مناقشة الدليل
 
لو فرضنا أن السجلات الأحفورية هي كما يقولون تماماً، فإنَّه لا بدَّ من النظر في أصناف الحيوانات التي عاشت على الأرض، والنظر في مقدار ما تمَّ اكتشافه منها، لنرى هل أنَّ هذه النظرية تورث علماً أم تبقى في دائرة الاحتمال؟!
 
يقول جيري كوين: إن المجموع الكلي للأنواع التي عاشت على الأرض في أيما وقت مضى قد قدر بما بين 17 مليوناً (وربما هذا إبخاس مغالٍ بما أن 10 ملايين نوع تحيا اليوم) وأربعة مليارات.
وبما أننا اكتشفنا حوالي 250 ألف نوعاً متحجراً مختلفاً، يمكننا أن نقدر أننا لدينا أدلة متحجرة على ما بين 0,1 % إلى 1% من كل الأنواع.
بالكاد عينة جيدة لتاريخ الحياة! لابد أنَّ كثيراً من الكائنات المدهشة التي قد وجدت، قد ضاعت منا إلى الأبد (لماذا التطور حقيقة ص37).
 
هذا بالنسبة لعموم الكائنات الحية، أما بالنسبة للإنسان على وجه الخصوص، فإنه يقول:
 
ما الذي لدينا؟ أدلة واضحة غير قابلة للجدل على تطور البشر من أسلاف شبيهين بالقرود العليا. مُسَلِّمين بأننا لا يمكننا بعد تتبع خط تَحَدُّرٍ متواصل من بشريٍّ مبكر شبيه بقرد علوي إلى الإنسان الحكيم الحديث. فالمتحجرات مبعثرة في الزمن والمساحة، سلسلة من النقاط إلا أنها متصلة الأنساب، وربما لن نحصل أبداً على متحجرات كافية لربطهم ببعضهم (لماذا التطور حقيقة ص218).
 
وأنتَ إذا نظرت إلى كلماتهم وجدتهم يجزمون بأصل نظرية التطوُّر، ويُخمِّنون بعض تفاصيلها، فيُقرُّون مثلاً بأنّ هناك تخمينان لكيفية تطوُّر الطيور الحديثة، أحدهما يُخمِّنُ أنَّها هبطت من الأشجار، والثاني أنها ارتفعت من الأرض (لماذا التطور حقيقة ص59-60).
 
لكنَّك إذا تأمَّلت وجدت أن نظريَّتهم من أصلها هِيَ تَخمينٌ! فكيف ذلك؟
 
يقرُّ القائلون بنظرية التطوُّر (كما تقدَّم) أنَّ ما عثروا عليه حتى الآن (حوالي 250 ألفاً من الأنواع) قد يكون جزءً من (4 مليارات نوع) محتمل، وهذه النسبة هي 0.06 %، أي أن ما اكتشفناه قد يكون نوعاً واحداً من كل 16000 نوع!
كما يحتمل أن نكون قد اكتشفنا واحداً من كل 68 نوعاً مثلاً!
أي أن كلَّ هذه الاحتمالات ممكنةٌ بحسب ما يقولون.
 
وأنت ترى أنَّ نظريةً بهذا الحجم تعتمد على النظر في ما يمكن أن يكون نوعاً من كل 16 ألف نوع جديرة بالوقوف عندها! والتأمُّل فيها.. والنَّظر في مقدار الاستنتاجات التي يمكن الاعتماد عليها منها! لتكوين حقيقة علمية!
 
فإذا كُنَّا نعتقد أن الكثير من الكائنات المدهشة قد ضاعت للأبد، بل الأكثر قد ضاع نتيجة العوامل الطبيعية، وعدم وجودها في أماكن تحفظها من هذه العوامل.
وإذا كان هناك تفسيراتٌ مختلفة لمثل هذه الأحافير، لماذا يتعين علينا قبول نظرية التطوُّر كنظرية قطعيَّة؟
 
وبما أن العوامل الطبيعية قد كان لها تأثيرٌ كبيرٌ على حفظ أنواع الحيوانات، فلماذا لا يكون لها تأثيرٌ في بقاء صنفٍ أو اندثاره، أو حفظ صنفٍ في وقت أو ضياعه؟!
ومثل هذه الاحتمالات كافيةٌ لإبقاء هذه النظرية في خانة الاحتمالات لا أكثر.
 
ثمَّ إنَّ وجود الكائنات البسيطة في أزمنة سابقة لا يلزم منه أن تكون اللاحقة هي وليدة السابقة، بل يجتمع هذا أيضاً مع القول بالخلق المنفصل للأصناف، بأن يخلق الله الكائنات على مراحل، وفي كلِّ مرحلة يكون لهذه الحيوانات خصائصها وسماتها الأكثر تعقيداً.
 
إنَّ هذه النظرية تنطلق من النتيجة المفروضة، وتجعلها دليلاً!
أي أنَّها تفسِّرُ ما عَثَرَت عليه تفسيراً محتملاً، ثم تدَّعي أنه دليلٌ يفيد القطع واليقين!
 
فمثلاً لو كانت الأرض مغطاة بالماء في زمنٍ، ولم يكن فيها إلا حيوانات بحرية، ثم بدأت المياه بالجفاف في بعض الأماكن، فعاشت فيها حيوانات برمائية، ثم جفَّت تماماً فعاشت فيها حيوانات بريَّة، ثم سكنتها الطيور بعد نبات الأشجار، وعثرنا على الأحافير بهذا التسلسل، فإنَّه لا يدلُّ على نظرية التطوُّر بشكل مؤكد، بل يجتمع أيضاً مع الخلق المنفصل للأصناف.
 
كما يجتمع مع انقراض الحياة في زمنٍ، ثم خلق الله لحياة أكثر تطوُّراً، ثم انقراضها بعد مدة، ثم خلق الله لحياة أكثر تطوُّراً، وهكذا.. وغير ذلك من المحتملات العديدة.
 
فما وجه تفسير ذلك بالتطوُّر حصراً؟!
 
على أنَّ الاعتقاد بنظرية التطوُّر بناءً على هذا المقدار من الأدلة هو مجازفةٌ خطيرة، إنَّه يشبهُ من يطلب من شخص أن يبني مسجداً أو بناءً يتألف من 16 ألف حجر، ويضع له حجراً واحداً في مكانه، ثم يريد منه أن يكون البناء على ما في ذهنه أو ما يُحِبُّه! فمهما اجتهد البناء في بنائه سيكون فعله تخميناً في تخمين!
 
