البحث المتقدم

البحث المتقدم

أكبر كذبة في التاريخ… "الرجل ما يعيبه الأجيبة"

0 تقييم المقال

 

منذ أن خُلق الإنسان، وهو يبحث عن قِيمته في الحياة، عن وزنه في ميزان الخلق، عن كينونته في ضمير الزمن… فكان الناس يُوزَنون بالكلمة، وتُعرف المنازل بالمواقف، وتُسطَّر السِيَرُ بالشرف، لا بالذهب والفضة، ولا بالأرصدة والعقارات. لكننا اليوم، وللأسف، نعيش في زمنٍ طغى فيه زيف المادة على صدق الإنسان، وانتشرت في المجتمعات الإسلامية، ومنها العربية، مقولات مشوّهة، كأنها سُمّ في العسل، منها تلك الكذبة العظيمة التي دُسّت في العقول حتى استقرت: "الرجل ما يعيبه الأجيبة".

 

أي كذبة هذه؟! وأي بهتان؟! إن الأجيبة — أي المال — لا يصنع رجلاً، ولا يُقيم خُلقاً، ولا يبني بيتاً عامراً بالسكينة والمودة.

كم من غنيّ يُقيم على الطغيان، يتربع على ثروة حرام، لكنه مُفلس في الأخلاق، أجوف في المروءة، ساقط في الرجولة. وكم من فقيرٍ يملك كنوزاً من المبادئ، يعيش على القناعة، ويُطعم أهله بعرق جبينه، رافع الرأس، نقيّ السريرة، عظيم النفس.

لقد غزت هذه الكذبة مجتمعاتنا بلباس الحرب الناعمة، التي لم تحمل سلاحاً يُطلق الرصاص، بل غرست فينا قيماً دخيلة، وأوهاماً قاتلة. حربٌ هجّرت الأخلاق من العقول، ونفَت الدين من المقاييس، وجعلت الرجل يُقاس بجيبه، لا بجانبه، بثروته لا بثباته، بسعره لا بقيمته.

وهنا في العراق، كم من شابٍ خُذل عند باب الزواج، لا لخللٍ في خلقه أو نقصٍ في دينه، بل لأنه لا يملك "الأجيبة".

أصبح المال شرطاً أولياً، بل أساسياً، تُقام عليه قرارات المصاهرة، وتُرفض بسببه أعظم الزيجات الممكنة. نسي الناس أو تناسوا قول نبيّ الأخلاق، رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" [رواه الترمذي].

هذا هو المقياس النبوي، لا رصيد في البنك، ولا سيارة فارهة، بل الدين والخلق، لأن بهما يُبنى البيت، وتُربّى الأجيال، ويُصان المجتمع.

 

أين نحن من هذا المبدأ النبويّ العظيم؟! لقد قلبت الحرب الناعمة سلم القيم، وأفرغت معنى الرجولة من مضامينه، حتى بات من يملك المال يُصفَّق له، ولو كان لصاً أو فاسداً، ومن لا يملك يُحتقر، ولو كان من عباد الله الصالحين.

وإذا أردنا أن نُقيم ميزان الرجولة حقاً، فلننظر إلى أعظم رجال التاريخ بعد رسول الله، إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين. رجلٌ لا تُعدّل خلقه كنوز الأرض، ولا تُقارن مهابته بعروش الملوك. عاش زاهداً، ونام على التراب، لكنه ملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً. كان باب مدينة العلم، ومنبر الحكمة، ومصباح التقوى.

علي ابن ابي طالب (علية السلام) وهو يخاطب الدنيا في نهج البلاغة، فيقول:

"يا دنيا، إليك عني! أبِكِ أُغرّ؟ أم عليك أُقِرّ؟! هيهاتَ! قد طلّقتكِ ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشُك حقير."

أهذه كلمات رجل فقير؟ لا، بل هي كلمات رجلٍ غنيّ بما لا يُشترى. غنيّ بالتقوى، بالأخلاق، بالبصيرة. لم تكن دُنيا الإمام علي (علية السلام) هدفاً، بل كانت عنده نعلاً لا يساوي شيئاً إن لم يُقِم بها حقاً أو يرفع بها ظلماً.

وفي خطبةٍ أخرى قال عليه السلام:

"ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه..."

هكذا كان قائد الأمة، يملك الحق كلّه، لكنه يعيش في بساطة الزاهدين، لا يجمع المال ليُعظَّم، بل ليُقسِم، ولا يلبس الفاخر ليتفاخر، بل ليتواضع. ولو قُدّر اليوم أن يقف الإمام بيننا، لردّ على مقولة "الرجل ما يعيبه الأجيبة" بقوله:

"قيمة كل امرئ ما يُحسن."

نعم، فالقيمة ليست في الجيب، بل في الجَنان، لا في عدد الدراهم، بل في عدد المواقف، لا في الثروة، بل في الثبات.

 

ولعلّ الأخلاق اليوم أصبحت تُباع وتُشترى، أو تُعلق على شماعة الظروف، لكن الحقيقة الصلبة التي لا يُغيرها الزمان هي أن الرجل لا يُقاس إلا بأخلاقه.

فما نفع المال إن كان صاحبه خائناً؟ وما جدوى الثروة إن كان حاملها ظالماً؟ المال وسيلة، لا غاية، أداةٌ لا تعريف، زينةٌ لا أساس.

يا من تؤمنون أن "الرجل ما يعيبه الأجيبة"، أفيقوا… فوالله، إن أشرف الناس عند الله، ليس أكثرهم مالاً، بل "أَتْقَاكُمْ"، كما قال الله تعالى.

وإن أحسن الأزواج وأفضل الآباء ليس من اشترى أكثر، بل من ربّى أحسن، ومن عاش نقي السريرة، نظيف اليد، صادق اللسان.

في نهاية الكلام أقول، لنُعيد ترتيب القيم، ولنطرد هذه الكذبة من عقولنا: "الرجل ما يعيبه الأجيبة". بل الحقيقة الساطعة، أن "الرجل يعيبه الدين الفاسد، والخلق الدنيء، والتربية المهترئة".

ولنبنِ مجتمعات تُكرم أصحاب القيم، لا أصحاب الرصيد، وتُزف بناتها لأهل الدين لا لأهل المال.

فبذا تُصلَح الدنيا… ويُرضى الله.

نعم
هل اعجبك المقال
مواضيع اخرى للناشر