الشيخ الكسائي ودوره في إثراء مدرسة الكوفة النحوية
الحديث عن الكوفة حديث واسع يحتاج الى بحثٍ في الأمور التي تكون ملمة بالتعريف عن مكانتها التاريخية منذ تأسيسها، إذ إنّ هذه المدينة تُعدُّ من الأمصار العربية والإسلامية التي احتلت مكانةً خاصة بين المدن الأخرى، فقد مرّت نشأتها بمراحل عدة ، بدأت المرحلة الأولى منها بدخول جيش المسلمين والتي اتخذوها معسكرًا لهم عام 17 للهجرة، ثم تلتها المرحلة الأخرى والتي تمثلت باختيار مدينة الكوفة عاصمة للخلافة الإسلامية من قبل امير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) عام 36 للهجرة؛ وذلك لمنع الانقسامات في داخل المجتمع الإسلامي, وخاصة بعد الظروف السياسية التي جعلت الدولة الاسلامية حينذاك تفتقد الى الامن والاستقرار خصوصًا في المدينة المنورة ومكة المكرمة.([1])
مما لا شك فيه أنّ الظروف المذكورة جعلت من الكوفة مدينة مزدهرة سياسيًا، ليس ككونها مركزًا للخلافة الإسلامية فحسب بل تعدت ذلك لتكون ملتقى للتيارات الاجتماعية والعلمية، إذ صارت مركزاً للإشعاع الفكري، وكانت تذكر بمجالسها الحوارية التي يتواجد فيها الكوفيون وأعلام المدارس من المدن الأخرى؛ لتكون مستقراً لمدارس اللغة والفقه وحفظ القران، إضافة الى حفظها للإرث الثقافي لمدن شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وامتزاجها بالثقافات الأخرى حتى أصبحت مدرسة للرأي والعلوم.
انقسمت الكوفة الى ثلاثة مدارس علمية وهي: مدرسة القراءة والقران وقد مثلها أبو عبد الرحمن السلمي ، وزر بن حبيش، وعاصم بن ابي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات اذ كانوا من شيوخ الإقراء والجهابذة في هذا المجال، ثم لحقتها مدرسة الفقه والفقهاء والتي عُنيت بقراءة النصوص القرآنية بشكل عملي فتستنبط منها الاحكام الشرعية والابتلائية والافتاء بها، إذ إنّ أول من وضع أساس هذه المدرسة هم اهل بيت النبوة (عليهم السلام)، فظهرت بشكلٍ جلي في عهد الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، والأخيرة اطلق عليها مدرسة النحو والنحاة وقد عُنيت بالجانب اللفظي، فركز شيوخها على الجانب اللغوي و قواعد الاعراب؛ من اجل استخدامها في معرفة اعراب الآيات القرآنية ونقد النصوص الأدبية كجانب عملي لهذه المدرسة، فكان ممثلها علي بن حمزة الكسائي الذي ترك اثرًا واضحًا في النحو العربي، ومن اجل الاطلاع على الأهمية العلمية لمدينة الكوفة وعلمائها لابد من التعريف بأحد العلماء المؤثرين كالشيخ الكسائي، فهو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان من ولد بهمن بن فيروز الكوفي، كان من المتمكنين من القراءة والنحو واللغة، وأعدّوه اهل المعرفة أحد القرّاء السبعة ، عاش في الكوفة وتعلم فيها على يد اهل العلم والفضائل، أفنى سنواتٍ طوال في نشر علم النحو والقراءة العربية لنصوص القرآن.([2])
يٌعد الكسائي من رجالات مدينة الكوفة وأحد أعمدة مدرستها النحوية فلهُ الفضل في تأسيسها، وكان سبباً مؤثرا بمد مشايخ الكوفة بالكثير من الآراء التي تخص مجال النحو، إضافةً الى عقده مجالس المناظرة مع البصريين فيما يخص المسائل اللغوية.
نشط الكسائي في جوانب علمية متعددة وترجم ذلك على ارض الواقع من طريق إرثهُ العلمي الذي اتخذه أصحاب التراجم مرجعًا موثوقًا لحل القضايا اللغوية، فمن مؤلفاته كتاب النوادر الكبير، وكتاب النوادر الأصغر، ومختصر في النحو، وكتاب اختلاف العدد، وكتاب قصص الأنبياء، وكتاب الحروف، وكتاب العدد، وكتاب القراءات، وكتاب المصادر، وكتاب الهجاء وهذه المؤلفات تنفرد بالجانب النحوي، اما في الجانب الديني فقد كتب في علوم القرآن وقراءته ومعانيه مثل معاني القرآن، ومقطوع القرآن وموصوله وغيرها من المؤلفات.
وهناك مجموعة من العوامل التي جعلت الكسائي يهتم بالنحو وهي:
- أراد الشيخ الكسائي اعداد قاعدة علمية مختلفة تختص بالنحو لتكون ساندة للقراء خاصة إن الكوفة كانت مركزاً لنشر علوم القران والفقه والادب.
- إن اختلاف الاخفش لسيبويه جعلت الكسائي ينحو باتجاه التوسع في الرواية والقياس، فكانت نتيجة هذا التوسع تأسيس مدرسة الكوفة التي سارت على نهج اخضاع القراءات للقواعد اللفظية.
- حاول مؤسس المدرسة النحوية في الكوفة العناية بالقراءات اللغوية ليتلافى ما وقع فيه اعلام النحو من البصريين في هذا المجال.
- وصل الكسائي الى صياغة قواعد نحوية للتوفيق بين القراءة اللغوية للقران الكريم يتناسب مع قدسية القراءة لكتاب الله تعالى، إضافةً الى مناقشته لآراء بعض علماء النحو الذين قدموا القياس في اللفظ على جزالة اللغة المقروءة.
- المبدأ العلمي الذي سارت عليه المدارس الأخرى، جعلت من مدرسة الكوفة محاولة الخروج عن القواعد التقليدية وإعادة ترتيب هذه القواعد وفق رأي لغوي دقيق.
هذه العوامل والاختلاف في المناهج النحوية دفعت الكسائي الى الاجتهاد في تفسير الظواهر اللغوية وتحليلها بكل ما يملك من حس لغوي، واستثمر في ذلك مكانته العلمية بين القراء فضلاً عن ملكته العلمية في جانب النحو، واختار مدينة الكوفة؛ لأنها احتوت على الكثير من العلوم المرتبطة بالنحو، ولهذا تميزت الكوفة بدورها العلمي والمميز فكانت مصدرًا للعلوم القرآنية والأدبية في الماضي والحاضر.
[1] - "لماذا انتقل مركز الخلافة الإسلامية في عهد على (عليه السلام) ـ من المدينة المنورة إلى الكوفة؟."، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 7/9/2021. بتصرّف.
-[2] طبقات النحويين واللغوين، لابي بكر الزبيدي(ت379ه) ص127.