ولو وضع له 10 حجارة من أصل 160 ألف حجر ثم قال له أكمل البناء كما هو في ذهني، فكم ستكون نسبة الإصابة للهدف في الواقع؟!
إنَّها ضئيلةٌ إلى حدِّ الانعدام! فكيف تُبنَى النظريات على مثل هذه المقدِّمات؟!
 
لا يقال: لقد عثرنا على الأسس والأعمدة الأساسية.
لأنَّ المشكلة أن هذا المقدار من النقص لا يخولنا أن ندَّعي العثور على الحلقات الانتقالية الحاسمة، فإننا نكمل الفراغات ونستنتجها من الخيال لا من الدليل العلمي.
 
على أنَّ علماء الأحياء أنفسهم يُقرُّون بأنَّ العديد من الكائنات الحية وُجدت لها مستحاثات قديمة جداً (أي قبل عشرات الملايين من السنين) مطابقة تماماً لحالها اليوم دون أي تغيُّر أو تطور، كبعض الأسماك والحشرات، ولو كانت نظرية التطوُّر حقاً لما كان ينبغي أن نعثر أبداً على مثل هذه المستحاثات.
 
ومن المعلوم في المنطق أنَّ الموجبة الكلية تنقضها السالبة الجزئية، وبقاء هذه الكائنات على ما هي عليه لملايين السنين يضعف حجة الحتمية التطورية.
 
كذلك يقولون بأنَّ بعض الهياكل العظمية التي عثر عليها لما يعتبرونه أصنافاً سابقة من الناس (كإنسان هومو إيريكتوس) وتتراوح المدة بينها أكثر من مليون سنة كانت متطابقة! فأين نظرية التطوُّر التي ترجع الإنسان إلى صنفٍ من القِرَدة! ولماذا ظلَّ هذا المخلوق على ما هو عليه أكثر من مليون سنة، وغيره ظلَّ على ما هو عليه عشرات الملايين من السنين؟!
 
وإذا كان العديد من الباحثين كـ (ستيفن جاي جولد) وغيره يقولون بأنَّ الركود هو السمة الغالبة على السجل الأحفوري، فإنَّ هذا يزيد من ضعف هذه النظرية أيضاً.
 
بقي من دليلهم الأول هذا ادِّعاؤهم وجود بعض الصفات التي لا نفع فيها في الكائنات، وهو ما سنناقشه في الدليل الثالث إن شاء الله.
 
الدليل الثاني: التشابه التشريحي والجيني
 
يبتني هذا الدليل على أنَّ هناك تشابُها بين الكائنات الحية في أعضائها من جهةٍ، وفي جيناتها من جهةٍ أخرى، إذاً فهذه الكائنات الحيَّة قد تطوَّرَ بعضُها عن بعض!
 
يقول جيري كوين مبيناً نماذج من هذا التشابه:
بدايةً فإن الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات كلهم لديهم عمود ظهريّ فقري، هم (فقاريات)، لذا فلا بد أنم تحدَّروا من سلف مشترك قد كان لديه أيضاً عمود ظهري فقري! (لماذا التطور حقيقة ص24).
 
ويقول: فإن كلنا: أنت وأنا، والفيل، والقط، والصبار الموضوع في إصيص، نتشارك بعض الصفات الأساسية. من بينها السبل الكيميائية الحيوية التي نستخدمها لإنتاج الطاقة، وحروفنا الأربعة الأساسية للحمض النووي DNA وكيفية قراءتها وترجمتها إلى بروتينات. هذا يخبرنا أن كل الأنواع تعود إلى سلفٍ مشترك ٍواحد، سلفٌ كان لديه هذه الصفات المشتركة ومررها إلى المتحدرين منه! (لماذا التطور حقيقة ص24).
 
مناقشة الدليل
 
إنَّ هذا الدليل يخلط في الحقيقة بين (الممكن) وبين (الواقع)، كذلك بين (الرغبة) و(البرهان)، ويستدل بدليلٍ أعمَّ من المدعى!
إنَّه يقوم على أنَّ تشابُه عدة أصنافٍ من الحيوانات في العمود الظهري الفقري يدلُّ على لابدية تَحَدُّرهم من سلفٍ مشترك!
 
وكلُّ علماء المنطق يقرُّون بأن هذه النتيجة لا تترتب على هذه المقدمة، وأنَّ أقصى ما يمكن صياغتها فيه هو: إنَّ اشتراك عدة حيوانات في بعض الصفات له احتمالات عدة منها:
أن بعضها تطور من بعض.
أو أنها جميعاً قد انحدرت من سلف واحد.
أو أنَّ الصانع لها قد خلق لها بعض الصفات المشتركة.
ومنها غير ذلك، وكلُّ واحدةٍ من هذه الاحتمالات تحتاج إلى دليل.
 
فهذا خلطٌ بين الدليل والمدلول! وخلطٌ بين الممكن والضروري.
 
وواقع الأمر أنَّ التشابُه بين الحيوانات في بعض الجهات لا يمكن أن يكون بنفسه دليلاً على نظرية التطوُّر. فلا تلازم بين الأمرين.
 
نعم قد يُقال: أنَّ المراد من التشابه هو التشابه الهرمي أو (الشَّجَري)، بمعنى أنه كلما اقتربت القرابة بين كائنين كلما زاد التشابه بينهما، وكذا العكس، وهذا لا ينسجم إلا مع نظرية التطوُّر.
 
والجواب: أنَّ هذا إن كان صحيحاً فهو ينسجم تماماً مع عقيدة الخلق أيضاً، فالتراتبية في التشابه وتصنيف الكائنات في مجموعات (كالثدييات والطيور) لا يلزم منه التطور، بل يكشف عن نظام تصنيفي دقيق، يعكس حكمةً في توزيع وظائف الكائنات، وعدم وجود كائنات (مخلطة) عشوائياً هو دليلٌ على النظام لا العشوائية، والنِّظام لا بدَّ له من مُنظِّم، وهو الله تعالى.
 
إنَّ التشابه الذي يطرحونه كدليلٍ قاطع، نراه بوضوح في الصناعات البشرية أيضاً، فكل السيارات تشترك في وجود محركٍ وعجلاتٍ وهيكلٍ، من غير أن تكون السيارات قد (تطورت) ولا توالد بعضها من بعض، بل لأن (مهندساً) واحداً أو مدرسة هندسية اعتمدت هذه المعايير وسارت عليها.
 
