البحث المتقدم

البحث المتقدم

رحلة استكشافية في عوالم الكتابة والذات

0 تقييم المقال

 

 

تجربة الكاتبة غادة الحلواني في كتابها " ولكن كيف"، الذي صدر عن دار الفارابي ببيروت، تعد تحولًا ملحوظًا بعد مجموعتها القصصية الأولى "وخزة خفيفة"، يتسم الكتاب الجديد بطابع فريد حيث يعتمد على تجريبية فريدة في تقديم نصين متوازيين، نص باطني ونص ظاهري، يتميزان بلونين مختلفين، حيث يُطبع النص الباطني بلون رمادي بينما يُطبع النص الظاهري بلون أسود.

تظهر القوة الإبداعية في هذا التصميم حينما يتفوق النص الباطني بوضوح على النص الظاهر، اذ يكون لونه أخف، ولكن يتأكد تأثيره بالتكرار المستمر، محولًا الخفة الظاهرة إلى ثقل ينبع من تلاحم المطابقة والمطاردة التي يشنها النص على القارئ، ويظهر النص كالظل الذي لا يمكن الهروب منه، أو كـ"الهامة" التي تلاحق القارئ حتى تحقق هدفها، تاركًا خلفه ذرات الرماد والزيت المغلي ومجدول الصبايا وونيس العجائز، النص رغم قصره، يعكس هذا التناغم بين ارتطام المجدول وارتفاعه في الهواء، داعيًا لترك المتاهات وتحديد طريق جديد يكشف عن الجمال والقوة..

قرأت النص مرارًا، مستبعدًا أن تكون الكاتبة قد قامت بتعديل جملة أو كلمة، تأملت في التفاصيل بحثًا عن تلوين جديد أو مفارقة مفاجئة، ولكن، أدركت أن اللعبة ليست في التغييرات التشكيلية، بل في الحوار الرائع الذي يتم بين النص الثابت والنص الظاهر القابل للتغيير.

النص الظاهر يتكون من قوسين صغيرين، بينهما ست عشرة محاولة، تتراوح بين الشعر والنثر، الواقعي والفانتازي، الحكاية والمونولوج، اذ تتميز هذه المحاولات بتنوعها في الأسلوب والسرد، حيث تنطوي بعضها على سرد طويل وبطيء، في حين تكون أخرى حوارية وسريعة، وتبرز المحاولات كأعمال روائية، تقدمها النصوص بأسلوب متنوع، كأنها كائن ثنائي متقدم، يتنقل بين الطابقين بتمهل، ويحب التمايل على حواف الشرفات العالية، ويرتفع بأطراف أصابع قدميه فوق ساحة المجدول.

تظهر الفتاة وهي تتمايل على نفسها، صارخة بشدة: "كفى عن التوقف، يا أسواري!" تتنقل الفتاة عند مفترق الطرق، ثم مرة أخرى عند مفترق الطرق، تلتمس المساعدة باستخدام كبريت ذكرك، تشتعل بنفسها، وتعود للحياة من رمادها مرة أخرى إن استطاعت.

تظهر "ذات" وهي تحاول نزع الأقنعة عن وجهها الحقيقي، قائلة: "دعوني أحصي عدد الأقنعة في آخر الليل، التي ملأت حقيبتي على مدار ثلاثين عامًا"، هي ذات لا تستطيع التعبير أو النباهة أو الصراخ أو التحدث، وتعبر عن عجزها عن التعبير أو الكتابة أو العزف أو حتى الموت.

المحاولات الست عشرة تظهر كأقنعة لـ "ذات"، تقول: "في كل منا صورة فريدة، لا تشبه الصور الأخرى،" النص الباطن يظهر شعريًا في ذاته، يكون مقتصدًا ومكتنزًا، يثير التأمل والتفسير، بينما يتجه النص الظاهر كحصان يراقب حركات البطلة وتحركاتها داخل أو خارج الأسوار الحقيقية أو المتخيلة.

النص يتأرجح بين الشعري والفانتازي من حيث التشكيل وبين الذات والعالم من حيث الرؤية، مما يتيح للقارئ ممارسة فضوله في بناء حواره الخاص بين النصين، وينعكس هذا الحوار في تحولات متعددة تكسر من هيمنة النص الظاهر، ويؤدي إلى تحوله إلى جمل إيقاعية، تتسم بالتناغم والتجانس.

الكتاب ككل، أو الحوار الذي يحدث فيه تحول للنص الظاهر إلى حاشية طويلة في لعبة المتن والهامش، يستند إلى أشكال ماكرة ومراوغة، في هذين الحوارين، اللذين تديرهما الذات القارئة، تبقى الذات الروائية محور الحوار وموضوعه، حيث تقول: "أنا لست إلا حروفًا كتبت عليها حروفًا على حروف، لذا فإن هذه الذات تظهر أمام كل قارئ بقناع مختلف."

 

تتقاذف الذات نفسها في هذه اللعبة، حيث يتحول النص الظاهر إلى محادثات طويلة في الهامش، بأسلوب ماكر ومراوغ. تظهر الذات الروائية وهي تعبر عن وجعها، وتواجه عالمًا يبدو حقيقيًا وغير حقيقي في الوقت نفسه، يتمثل الوجع في التردد بين الانخراط في العالم والانسحاب منه، في حركة لا تتوقف، مثل جديلة تتأرجح بين الارتفاع في الهواء وضرب الظهر.

هذه القراءة تعتبر النص غامضًا، ويرجع غموضه إلى أن النص يتحدى القارئ بتجربة فريدة، حيث تتداخل الطبيعة الحقيقية والخيالية، ويُثير الاستفهام حول معاني الذات وتناقضاتها في محيط متعدد الأوجه، الا ان مرجعية النص لا تكمن في الخارج، بل تنبع من داخل الذات الكاتبة، ويتسبب الغموض في النص أحيانًا من خلال الاندماج بين الفانتازيا والرمزية، على الرغم من أن المحاولات الست عشرة تشبه عملية خلع الأقنعة بعد بعضها البعض، مثل رقص سالومي أمام رأس المعمدان، حيث تخلع الثوب بعد الثوب لتصبح عارية تمامًا، إلا أن التواريخ المرفقة بالمحاولات تثير تساؤلات.

تتساءل الكاتبة عما إذا كانت التواريخ تشير إلى تواريخ كتابة النصوص أم تواريخ التجارب التي مرت بها الذات على مدى ثلاثين عامًا، يظهر أنها تعتقد أنها تواريخ للتجارب، حيث ترتبط محاولة معينة (بدون رقم) بفترة زمنية تمتد من فبراير 1971 إلى فبراير 2054، مما يظهر استمرار الذات في التجربة والتأمل على مدى حياتها، اذ ان التواريخ الملتبسة والغير مرجعية تسهم في إضفاء مزيد من الغموض على النص، وتعزز فكرة أن هذا العمل يستند إلى تجارب وتأملات طويلة، مما يترك للقارئ مساحة واسعة لاستكشاف تلك الروح الغامضة والمعنى العميق المتأرجح في متاهات الذات.

 

 

نعم
هل اعجبك المقال