البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٢ جمادى الآخرة ١٤٤٧

ابن عربي ومخالفة منهج الثقلين

يُعَدّ محيي الدين ابن عربي (560هـ – 638هـ) من أبرز أعلام التصوف الإسلامي وصاحب نظرية وحدة الوجود التي أثارت الكثير من الجدل في الاوساط الدينية١ . فرُغم أنه قد  قدّم رؤى روحية وفكرية عميقة في كتبه مثل؛ الفتوحات المكية وفصوص الحكم، إلا ان فكره لم يسلم  من الانتقاد، إذ وُصِف بعضه بالتماس مع الغلو أو اللبس العقدي.

ابن عربي ونظرية وحدة الوجود:
 يمكن القول إن ابن عربي وان كان  مصيبا في بعض الطروحات، إلا انه أخطأ في أخرى على نحو لا يمكن غض الطرف عنه:

فهو قد أصاب حين أبرز عظمة الله وأن الوجود قائم به وحده.
وكذلك حين دعا إلى تزكية النفس والسمو الروحي.٢

لكنه أخطأ حين أطلق نظريته في وحدة الوجود بصياغة فضفاضة فتحت الباب أمام التأويلات المتناقضة، حتى عُدّت أحيانًا مائلة إلى الحلول أو الاتحاد. 
كما ان مايطرحه من معتقدات تدعو
 الى التساؤل عن أفق العلاقة بينه وبين القرآن الكريم! فأراؤه تكشف عن خلط واضح في فهم النصوص القرآنية، وتأويلها بما يساوق ذوقه العقدي الصوفي.
ففي الوقت الذي يرى فيه ان وجود الله سبحانه في حياة الانسان ضروري واساسي ليحيا حياة حرة وكريمة ، إلا انه يؤكد ايضا على( ضرورة وجود الانسان بالنسبة الى وجود الله لانه، حسب قوله، يُظهر كمالات الله)*٣، وهنا صورة جلية من صور الخلط الذهني البعيدة كل البعد عن، حقيقة ان الله سبحانه هو الغني المطلق، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر: 15)
فما يكتنفه الوجود الانساني من دلائل وآيات إنما يعضد إيمانه بوجود الله، مما يرسخ الاسس الفطرية، ويؤكد مصداقية المبتعثين بالتبليغ والهداية، فنفع هذا الوجود عائد على نفس الموجود، الذي يحتاج الى ان يفهم مافي خلقه من كمالات ولطائف، و كيف انها تعكس  كمالات الخالق سبحانه،  فان غفل الانسان   عن هكذا معرفة، فهل سيضر الله شيئا؟!
"وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ"( ابراهيم، ٨)
  فهذه المعرفة،التي نبه عليها  الرسل والانبياء،  إنما هي رحمة من الله بما تستبطنه من هداية  قال تعالى:" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت،53)
وعلى فرض تأويل معتقد بن عربي ، آنف الذكر، بغية  رده الى ساحة الاعتقاد الصحيح، إلا انه  قد اخرج الكثيرين  الى فضاء اللبس والخلط في المفاهيم، مما يستدعي الاحتياط واخذ جانب الحذر عند مطالعة تراثه الفكري.
يقول مولى الموحدين علي بن ابي طالب عليه السلام):( يامن دل على ذاته بذاته) ٤
وليس بمخلوقاته
ويقول ايضا: (اعرفوا الله بالله)٥

مغالطات بن عربي مابين فرعون وابو طالب عليه السلام:
مثال آخر على شذوذه التفسيري، للنصوص القرآنية والحوادث التأريخية؛ هو تاكيده على ايمان فرعون وكفر ابو طالب (سلام الله عليه)؛

  یقول ابن عربی فی فصوص الحکم عن فرعون لعنة الله عليه:
«فَقَبَضَهُ طاهِراً مُطَهَّراً لَیسَ فیهِ شَیئٌ مِنَ الخُبثِ لِاَنَّهُ قَبَضَهُ عِندَ ایمانِهِ قَبلَ اَن یَکتَسِبَ شَیئاَ مِنَ الاثامِ.» ٦   
وهو شذوذ واضح عن السياق القرآني الحاكي عن كفر وعصيان فرعون، واعراض صريح عن قوله سبحانه:
«وَ لَیسَتِ التَّوبَهُ لِلَّذینَ یَعمَلُونَ السَّیِّئاتِ حَتّی اِذا حَضَرَ اَحَدَهُمُ المَوتُ قالَ إنّی تُبتُ الآن» (النساء ١٨)
فللتوبة علامات وشروط حددها المولى في كتابه الكريم ولا مجال للتأويل في نص قرآني صريح.
وفي المقابل نجده يُكفّر سيدنا ابو طالب عم رسول الله صلى الله عليه واله، حيث قال  ابن عربي حول كتاب، يزعم أنه تلقّاه من النبيّ صلى الله عليه وآله في حال المكاشفة:
«لو كان للهمّة أثر، لما كان هناك أكمل من رسول الله ولا أحد أعلى وأقوى همّةً منه، ومع ذلك لم تُؤثّر همّته في إسلام عمّه أبي طالب.» ٧