وهكذا يكون تشابه الـ DNA في الكائنات دليلاً على وحدة (الصانع) كما أنَّ (الكودات البرمجية المتشابهة) دليلٌ على وحدة المبرمج، ولا تدلُّ بحالٍ من الأحوال على أن البرنامج كتب نفسه بنفسه أو أنه تطور من كود بسيط إلى معقد!
 
أما التشابُهُ في الصفات التي قد يعبِّرون عنها بأنَّها (أخطاء جينية)، لا تُفَسَّر إلا وفق نظرية التطوُّر، فإنا نعالجها كما وعدنا في الدليل الثالث.
 
الدليل الثالث: التصميم المعيب
 
يبتني هذا الدليل على مقدَّمتين:
 
الأولى: أنَّ الكائنات الحيَّة فيها الكثيرُ من العيوب!
الثانية: أنَّ الكائنات الحيَّة فيها صفاتٌ زائدةٌ ضامرةٌ لا وظيفة لها، وجيناتٌ معطلةٌ لا نفع منها.
 
النتيجة: لو كان لهذه المخلوقات خالقٌ حكيمٌ لخلقها وفق حاجتها، وأتقن خلقها، ولم يترك فيها عيوباً، ولا صفات أو أدوات لا تحتاجُ إليها.
 
يقول (جيري كوين): لقد تعلمنا عن أجنتنا الشبيهة بالسمك، وجيناتنا الميتة، وغطائنا الجنيني المؤقت من الفراء، وتصميمنا الرديء. كلٌ يشهد بأصولنا! (لماذا التطور حقيقة ص220).
 
ويقول: فرغم أن الكائنات (المتعضية) تبدو مصممةً جيداً لتلائم بيئاتها، فإن فكرة التصميم الكامل وهمٌ. كلُّ نوعٍ معيبٌ في عدة نواح.. ما أعنيه بـ (التصميم السيء) هو مفهوم أنَّ الكائنات لو كانت من تصميمِ مصمم.. لما كانت لديهم مثل هذه العيوب، التصميم الكامل كان سيكون حقاً علامةً على مصمِّمٍ ماهرٍ وذكي. إن التصميم المعيب هو علامة التطور، في الحقيقة هو ما تتوقعه بالضبط من التطور! (لماذا التطور حقيقة ص92).
والمراد بالكائنات (المتعضية) هي الكائنات الحية التي تمتلك نظاماً داخلياً معقداً يمكنها من البقاء.
 
فصار هذا الدليل مبنياً على وجود عيوب في الخلقة، وجينات معطلة، وأنَّه قد ظهر في المخلوقات اللاحقة أخطاء تم نسخها من السابقة، وهذا لا يُفَسَّر إلا كبقايا تاريخية وفق نظرية التطوُّر.
 
مناقشة الدليل
 
إنَّ من الغريب جداً أنَّ ينسب هؤلاء الباحثون (العيب) لهذا الكون العجيب، سيَّما لكائناته الحيَّة! وهم لا زالوا على شطآن بحار العلم والمعرفة!
لقد اكتشف البشرُ من العلوم والمعارف خلال القرن الأخير ما قد يزيد عن 90 % مما اكتشفه الإنسان سابقاً على مر التاريخ!
 
وهم يعلمون أنَّ مسيرتهم في العلم والمعرفة لا زالت طويلةً جداً! وأنَّ ما اكتشفوه ليس إلا الشيء اليسير سواء من حقائق النفس والبدن، أو حقائق الآفاق، بما فيها من أراض وسماوات وأجرام.
 
ويقرُّ كبار المعتقدين بنظرية التطوُّر بذلك، يقول (ريتشارد دوكنز): لو عجز حتى أكبر عالم ثقة في العالم عن تفسير ظاهرة بيولوجية ملحوظة، فإن هذا لا يعني أنها مما لا يمكن تفسيره. وثمة أسرارٍ كثيرةٍ بقيت سراً طيلة قرون ثم خضعت للتفسير في النهاية (صانع الساعات الأعمى ص69).
 
ولقد كان السابقون يجهلون أكثر ما اكتشفناه عن حقيقة الإنسان وجسمه وطبيعته، ومن ذلك أنَّهم اعتقدوا أنَّ بعض أعضاء الإنسان (زائدةٌ) لا فائدة منها! ثم اكتشف العلمُ وجود الكثير من الفوائد ما كان الناس يعرفونها.
 
خذ مثالاً لذلك ما يُسمَّى بـ (الزائدة الدودية)، التي سُمِّيَت بذلك لأنهم اعتقدوا أن لا حاجة لها، لقد كانت تُعتبر عضوًا ضامراً وعديم الفائدة! ثم اكتشف العلماء أن لها دوراً في دعم جهاز المناعة والأمعاء بتوفير مخزن للبكتيريا المفيدة!
 
ومن الأعضاء الأخرى التي كان يقال أن لا فائدة لها الطحال، حيث تبينت أهميته للجهاز المناعي وتنقية الدم من الخلايا التالفة.
واللوزتان: حيث كانتا تُزالان أحياناً بسبب الاعتقاد بعدم ضرورتهما، لكنهما الآن معروفتان بدورهما في مقاومة العدوى.
 
إنَّ كلَّ جزء من أعضاء الإنسان له دورٌ دقيقٌ تماماً، فعظام الأنف الصغيرة مثلاً تساعد على تدفق الهواء، وتحسن حاسة الشم.
وخلايا الجلد الجذعية التي لم يكن يعرف لها دورٌ تبين أنها تقوم بإصلاح الأنسجة وتجديد الخلايا.
وهكذا سيطول الكلام لو أردنا أن نعرض ما اكتشفه العلم الحديث مما كان مجهولاً.
 
لذا فإنَّ نفي الحكمة هو مغالطةٌ منطقية، فعدم العلم بها لا يعني نفيها، وينبغي على الباحث أن يتواضع أمام الكمّ الهائل من العلوم المكتشفة، وأن لا يستعجل لينفي فائدةً في شيء إن عجز عن اكتشافها.
ولو كان البشر قد التزموا بذلك وقالوا ان كلَّ ما لم نعرف له فائدة فلا فائدة فيه لتوقَّفت العلوم والمعارف عند ذاك الحدّ!
 
