في أعماق شوارع كربلاء، تتجلى ذكريات عريقة لأسواق نابضة بالحياة والنشاط، اذ كانت تلك الأسواق، في أيامها القديمة، مركزًا للتبادل التجاري والحياة الاجتماعية، خاصةً خلال شهر رمضان المبارك.
تمتاز كربلاء بتاريخ تجاري طويل، حيث كانت ولازالت تعتبر مركزًا رئيسيًا للتجارة والزراعة في العراق، كما وكانت الأسواق القديمة في كربلاء تضم مجموعة واسعة من الباعة والتجار الذين يعرضون مختلف المنتجات، بدءًا من السلع الغذائية وصولاً إلى الحرف اليدوية الجميلة.
من خصوصيات اهالي كربلاء قديماً كان هناك حراك تجاري يسبق استهلال شهر رمضان الكريم ، وتبضع لما تحتاجه الاسرة في الشهر الفضيل من مواد غذائية واحتياجات منزلية , وهذا النوع من الحراك التسويقي غالباً ما يكون حراك نسوي اذ تقوم النساء بالتسوق لشهر رمضان وتهيئة جميع متطلبات المنزل .
عرفت كربلاء قديماً بأسواقها المركزية ومحالها التجارية التي لازال البعض منها قائما الى وقتنا هذا ، (كالخفافين والميدان وباب الخان والعلاوي و الزينبية و سوق الحسين وسوق التجار العرب ) ذلك لما تمتلكه هذه المدينة من مكانة دينية وجغرافية جعلت منها مركز للسياحة الدينية وحركة التجار، وقد شكلت هذه الاسواق دوراً بارزا ومهما في ذاكرة المدينة وحفظ تراثها من خلال ما شهدته وقامت بتوثيقه من احداث دارت فيها ، اذ كانت بالإضافة لوظيفتها التجارية ، ملتقى لمثقفيّ المدينة من مؤرخين وفنانين وادباء .
كانت الاسواق معروفة ومتنوعة، وهناك ميزة لكل سوق في المدينة مثلا سوق العلاوي للخضروات سوق البزازين وتجار الاقمشة وسوق الصاغة كذلك سوق الخفافين أو( النعلجية ) كما يطلق عليه أهالي المدينة القديمة, وبالعادة كانت بعض هذه الاسواق بشكل خانات كبيرة تُعرف عند اهالي المدينة بالقيصريات وكانت مشهورة في كربلاء ومعروفة ، اتذكر منها قيصرية (ابو معاش) وقيصرية الحاج (علي الوكيل) وقيصرية (رضا الصحاف) والحاج ( كاظم ) والحاج ( مهدي ) والقيصرية الاخبارية , وقيصرية ( حسن نصرالله ) وقيصرية الحاج ( حسون طابور غاسي ) و( حسان شعيب ), هذه القيصريات كان يتم منهن التسويق.
العملية كانت بالشكل التالي ، حينما تدخل الى سوق الامام الحسين مثلا كانت القيصريات الواحدة داخل الاخرى وعلى نفس الامتداد , كذلك الطابق الثاني من القيصريات كان يتم استثماره للمكاتب وما شابه ذلك ، فكان يتم الشراء والتسويق من خلال هذه الاسواق ,ومن الجدير بالذكر انه لم يكن هناك اسواق اخرى في الاحياء كما هو الحال الان , لذا كانت هذه القيصريات هي المعين الوحيد للمدينة .
مع مرور الزمن وتطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بدأت أسواق كربلاء تشهد تغيرات جذرية، فبدايةً، تأثرت الأسواق بالتطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مما جعل التسوق عبر الإنترنت أكثر شيوعًا وملاءمة للكثيرين، كما أثرت الأوضاع السياسية والأمنية على حركة التجارة في المنطقة.
وعلى الرغم من هذه التحولات، تسعى كربلاء اليوم إلى الحفاظ على هويتها التجارية وروح الأسواق القديمة، ويعمل الأهالي جاهدين على تنظيم فعاليات دينية وفلكلورية خاصة بشهر رمضان، محاولين إحياء تلك الذكريات القديمة واستعادة جاذبية الأسواق التقليدية.
ورغم تحولات الزمن وتغيراته، تبقى أسواق كربلاء شاهدة على تاريخ طويل من التجارة والثقافة، ومع حلول شهر رمضان، تتجدد الجهود لتعزيز حراك التسوق واستعادة روح الأسواق القديمة، في خطوة نحو الحفاظ على التراث وتعزيز الروابط الاجتماعية.