و يمكن تفسير جانب من هذا الإخفاق بكونه اعتمد على إشراقاته الفكرية وذوقه التحليلي  الشخصي،المبتنى على بعض الاسس الفكرية الصوفية،  دون أن يُخضعها لميزان العصمة المتمثل بما أوصى به النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله:
 "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً."٨

فالركون إلى الذوق الفردي مهما بلغ من العمق، من دون الرجوع إلى المرجعية القطعية (القرآن الكريم وتفسير العترة الطاهرة)، سيؤدي حتما إلى الانحراف أو اللبس مما يصير الفكر العوبة بيد الشيطان.
 روي عن الامام  الرضا (عليه السلام)  انه قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع.)٩
ولكن حتى هذا التفريع لابد من ان يبقى منضبطا بالاصل وحدوده، غير خارج عنه.
الفرق بين الصوفية والعرفان:
إن هذا الانحراف عن المنهج النبوي قد سمح بالاجتهاد في ساحة النص،  و مثاله ماحصل من سوء فهم للعلاقة مع الله سبحانه والتي تعرف عند اتباع مذهب اهل البيت عليهم السلام بالعرفان، وعند باقي المذاهب الاسلامية بالصوفية، والذي تبناه بن عربي  :
فالمذهب الصوفي وان كان قائما على علاقة المصافاة مع الاله المعبود إلا انه اتخذت طابع الرهبنة التي حرمها الله ورسوله، بما تكتنفه من ابتداع لفروض ما انزل الله بها من سلطان،( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27، الحديد)   حيث أنها تحرم الانسان من فاعليته الاجتماعية، حين تدفع به نحو العزلة عن المجتمع، إرادةً منه  لتزكية النفس وتكامل الروح!
فالانقطاع الى الله امر راجح غير انه يصبح مرجوح حين يتعدى حدوده.١٠ 
 و السيرة النبوية واضحة الدلالة على ان العبودية الصادقة، تنبع من تزكية النفس  بالصبر على مكاره المخالطة،  وحسن مدارة الناس، والتغافل عن عيوبهم، وهو ما يعرف في الادبيات الاخلاقية  بالتخلية، والتحلية والتجلية، ومفادها التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل فتشرق بصائر القلوب بضياء نظرها الى المحبوب، فمدار العرفان هو الخُلق الرفيع وليس الاعتزال المنيع.
قال رسول الله صلى الله عليه واله( فلولا الشياطين تحوم حول قلب بن ادم لرأوا ملكوت السماوات والارض)١١
 فالعرفان عند أهل البيت (عليهم السلام):  مستمد مباشرة من الوحي، واضح المعالم، متكامل الاركان، بعيد عن الغموض، ومحصّن من الانحراف. ففي كلماتهم الشريفة يتجلّى العرفان بأصفى صوره، كما في أدعية الإمام علي (ع): " الهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنير ابصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك.."١٢

و كذلك جاء في صحيفة الامام(الحسين عليه السلام): "أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك.."١٣

فما الداعي الى العزوف عن فرات اهل البيت عليهم السلام، وهو فرات اصله الوحي ومجراه النبوة، وفرعه الامامة!،
اذا يمكن القول إنّ ابن عربي قد تكون نيته صادقة في بحثه عن الحقائق الإلهية، لكنّ عدم  انضباطه بميزان "الثقلين" أوقعه في مواطن التناقض والالتباس. فلا مناص من الاعتصام بوصية النبي الكريم صلى الله عليه وآله لنكون في مأمن  عند الخوض في لجج المعارف الفكرية والعقائدية.
قال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر،7)  

................
١-تاريخ فلاسفة الاسلام، دراسة شاملة/فصل١١ ،( محي الدين بن عربي)
٢-سيرة حياة محي الدين بن عربي، مها دحام
٣- المصدر السابق
٤- دعاء الصباح للامام علي عليه السلام.
٥-الكافي، ج ١، ص٨٥
٦- فصوص الحكم، المجلد الاول، ص٢٠١
٧-المصدر السابق، ص٣٢٥.
٨-وسائل الشيعة، ج٢٧،ص٣٤.
٩-نفس المصد السابق ، ص٦٢.
١٠-تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ، سورة الحديد.
١١-بحار الانوار، ج٦٠، ص٣٣٢.
١٢-المناجاة الشعبانية للامام علي عليه السلام.
١٣-صحيفة الامام الحسين عليه السلام، جمع الشيخ جواد القيومي، ص٢١٨.

مواضيع ذات صلة