والغريب في الأمر هو نسبة السوء والنقص والعيب لهذه الصَّنعة العجيبة، وهذا الخلق المدهش!
هل يعقلُ أن تكون كلُّ القوانين التي تحكم جسم الإنسان والكائنات الحيَّة وهي على النحو العجيب من الدّقَّة راجعة إلى انتخابٍ طبيعيٍ غير عاقل؟! أو إلى عشوائيةٍ لا معنى لها؟!
 
لقد أورثهم العجزُ عن تفسير كلِّ ما أمامهم إنكارَ الصانع، مع علمهم بقلة بضاعتهم في سوق العلم والمعرفة، كما كلُّ البشر.
لكنهم ما التجؤوا إلى ركنٍ وثيق، بل إلى نظريةٍ لا شاهد عليها، أو إلى صدفةٍ وحظٍ لا معنى لهما، فأين الموضوعية والإنصاف؟!
 
يقول (جيري كوين): لا يبدو فحسب ريش الطاووس عديم الجدوى! بل هو عائق. هل يمكن أن يحتمل أنه تكيف؟ (لماذا التطور حقيقة ص155).
 
لكنه بعد ذلك بقليل يقرُّ بأنَّ قانون الانتخاب الذي يعتقد به قد لا يراد منه البقاء فعلاً، بل التكاثر، فيقول: امتلاك ذيلٍ مزخرف أو غِنَاءِ مُغرٍ لا يساعدك على البقاء، لكنه قد يزيد فرصك في الحصول على نسل، وتلك هي كيفية نشوء هذه الصفات والسلوكيات المبهرجة، كان دارون أول من أدرك هذه المقايضة (التخلي عن فائدة لأجل أخرى أهم) (لماذا التطور حقيقة ص158).
 
يتضح من كلامه أن التخلي عن فائدة أحياناً لأجل فائدةٍ أخرى أمرٌ مقبولٌ عند أصحاب نظرية التطوُّر، ورغم أنَّهم لم يفهموا لماذا (طَوَّرَت) بعض الطيور أذيالاً (كما يقولون) ولم تطوِّر الأخرى، فإنَّ عدم فهمهم لم يكن دليلاً على بطلان نظرية التطوُّر باعتقادهم.
 
فكيف صار عدم فهم دور بعض الأعضاء دليلاً على بطلان الخلق؟!
إن هذه ازدواجية في المعايير، تبتني على موقفٍ مُسبَق من الخالق، وقد تبين هذا الأمر في كلمات كثيرٍ من الباحثين غير المعتقدين بوجود الخالق.
 
ثمَّ إنه كان يمكن لهم تفسير ما عدُّوه عيباً (كآلام الظهر بسبب المشي) كجزء من تصميم هندسي يقوم على التوازن بين المزايا والعيوب، فتحرير اليدين لاستخدامهما الواسع يقتضي ضريبة ميكانيكية على الظهر.
 
والمصمم الحكيم قد يجعل العضو أقل كفاءة في جانبٍ (كالمشي) ليعطي وظيفة أعظم في جانب آخر (كاستخدام اليدين)، وهذا في الحقيقة ليس عيباً وإن ظنُّوه كذلك، بل هو قمة الهندسة، التي تكشف عن تصميم متوازن دقيق، يبتني على حكمةٍ نعرفها تارةً ونجهلها أخرى، فمبدأ (المقايضة) أي التخلي عن ميزة لأجل أخرى أهم منها لا ينافي الحكمة بحال.
 
وهكذا هي كلُّ المصنوعات التي غُلِّبَ فيها جانبٌ على آخر مِن قِبَلِ صانعها، كالسيارات فائقة السرعة التي صممت للسباقات، حيث لا تقدر على السير في الأماكن الوعرة لأنه ليس مطلوباً منها ذلك، كذلك الإنسان لا يراد له أن يكون طائراً ولا حيواناً مائياً، وأن تكون أعضاؤه متوازنة مع الدور الذي أنيط به، فلكل مخلوقٍ دوره وسماته.
 
فلا يبقى إلا الجينات.. التي قالوا أنها معطَّلة، وسمُّوها (خُردة Junk DNA)، وقد استندوا في ذلك على فرضية أن 98% من الحمض النووي لا فائدة منه!
 
لكنَّ العلم الحديث وجَّهَ صفعة قوية لهذا الافتراض عبر مشروع (ENCODE) العالمي الضخم، أي (موسوعة عناصر الحمض النووي)، الذي أثبت أنّ قسماً كبيراً مما كان مجهول الدور هو في الحقيقة (نظام تشغيل) بالغ التعقيد يدير عمل الجينات.
 
وكما أنّ من يرى (لوحة تحكم) معقدة مليئة بالأزرار قد يظنها عبثاً لجهله بوظائفها، كذلك ظنوا الجينات التنظيمية (خردة) لجهلهم، حتى جاء العلم ليثبت أنَّ (كل حرفٍ في كتاب الحياة له معنى).
 
وأنت إذا رجعت خطوة إلى الوراء، وتأمَّلت في الخِلقة العجيبة، ونظرت في كلمات إمامٍ من أئمة الموحِّدين، الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام حول الطيور عموماً، والطاووس خصوصاً، الذي يراه هؤلاء معيباً، عرفت الفرق بين الظلمة والنور، وبين الجهل والمعرفة، وبين الضلال والهدى.
 
فإنَّه عليه السلام عندما يذكر خلق الطيور يقول: ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَمَوَاتٍ، وَسَاكِنٍ وَذِي حَرَكَات‏.
 
ثم يكمل في وصف خلقهم فيقول: وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الأَطْيَارِ.. مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الجَوِّ المُنْفَسِحِ، وَالفَضَاءِ المُنْفَرِجِ.
 
كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ، وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الهَوَاءِ خُفُوفاً، وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً، وَنَسَقَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ.
فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لَا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِه‏.
 
وبينما يرى (كوين) ذيل الطاووس عائقاً وتكيفاً أعمى، فلننظر كيف يراه العقل النوراني المتصل بالله، حيث يصف أمير المؤمنين عليه السلام الطاووس وصفاً عجيباً نكتفي ببعض فقراته، فيقول:
 
وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ! الَّذِي أَقَامَهُ فِي [أَحْسَنِ‏] أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ، وَنَضَّدَ الوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ، وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ، إِذَا دَرَجَ إِلَى الأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ وَسَمَا بِهِ مُطِلًّا عَلَى رَأْسِهِ، كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ، يَخْتَالُ بِالوَانِهِ، وَيَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ، يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ، وَيَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ أَرَّ الفُحُولِ المُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ.
 
أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ لَا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ!
.. فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ قُلْتَ جَنًى جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ.
وَإِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الحُلَلِ أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ اليَمَنِ.
وَإِنْ شَاكَلْتَهُ بِالحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ الوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ المُكَلَّلِ..
 
ثم يكمل عليه السلام في خطبةٍ عجيبةٍ ليس هذا محلُّ الوقوف عند لطائفها إلى أن يقول:
 
فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ الفِطَنِ؟! أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ العُقُولِ؟! أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الوَاصِفِينَ؟! وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَالالسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ.
فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ العُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً، وَأَعْجَزَ الالسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِه‏! (نهج البلاغة ص236).
 
وليس بعد هذا الكلام إلا فضول الكلام.
 
الدليل الرابع: التطوُّر الصغير
 
يبتني هذا الدليل على مقدَّمتين:
 
الأولى: أنَّه قد ثبت بما لا يقبل الشكّ وقوع تَطَوُّرات صغيرة طفيفة في بعض الكائنات، كتغير ذبابة الفاكهة في المختبر، أو لون العثّة، أو مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
 
الثانية: أنَّ التطوُّر الكبير ليس إلا تراكماً لآلاف أو ملايين التطورات الصغيرة عبر مدة زمنية طويلة.
 
النتيجة: بما أن قوانين الطبيعة واحدة، وبما أن التطور الطفيف ثابتٌ، فإن ملايين السنين كفيلة بتحويل زعانف السمكة إلى أطراف برمائية، أو تحويل الديناصور الصغير إلى طائر، وهكذا.
 
مناقشة الدليل
 
إن هذا الدليل يواجه إشكالات منطقية وعلمية تمنع من قبوله منها:
 
أولاً: الخلط بين (التكيّف) و(الابتكار)
 
إن كل الأمثلة التي يطرحونها للتطور الصغير (كمقاومة البكتيريا أو تغير لون العثة) هي في الحقيقة عمليات (تَكَيُّف) ضمن حدود النوع الواحد، وغالباً ما تكون ناتجةً عن (إتلاف وظيفة معينة) أو (تعديل صفة موجودة)، وليست (إضافة لمعلومة جينية جديدة) تبني عضواً جديداً، وهذا (تطور بالهدم) لا بالبناء.
 
فقياس (التطور الكبير) الذي يتطلب بناء أجهزة معقدةٍ كالعيون والأجنحة، على (تطور صغير) يعتمد التعديل والهدم، هو قياس مع الفارق، أشبه بمن يقيس قدرة الرياح على هدم كوخ، ليستنتج قدرتها على بناء ناطحة سحاب إذا مُنحت وقتاً كافياً!
 
ثانياً: الخلط بين الإمكان والوقوع
 
إذ لا يمكننا أن نثبت وقوع الشيء في التاريخ السحيق لمجرَّد إمكانه عقلاً!
وإذا كان غرضهم هو إثبات (إمكان وقوع التطوُّر عقلاً)، فإنَّ أحداً من الموحدين لا يناقش في قدرة الله على خلق الكائنات بالتطور إذا شاء.
 
بل نحن نرى في أنفسنا تطوراً مذهلاً من نطفة لا عقل لها ولا عظم، إلى إنسان سميع بصير عاقل في أشهر معدودة، كما قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في‏ رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ (الحج5).
 
لكنَّ الفرق الجوهري هو أن تطوُّر الجنين يحدث وفق (برنامج دقيق ومقدر) وعلم سابق أودعه الخالق في النطفة، بينما تزعم نظريتهم أن التطور الكبير حدث (عشوائياً) وبلا غاية ولا برنامج مسبق، عبر تراكم الأخطاء (الطفرات)!
 
فقياس هذا التحول العشوائي المزعوم (من سمكة إلى إنسان) على التحول المنضبط (من نطفة إلى إنسان) هو قياس فاسد، ولا دليل علميَّ يثبت أن العشوائية قادرة على صنع هذا الإحكام، مهما طال الزمن.
 
على أنَّ هناك أدلَّة أخرى يستدلُّون بها سوى هذه الأربعة، ولكن حالها في الضعف والوهن ليس أحسن مما تقدَّم، فنكتفي بما ذكرناه.
 
وقد تجنَّبنا الخوض في كثير من الجزئيات الفنية، التي تقبل الأخذ والرد بين المتخصّصين، والتي يطول معها البحث، واكتفينا في هذا المقام ببيان الأصول العامة والجواب الإجمالي، تاركين التفصيل لموضعٍ آخر، لنكمل هنا عرض موقف الأديان.
 
المبحث الثالث: موقف الأديان من نظرية التطوُّر
 
بعدما تَبيَّنَ أنَّ هذه النظريَّة البيولوجية غير ثابتة في نفسها، وبعدما كان المؤمنون بالله تعالى يعتقدون أنَّه هو الخالق للكائنات والمدبِّرُ لها، صار لهذه النظرية ارتباط (بالعقيدة)، فلزم الاطلاع على موقف الدِّين منها.
 
وهنا محوران:
 
المحور الأول: هل تُنافي هذه النظرية التوحيد؟
 
قد تُطرَحُ هذه النظريَّة بصورتين:
 
الصورة الأولى: تُنَافِي التوحيد
 
حين يُقال أنَّ الكائن الأول وُجِدَ صُدفَةً! أو بشكل عشوائي! ودون موجِدٍ.
وأنَّ بقية الكائنات انحدرت منه بناءً على الطفرات أو الانتخاب الطبيعي، أو التغيُّرات العشوائية، وكلُّ هذا لا مُحرِّكَ له!
 
لذا يقول (ريتشارد دوكنز) عن المؤمنين بالخلق: أظن أنهم محقون في شيء واحد، وهو إصرارهم على توصيف نظرية التطور بأنها نظرية (تعادي الدين بالأساس). سبق وقلت بأن الأفراد المناصرين لنظرية التطور ومنهم البابا إنما هم متدينون أيضاً، ولكني أظن بأنهم (يضللون أنفسهم). وهنا أود أن أبين اعتقادي الجازم بأن الفهم الحقيقي والعميق لنظرية دارون إنما سيشكل عامل (تآكل شديد لعناصر الإيمان الديني) (حوارات سيدني ص51).
ويقول: وهنا أريد أن ألفت الانتباه إلى أن إبداعية نظرية التطور إنما تتأتى بالأصل من تحدّيها للدين ونسفه، ونقض معتقداته! (حوارات سيدني ص52).
 
