في خضم معركة كربلاء الملتهبة التي حوّلت الفرات إلى ساحة اختبار للإنسانية، وقف أبو الفضل العباس (عليه السلام) أمام مفترق طرق وجودي: أن يشرب أو لا يشرب! هنا لم يكن العطش مجرد حاجة جسمية، بل تحوّل إلى اختبار إرادي، أو بالأحرى إلى قرار مصيري يختزل كل فلسفة التضحية في الإسلام.
وقد كان العباس (صلوات الله عليه) يختبر معادلة القيم: الماء مقابل المبدأ الحياة مقابل الولاء، وكانت نظرته للماء ثم إلى الأطفال العطاشى في المخيم تمثل أعلى مراحل الجود في النفس، فقرر أن يكون جسمه جسراً لهم، وهذه اللحظة لم تكن رد فعل عاطفيًا، بل كانت نتاج تراكم قيمي بنى عليه العباس حياته كلها، أي إنها لحظة تكثيف لكل ما يؤمن به الإنسان من القيم الفريدة من الناحية الانسانية.
ولم يكن امتناع العباس عن الشرب مجرد موقف شخصي، بل كان بيانًا سياسيًا ضد نظام يمنع الماء عن الأطفال وبموته عطشانًا، كان يقول ليزيد وجيشه: أنتم لا تمتلكون حتى الماء الذي تستطيعون منحي إياه، وبهذه الحالة حوّل العطش من نقطة ضعف إلى سلاح معنوي دكّ به أركان الظلم سواء في أثناء المعركة أو بعدها.
وبهذا قد علمنا نافذ البصير أن البطولة الحقيقية ليست في الانتصار العسكري، بل في القدرة على تحويل الهزيمة الظاهرية إلى انتصار معنوي، وذلك من طريق تحويل قضية العطش إلى ضوء ينير درب المضطهدين على مر العصور، وإن بعض العطش لا يرويه إلا الإيمان، والبعض الآخر لا يطفئه إلا الشهادة، وهكذا يكون العطش اختيارًا.