البحث المتقدم

البحث المتقدم

ظواهر4 / ثقافة التفاهة وتراجع المعنى في العراق.. انحدار رمزي أم إعادة تشكّل للوعي؟

0 تقييم المقال

 

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العراق، لم تعد أزمة الدولة محصورة في البُعد السياسي أو الاقتصادي فحسب، بل تجاوزته إلى عمق النسيج الثقافي والاجتماعي، حيث تسير تحولات صامتة، لكنها عميقة الأثر، تعيد رسم ملامح الشخصية الجمعية، وتُعيد إنتاج القيم والسلوكيات، في ظل ما يمكن وصفه بـ"سيولة ثقافية" باتت تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية. فبينما تنشغل النخب بخطابات السلطة وتقلبات التحالفات، يجري على الضفة الأخرى انزياح غير مسبوق في بنية الذوق العام، وتحوُّل تدريجي نحو التفاهة والسطحية، تحت وطأة الإعلام الرقمي وتأثير النماذج الاستهلاكية العابرة للحدود.

يشهد قطاع الشباب – وهو الشريحة الأكبر في المجتمع العراقي – تحوّلات لافتة في منظومة الاهتمام والانشغال، يتأرجح فيها بين قطبين متطرفين: الأول هو اللهو الافتراضي غير المنضبط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي حوّلت الواقع إلى "حالة رقمية" تقترن غالباً بالهروب من قسوة الواقع إلى عالم لا تحكمه قواعد الهوية الثقافية أو المحددات الأخلاقية. أما القطب الثاني فيتمثل في الاستغراق في الجدل السياسي المفرغ من أيّ عمق معرفي، فتنقلب ساحات النقاش إلى زوايا للتخوين والتسقيط، تُبنى مواقفها على معلومات مبتورة، ومصادر مضلّلة، ومشاعر غاضبة.

وعلى هوامش هذا الاضطراب، تنمو طبقات جديدة من "المؤثرين" الذين يستمدّون شرعيتهم من عدد المتابعين لا من عمق الفكر، اذ صعدت نماذج جديدة من صُنّاع محتوى فارغ، يتاجرون بالسطحية ويستثمرون في الترفيه الفارغ مستفيدين من غياب الرقابة القيمية وانهيار المعايير الرمزية، بل أن بعضهم صار مادةً للتداول الإعلامي والسياسي، في مفارقة تُجسّد بدقة ما وصفه المفكر الكندي (آلان دونو) في كتابه "نظام التفاهة"، حين اعتبر أن الأزمة لا تكمن في صعود التافهين، بل في قدرة المجتمع على منحهم الشرعية والتأثير.

ولا يمكن قراءة هذه التحولات بعيداً عن السياق العام لانهيار الوظيفة الرمزية للدولة، وتفكك أدوارها التقليدية في إنتاج المعنى وضبط النسق القيمي، فالمؤسسة التربوية تراجعت عن دورها، والمدرسة فقدت مركزيتها، والجامعة صارت محاطة بعزلة أكاديمية لا تتصل بالمجتمع، أما المثقف العراقي، فقد تقهقر إلى هامش المعادلة، إما بفعل الإقصاء أو بالانسحاب الطوعي، ليترك الساحة مشاهير السوشيال ميديا ومحللي الارتجال.

إن المجتمع العراقي اليوم يعيش استقطاباً حاداً بين طقوسية مفرطة تتمسك بالماضي ورمزيته، وتطرف متمرد يستلهم الحداثة بصورة مشوهة، فيما تضيع بينهما محاولات ضعيفة لبناء وسط ثقافي متزن، في هذا المشهد، تُنتج تيارات لا واعية وخطابات هجينة، تتبنى القيم الاستهلاكية، وتخلط بين الحريات الفردية والعبث، وبين النقد والتهتك، وبين التحرر والفراغ، لتتحول المساحات العامة إلى منصات لترويج التفاهة وتكريس النمطيات الفارغة.

ويرى عالم الاجتماع (أنتوني غدنز) أن القيم والمعايير تُشكّل الإطار الذي يتفاعل عبره الأفراد مع المتغيرات، لكن غياب القدرة المؤسسية على احتواء هذه المتغيرات يُفضي إلى فوضى ثقافية، تنعكس على السلوك الجمعي بصورة اختلالات معرفية وانهيار في الذوق، وهو ما نشهده بوضوح في العراق اليوم، حيث تغيب الجدالات الفكرية الرصينة لتحل محلها البرامج السياسية السطحية المشابهة لوجبات الطعام السريعة، تملأ المعدة ولا تغذّي العقل.

ولم يعد هذا التحوّل نابعاً من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية، فمنظومة المحاصصة وتقاسم النفوذ خلقت طبقة جديدة من "الأثرياء الجدد" الذين يوظّفون المال السياسي والإعلام الترفيهي لفرض نمط ثقافي استهلاكي، تغذّيه التناقضات الاجتماعية والانهيارات الأخلاقية، وسط غياب الرقابة، وتضعضع منظومة التعليم، وانحسار الخطاب الديني المستنير، وتغيب شبه كامل للسياسات الثقافية الرصينة.

إن الخروج من هذا المنعطف لا يمكن أن يتمّ عبر إصلاحات تجميلية أو حملات إعلامية وقتية، بل يتطلب رؤية استراتيجية شاملة تعيد الاعتبار للثقافة بوصفها ركيزة الأمن القومي، وتستثمر في التعليم النوعي، وتُفعّل دور المؤسسات الثقافية، وتُعيد للمثقف دوره كفاعل اجتماعي لا كمجرّد كاتب رأي، كما يتعين على الدولة أن تضع حداً للفوضى الإعلامية، وأن تضع ضوابط تحمي الذوق العام دون المساس بحرية التعبير، لأن الخطر الحقيقي لا يكمن في أن يصرخ الجهل، بل في أن يصمت العقل.

إن المجتمع الذي يعجز عن إنتاج رموزه، سيجد نفسه محكوماً برموز لا تشبهه، وإن لم يتدارك العراقيون هذه اللحظة المفصلية، فسيجدون أنفسهم بعد سنوات قليلة أمام جيل بلا مرجعية، يتحدث لغة لا يفهمها الآباء، ويتبنّى قيماً لا تنتمي إلى بيئته، ويعيش في واقع افتراضي لا حدود فيه للمعنى أو المسؤولية، ولذلك فإن استعادة البوصلة القيمية والثقافية ليست ترفاً نخبوياً، بل مهمة وطنية عاجلة لا تقل أهمية عن الإصلاح السياسي أو الاقتصادي.

نعم
هل اعجبك المقال