ويقول الكاتب الاميركي كيرت وايز: بعد التجربة.. وجدت أن.. عليَّ أن أختار بين التطور والكتاب المقدس. إما أن الكتاب المقدس صحيح، وأنَّ التطور خاطئ. أو أن التطور صحيح وعليَّ أن أهمل الكتاب المقدس (نقله ريتشارد دوكنز في كتابه وهم الإله ص288).
 
مناقشة هذه الصورة:
 
نلاحظ أنَّ القول بوجود الكائن الأول صُدفةً هو أمرٌ لا علاقة له بحقيقة النظريَّة، ولا يمكن قبوله بحالٍ لأنَّه ينقض (قانون السببيَّة القطعي)، الذي يدلُّ على أنَّ لكل سببٍ مُسبِّباً، ولولاه لانهدمت أسس العلوم كلِّها.
 
كما نلاحظ أن حصول التطوُّر بلا محرِّكٍ ومسبِّبٍ يتنافى بشكلٍ واضحٍ جليٍّ مع عقيدة التوحيد، التي تنصُّ على أنَّ الله تعالى هو الإله الواحد القادر، الخالق لكل شيء، المتصرِّفُ في مخلوقاته.
بل إن تَطوُّرَ الكائنات بنفسه (على فرض صحته) يكون دليلاً على وجود الله تعالى، لأنَّها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، فالخلقُ دليلٌ على الله، وتغيُّر الخلق دليل عليه تعالى.
 
والنتيجة: أنَّه لا يمكن لأحد من الموحِّدين أن يقبل هذه النظرية بصورتها الأولى.
 
الصورة الثانية: لا تنافي التوحيد
 
بأن يُقال أنَّ الكائن الأول قد أوجده الله تعالى بلا ريب، وأنَّه تعالى هو الذي جعل فيه خصيصة التطوُّر والارتقاء والتكيُّف مع مرور الأيام، كما جعل الإنسان منتقلاً من حال النطفة إلى حال الإنسانية.
 
وهذا التصوير رغم أنه لا ينافي أصل التوحيد، (لإرجاعه الأمر لله)، إلا أنه يظل بناءً بلا أساس، فهو مما لم يقم على دليل علمي يقيني (كما تقدَّم في المبحث الثاني)، وفي الوقت عينه لا تدعمه ظواهر النصوص الدينية التي سنعرضها، بل تعارضه بوضوح، فيبقى مجرد فرضية توفيقية لا شاهد لها، بل قامت الشواهد على بطلانها.
 
علماً أنَّ داروين نفسه لم يكن ملحداً بمعنى المنكر لوجود الله، بل كان يعتقد أن اللا أدرية هي الوصف الأقرب لحالته (في رسالة له بتاريخ في 7-5-1879م).
 
المحور الثاني: هل تنافي هذه النظرية المسلَّمات الدينية؟
 
تقول هذه النظريّة أنَّ كل الكائنات ترجع إلى أصلٍ واحد، ما يعني أن جدَّ آدم عليه السلام كان قِرداً ثم سمكة! وهو ما يُعارض المسلَّمات الدينية القطعية بلا ريب، حيث يعتقدُ أغلبُ أتباع الأديان السماوية أنَّ آدم عليه السلام قد خُلِقَ من غير أبٍ وأمٍّ، وكذا حواء عليها السلام، بل خُلِقَا من ترابٍ، لذا لا يمكن أن يقبل المؤمنون هذه النظرية كما هي.
 
ومن النصوص الدالة على ذلك ما ورد في التوراة (العهد القديم): خَلَقَ الرَّبُّ الإِنْسَانَ مِنَ الأَرْضِ (سفر يشوع بن سيراخ 17: 1).
وفي سِفر التكوين: وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً (التكوين2: 7).
 
وفي الإنجيل (العهد الجديد) ما يشير إلى أنَّ أول خلق الناس كان ذكراً وأنثى، وليس متحوِّراً من مخلوق آخر، ففيه: فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ البَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ (إنجيل متى 19: 4)
وفيه: وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ (إنجيل مرقس 10: 6).
 
وفي القرآن الكريم: ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طين﴾‏ (ص71)، وقد خاطب تعالى الملائكة: ﴿إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ﴾ (الحجر28-29)، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طين‏﴾ (المؤمنون12).
 
فآدم عليه السلام بحسب هذه النصوص التي يؤمن بها اليهود والنصارى والمسلمون قد خُلِقَ من طين مباشرة، وأولاده صاروا مخلوقين من طين لأن أباهم كذلك.
 
وعندنا نحنُ الشيعة جملةٌ وافرةٌ من النصوص المرويَّة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار التي تفيد هذا المعنى أيضاً.
فعنه صلى الله عليه وآله: أَلَا إِنَّكُمْ وُلْدُ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَاب‏ (تفسير القمي ج‏2 ص94).
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الأولى من نهج البلاغة في صفة خلق آدم عليه السلام‏: ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الأَرْضِ وَسَهْلِهَا وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ.. فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَوُصُولٍ، وَأَعْضَاءٍ وَفُصُولٍ، أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَأَمَدٍ [أَجَلٍ‏] مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، [فَتَمَثَّلَتْ‏] فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا.
وهي صريحة في أنَّ التربة التي جبلها الله تعالى تمثلت إنساناً ذا عقل، في صورةٍ عجيبة عن قدرة الله تعالى، وأنَّ هذا الإنسان لم يكن متحولاً من فصيلة أخرى.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنَ الطِّينِ فَحَرَّمَ أَكْلَ الطِّينِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ (الكافي ج6 ص265)، والروايات بهذا المعنى كثيرة.
 
كذلك روى الشيعة عن أئمتهم الأطهار عليهم السلام روايات كثيرةٍ صريحة في أنَّ آدم عليه السلام خُلِقَ من غير أبٍ وأمّ، كما خلق عيسى من غير أبٍ، فقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ أَبُو عِيسَى يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قال: لَيْسَ لِعِيسَى أَب‏ (عيون أخبار الرضا ج‏1 ص84)، وقد أشارت النصوص إلى أن آدم عليه السلام (أعجب) من عيسى عليه السلام لأنَّه بلا أبٍ وأمٍ (الإقبال بالأعمال الحسنة ج‏2 ص344).
 
