موقف المرجعية الدينية العليا من التطورات السياسية في العراق حتى عام 1955 (4)
في 30 أيلول 1958، صدر قانون الإصلاح الزراعي كجزء من مجموعة من الإجراءات التشريعية التي تهدف إلى إحداث تغييرات جوهرية في ملكية الأراضي الزراعية وتحسين استغلالها. وجاءت هذه الإجراءات بعد سقوط النظام الملكي في العراق وتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عبد الكريم قاسم، التي سعت إلى الحد من سلطة الإقطاعيين وتقليص نفوذهم. من خلال هذا القانون، أُجبر الإقطاعيون على التخلي عن مساحات كبيرة من أراضيهم لصالح الفلاحين، بهدف تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية وتخفيف التفاوت الطبقي في المجتمع الريفي، لكن قانون الإصلاح الزراعي لم يكن موضع قبول كامل في الأوساط الاجتماعية والسياسية، واصطدم بمعوقات كبيرة على الأرض.
هنا جاء دور المرجعية الدينية، وعلى رأسها المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم، (قدس سرة)، اذ لعبت دوراً محورياً في مواجهة هذا القانون، فقد اعترضت المرجعية على عدد من جوانب هذا القانون، واعتبرته تعدياً على حقوق الملكية الخاصة التي هي جزء من الحقوق الشرعية التي لا يمكن المساس بها إلا وفق ضوابط دينية وأخلاقية دقيقة.
وكانت حجتهم الأساسية في ذلك أن القانون فشل في تحقيق أهدافه الاجتماعية والاقتصادية، بل زاد من تعقيد العلاقة بين الإقطاعيين والفلاحين.
أبرز نقاط الخلاف كانت متعلقة بتأثير القانون على حقوق الملكية الخاصة اذ اعتبرت المرجعية أن الأراضي التي أُخذت بالقوة من أصحابها هي أراضٍ مغتصبة وغير شرعية من منظور الشريعة الإسلامية، وبناءً على ذلك، صدرت فتاوى دينية تحرم الصلاة على هذه الأراضي التي أصبحت محل نزاع بين الفلاحين والإقطاعيين، انطلاقاً من مبدأ الشك في التطبيق الصحيح للقانون ومدى العدالة في تنفيذه.
من جانب آخر، أعرب السيد محسن الحكيم ومعه مجموعة من العلماء عن قلقهم من أن القانون لم يأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي والاقتصادي للفلاحين، وكان الكثير منهم غير مستعدين لاستصلاح الأراضي بأنفسهم أو تحمل الأعباء المالية والإدارية المرتبطة بها.
وقد أدى ذلك إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية في المناطق الريفية بدلاً من حلها. ورغم تعديل القانون في 3 حزيران 1959، بقيت المرجعية الدينية معارضة لفكرة فرض الإصلاح الزراعي بالقوة، ودعت إلى ضرورة إصلاح العلاقة بين الفلاح وشيخه على أساس العدل والتكافؤ، وتنظيم العلاقة المتبادلة بين الطرفين بطريقة تضمن حقوق الجميع وفق قواعد الشريعة الإسلامية.
هذا الموقف من قانون الإصلاح الزراعي كان سبباً رئيسياً في تصاعد الخلاف بين المرجعية الدينية والنظام الحاكم آنذاك، وأدى إلى توتر العلاقة بين الجانبين، حيث رأت المرجعية أن القانون قد تم استخدامه كأداة سياسية لتحقيق أهداف الحكومة الثورية بعيداً عن الاعتبارات الدينية والشرعية.