البحث المتقدم

البحث المتقدم

٢٦ جمادى الأولى ١٤٤٧

العدالة في فكر الإمام عليّ (عليه السلام): دراسة في البعد الإنساني والفقهي

المقدمة

 

يُعدّ الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من أعظم الشخصيات التي جسّدت العدالة الإلهية في الفكر والممارسة، إذ امتزج في شخصه العلم بالرحمة، والفقه بالأخلاق، والسلطة بالزهد.

إنّ دراسة عدالته ليست تأملًا في تاريخ سياسي، بل قراءة في جوهر القانون الإنساني الذي سبق التشريعات الوضعية في فهمه للإنسان والمجتمع والكرامة.

 

أولاً: مفهوم العدالة عند الإمام عليّ (عليه السلام)

 

العدالة في فكر الإمام عليّ ليست مجرّد توازنٍ في الحقوق، بل هي إقامة الحق في موضعه، بحيث يُعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه ضمن نظامٍ قيميٍّ يستند إلى معرفة الله.

قال (عليه السلام):

 

> "العدل أساسٌ به قوامُ العالم."

(غرر الحكم)

وفي قوله تعالى:

> ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90)

يتبيّن أن العدالة في أصلها تكليف إلهي، وأنّ الإحسان هو روحها الداخلية.

وقد أكّد الإمام هذا المعنى في نهج البلاغة بقوله:

> "العدلُ يضع الأمورَ مواضعَها، والإحسانُ يخرجها عن جهتها."

فهو يرى أنّ العدل ميزان الوجود، والإحسان جماله الأخلاقي.

 

ثانياً: العدالة الاجتماعية والاقتصادية

حين تولّى الإمام الخلافة، أعلن بوضوح أنه لن يُفرّق بين الناس في العطاء، فقال:

> "لو كان المالُ لي لسوّيتُ بينهم، فكيف والمالُ مالُ الله؟"

(نهج البلاغة، خ232)

هذا الموقف يُبرز فلسفته الاقتصادية القائمة على توزيع الثروة بالعدل لا بالقرابة، ورفض الامتياز الطبقي الذي أفسد عهود الخلفاء قبله.

كما كتب لعُمّاله:

 

> "اللهَ اللهَ في الطبقةِ السفلى من الذين لا حيلةَ لهم."

(عهده لمالك الأشتر)

 

وهو نصّ تأسيسي في الفكر الاجتماعي الإسلامي، يدلّ على أن العدالة لا تكتمل إلا برعاية الضعفاء وحماية حقوقهم.

 

ثالثاً: عدالته في القضاء والتشريع

 

كان الإمام عليّ (عليه السلام) يرى أن القضاء أمانةٌ إلهية لا سلطة بشرية، فكان يحكم بالحق ولو على نفسه.

ومن أشهر مواقفه أنه خاصم يهوديًا على درعٍ عند القاضي شريح، ولم يميّز نفسه في المجلس، بل جلس خصمًا كباقي الناس.

فلما لم يثبت الدليل، حكم القاضي لليهودي، فقال الإمام:

 

> "إنها درعي، ولكن حكمتَ بالحق."

فأُعجب اليهودي بعدله وأسلم.

وفي هذا تتجلى العدالة الإلهية في أبهى صورها، حيث تُغلّب القيم على الهوى، والحق على المنصب.

رابعاً: فقهه في العقوبات

 

كان الإمام عليّ (عليه السلام) يرى أنّ العقوبات غايتها الإصلاح لا الانتقام، والهداية لا الإذلال.

وقد ورد أنه حين جِيءَ بسارقٍ قال له:

 

> "لِمَ سرقت؟"

فقال: "جعتُ ولم أجد طعاماً."

فقال له الإمام:

"اذهب، فقد برئت يدك، ووجبت على الحاكم يدُه التي قصّرت عنك."

 

هذا الموقف يُظهر أن العدالة عند الإمام لا تُقيم الحدّ قبل معرفة الدافع، لأنّ العقوبة بلا رحمة ظلم، والرحمة بلا نظام فوضى.

وهو في ذلك يطبّق قوله تعالى:

 

> ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)

فالإنسان في فكره مكرّم حتى في ضعفه، ويُعالج قبل أن يُدان.

 

خامساً: التواضع والرحمة في ممارسة السلطة

 

لم يكن الإمام عليّ (عليه السلام) حاكماً متكبّراً، بل كان يعيش بين الناس، يسير في الأسواق بلا حراسة، ويشتري حاجاته بنفسه.

وكان يقول:

 

> "عجبتُ للمتكبّر الذي كان نطفةً ثمّ يكون جيفة."

وكان يجلس مع الفقراء ويأكل مما يأكلون.

لقد كان تواضعه تجسيدًا لفلسفة الحكم في الإسلام، القائمة على خدمة الناس لا تسلّطهم.

 

وفي عهده لمالك الأشتر قال:

 

> "أشعر قلبك الرحمة للرعيّة، واللّطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً."

(نهج البلاغة، عهد الأشتر)

 

بهذا جعل من الرحمة شرطًا في الحكم، ومن اللين قرينًا للعدالة، وهو ما عبّر عنه القرآن:

 

> ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: 159)

 

سادساً: العدالة كقيمة كونية

 

يرى الإمام عليّ أن العدل ليس نظامًا بشريًا بل سنّة كونية تحفظ توازن الوجود، فقال:

 

> "العدل حياة الأحكام."

(غرر الحكم)

 

فهو روح الشريعة، وبدونه تفسد القوانين وتتحوّل إلى أدوات ظلم.

ومن هنا نفهم أن العدالة في فكر الإمام تتجاوز حدود الدولة إلى عمق النفس والمجتمع والكون.

 

الخاتمة

 

إنّ عدالة الإمام عليّ (عليه السلام) تمثّل النموذج الأكمل لما يمكن أن يُسمّى "روح القانون الإسلامي"، إذ جمعت بين النص والرحمة، وبين القوة والعفو، وبين النظام والإنسانية.

لقد أثبت الإمام أنّ العدل لا يُفرض بالسيف، بل يُزرع في الضمير، وأنّ الحكم الحقّ هو الذي يرفع الإنسان لا الذي يُرهبه.

 

 

الباحث والكاتب د - صلاح ال خلف الحسيني

 

المصادر والمراجع

 

1. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، بيروت، دار الكتاب العربي.

 

2. القرآن الكريم، الآيات: النحل 90، الإسراء 70، آل عمران 159.

 

3. غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي، قم.

 

4. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، دار إحياء الكتب العربية.شش

 

5. الخصال، الشيخ الصدوق.

 

6. الوسائل إلى معرفة العدالة في الإسلام، دراسة معاصرة.

 

مواضيع ذات صلة