ولمّا سئل الصادق عليه السلام عن العلة في ذلك قال عليه السلام: لِيَعْلَمَ النَّاسُ تَمَامَ قُدْرَتِهِ وَكَمَالَهَا، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ خَلْقاً مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِير (علل الشرائع ج1 ص15).
 
لذا لا يمكن لنا نحن المؤمنون بالله تعالى، ونبوَّة الأنبياء وعصمتهم، وأنهم المبلغون عن الله تعالى، أن نقبل نظريةً لا دليل عليها، بعد معارضتها لكلام الله وأنبيائه وأوليائه الأطهار عليهم السلام.
 
توجيه آخر للنظرية: استثناء آدم
 
لقد لجأت بعض الجماعات إلى التصرُّف في حدود نظرية التطوُّر، فالتزموا بصحَّتها مع استثناء آدم عليه السلام منها، وعُرِفَ ذلك بالاستثناء الآدمي (Adamic Exceptionalism)، وقالوا أنَّ خلق آدم عليه السلام كان معجزة كما دَلَّت النصوص الدينية.
 
ومن الواضح أنَّ أصحاب هذا القول قد تخلَّصوا بذلك مِن أهمِّ إشكالٍ يطرحه المؤمنون على هذه النظرية، في محاولةٍ للتوفيق بينها وبين الدين.
 
لكن يلاحظ عليهم:
 
أولاً: أنه قد تقدَّم عدم ثبوت هذه النظرية بنفسها، فلا تصل النوبة إلى محاولة التوفيق.
 
ثانياً: أنَّ هذا المعنى مما لا يقبله أصحاب النظرية أنفسهم، فإنَّهم يرون أن البشر جزء من منظومة التطوُّر، ويعتبرون أن أي محاولة للتوفيق هي تضليل للنفس، وأن الفهم الحقيقي لنظريتهم يؤدي حتماً لتآكل الإيمان.
 
ثالثاً: أنَّ ظاهر جملةٍ من النصوص الشرعية هو أنَّ الله تعالى قد خلق أصناف الكائنات خلقاً منفصلاً، ولم يتطور بعضها من بعض.
 
الكتاب المقدَّس:
فقد ورد فيه ما يشير إلى خَلقِ الأجناس على مراحل، في قبال التطوُّر، ففي أول سفر التكوين أنَّ الله خلق النور، ثمَّ السماء والأرض، ثم نبتت الأعشاب والشجر والثمر في مرحلة لاحقة، ثم يشير إلى مرحلة خلق الحيوانات بقوله: وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا رَابِعًا. وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ المِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ».
فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ العِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الَّتِي فَاضَتْ بِهَا المِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ..
إلى أن يبيِّن أن خلق الإنسان كان في مرحلة لاحقة أيضاً، وأنَّ الله سلَّطه على سمك البحر وطير السماء وبهائم الأرض (التكوين1: 11-27).
وهو نصٌّ واضحٌ في أنَّ الخلق كان على مراحل، وفق (أجناسٍ) مختلفة، وأنَّ خلق النبات قد تقدَّم على خلق الحيوانات، كما تقدم خلقهما على خلق الإنسان الذي خُلِقَ من تراب، زوجين ذكراً وأنثى.
 
القرآن الكريم:
وإلى خلق الأزواج أيضاً يشير القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَالَّذي خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها﴾ (الزخرف12)، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات49).
وقد أقرَّ القرآن الكريم حقيقة خلق السماوات والأرض في ستة أيام: ﴿وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ في‏ سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (هود7).
 
الأحاديث الشريفة:
وقال أمير المؤمنين عليه السلام عن مراحل الخلق: وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهَا فِي أَقَلَّ مِنْ لمحِ البَصَرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الأَنَاةَ وَالمُدَارَاةَ أَمْثَالًا لِأُمَنَائِهِ، وَإِيجَاباً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلْقِه‏ (الاحتجاج ج1 ص254).
 
ومن خطبةٍ بديعة له عليه السلام حول المخلوقات: وَخَالَفَ بَيْنَ الوَانِهَا، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الأَقْدَارِ وَالغَرَائِزِ وَالهَيْئَاتِ، بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ إِذِ ابْتَدَعَهَا انْتَظَمَ عِلْمُهُ صُنُوفَ ذَرْئِهَا، وَأَدْرَكَ تَدْبِيرُهُ حُسْنَ تَقْدِيرِهَا (التوحيد للصدوق ص54).
 
وعنه عليه السلام في خطبة أخرى: الحَمْدُ لله الَّذِي تَوَحَّدَ بِصُنْعِ الأَشْيَاءِ وَفَطَرَ أَجْنَاسَ البَرَايَا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ سَبَقَهُ فِي إِنْشَائِهَا.. وَاسْتَنْبَطَ أَجْنَاسَهَا خَلْقاً مَبْرُوءاً مَذْرُوءاً (بحار الأنوار ج25 ص26 عن إثبات الوصية).
 
وفي تفسير القمِّي أنَّ الله تعالى خلق الهوام يوم الثلاثاء، والطير يوم الأربعاء، وآدم عليه السلام يوم الجمعة (تفسير القمي ج‏1 ص322).
 
وقد روي ونُسِبَ إلى صحف إدريس عليه السلام: أن الله خلق مساء ليلة الأربعاء ألف صنفٍ من الملائكة، إلى أن يقول: ثُمَّ كَانَ صَبَاحُ يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ فَخَلَقَ الله مِنَ المَاءِ أَصْنَافَ البَهَائِمِ وَالطَّيْرِ.. وَأَجْنَاسَ الهَوَامِّ (بحار الأنوار ج54 ص101 عن سعد السعود).
 
هذه النصوص وغيرها تشير إلى خلق الأصناف خلقاً منفصلاً دون أن ينحدر بعضها من بعض، وهي لا تساعد على إثبات نظريَّة التطوُّر حتى وفق التوجيه الذي يستثني آدم عليه السلام، ويختصُّ بالحيوانات.
 
لذا فإنَّ هذه النظرية لا تجتمع مع حقائق الأديان السماوية.
 
الخاتمة والعبرة
 
بعد هذه الجولة الواسعة يتضح عندنا أمور:
 
من الجهة العلمية: فإنَّ النظرية الداروينية عند تفحص أقوى أدلتها، يتبين أنها لا ترقى لمرتبة اليقين، بل هي تفسيرٌ قائم على الاستقراء الناقص والقياسات الفاسدة.
 
من الجهة العقلية: إنَّ الطرح المادي للنظرية (الصدفة والعشوائية والانتخاب) يصطدم بأبجديات العقل (قانون السببية).
 
من الجهة الدينية: إنَّ الخلق المباشر للأصناف المختلفة مما دلَّت عليه النصوص الصريحة في الأديان السماوية، ما يجعل التوفيق بينها وبين أصل النظرية متعذراً.
 
وهنا نتوجه إلى المعتقدين بهذه النظرية بكلمات ثلاثة:
 
الكلمة الأولى: أنَّ أحداً لا يمكنه إنكار وجود قانونٍ في غاية الدِّقة يحكم الكائنات، يدلُّ على أنَّ لها مدبِّراً وخالقاً، فعليكم بالتدبُّر في ذلك.
 
وقد قال (نيل شوبين) عالم الأحياء التطوُّري: إن النمط الدقيق لهيكلنا العظمي، حقيقة لجسدنا كله، ممكن فقط: لأن الخلايا تعرف كيف تتصرف! تحتاج الخلايا معرفة متى تنقسم، ومتى تنتج الجزيئات، ومتى تموت! إذا تصرفت خلايا العظم أو الجلد مثلاً بشكل عشوائي (إذا انقسمت كثيراً أو ماتت قليلاً) فسوف نصبح بشعين جداً! أو الأسوأ من ذلك: ميتين. تتواصل الخلايا مع بعضها باستخدام كلمات مكتوبة على شكل جزيئات تنتقل من خلية لأخرى، يمكن لخلية أن تتحدث للتالية بإرسال جزيئات بينها (السمكة داخلك ص183).
 
وهذا الإقرار في غاية الأهميَّة، حيثُ يفتح النافذة أمامكم لتفهموا أنَّ هناك قدرةً تفوق ما نعرفه عن الطبيعة، هي التي تجعل هذه الخلايا متناهية الصغر تؤدي هذا الدور العجيب، وليس سوى الله تعالى.
 
الكلمة الثانية: أنَّ عليكم التنبُّه من أمرٍ عجيبٍ وهو ارتياح بعض القائلين بهذه النظرية إلى ما يعتقدونه جذوراً حيوانية! بل وافتخارهم بذلك!
 
حيث يقول (جيري كوين): إننا قرود عليا تتحدر من قرود عليا أخرى، وابن عمنا اللصيق هو الشمبانزي!.. هذه حقائق لا تقبل الجدل. وأحرى من أن تقلل إنسانيتنا، فإنها ينبغي أن تحدِث الارتياح والتعجب، لأنها تربطنا بكل الكائنات، الحية والمنقرضة (لماذا التطور حقيقة ص201).
 
ويقول (داروين): فإنه من جانبي الخاص، فإني قد أكون قد انحدرت عن ذلك القرد البطولي الصغير الذي جرؤ على تحدي عدوه المخيف من أجل إنقاذ الحياة الخاصة بحارسه، أو عن ذلك البابون العجوز.. (نشأة الإنسان ج3 ص239).
 
ويذهب عالم الحيوانات (ديزموند موريس) إلى أكثر من ذلك حين يقول: هناك مائة وثلاثة وتسعون 193 نوعاً من أنواع القردة والسعادين، من بينها مائة واثنان وتسعون 192يغطيها الشعر، أما الشاذُّ منها فهو ذلك الذي سمى نفسه بـ (الإنسان)!.. إن الإنسان مهما بلغ من اتساع المعرفة يبقى قِرداً عارياً رغم ذلك! (القرد العاري ص5).
 
ثم يقرِّرُ بكلِّ صراحة أنَّ: القرد العاري (أي الإنسان) .. مدينٌ بكل خصائصه الجنسية الجوهرية إلى أسلافه قردة الغابة قاطفة الفواكه! (القرد العاري ص42).
 
ويقول (ريتشارد دوكنز): من المؤكد أن لدينا جَدَّاً مشتركاً مع الكلب! وهناك جدٌّ أكيدٌ آخر مشترك مع الجرذ! وهذان الجدّان قد وجدا فعلاً في لحظة معينة من التاريخ (صانع الساعات الأعمى ص365).
 
ضع كلَّ هذا في كفَّةٍ، ثم انظر إلى تكريم الله تعالى للبشر حين يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني‏ آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً﴾ (الإسراء70)، وقد خلق الله الحيوانات لصلاحهم: ﴿وَالأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فيها دِفْ‏ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُون‏﴾ (النحل5).
 
فلكم أن تختاروا بين:
 
قبول التكريم الإلهي بتسخير الدُّنيا لكم.
وبين رفض التكريم والانتساب للحيوانات التي نزَّهكم الله عنها، ورَفَعَ قدركم عن المساواة بها، فإن رفضتم كثاني أصناف الآية المباركة، المتشبِّهين بالأنعام، الذين قال عنه تعالى: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ وَالَّذينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ﴾ (محمد12).
 
الكلمة الأخيرة: نصيحةٌ للتأمُّل في بعض كلمات إمام العقلاء، وأمير الكلمة والحكمة والمعرفة، عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث يقول في وصف النملة على صغرها ما يدهش العقول، يقول عليه السلام:
 
وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ القُدْرَةِ وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَخَافُوا عَذَابَ الحَرِيقِ.
وَلَكِنِ القُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَالبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ!
 
أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَسَوَّى لَهُ العَظْمَ وَالبَشَرَ!
 
انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ البَصَرِ وَلَا بِمُسْتَدْرَكِ الفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوَفْقِهَا، لَا يُغْفِلُهَا المَنَّانُ وَلَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَلَوْ فِي الصَّفَا اليَابِسِ وَالحَجَرِ الجَامِسِ، وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، [وَ] فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً.
 
فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا، لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ، وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَغَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ، وَمَا الجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ وَالثَّقِيلُ وَالخَفِيفُ وَالقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ! (نهج البلاغة ص270).
 
فما بالك لو نظرت إلى السماء والهواء والرياح والماء والشمس والقمر، وكلُّ ذلك له حَظٌّ في كلام عليٍّ عليه السلام، ونصيبٌ من مُدرَكات العقول، حينها لن تعدو أن تقول كما قال عليه السلام: وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ؟! أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ‏؟!
 
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
 
الأربعاء 4 جمادى الثاني 1447 هـ، الموافق 26 – 11 – 2025 م

مواضيع ذات صلة