عندما تتصفح كتب التاريخ واللغة ومعاجم البلدان وكتب التاريخ القديم تجد اختلافا كبيرا في أصل واشتقاق كلمة (العراق) فقسم يرى أنه من أصل أكدي سومري، ومنهم من يرى أنها من أصل ساساني فارسي، وآخر يرى أنه لفظ عربي صرف، وكل منهم يدلي بدوله وبدلائله لإثبات ما توصل إليه من نتائج بشأن لفظ (العراق) وعلى ذلك نحن سنورد مجموعة مقالات بهذا الصدد عن أصل كلمة العراق ومعناها، ونبدأ بهذا المقال وستتوالى بعده مقالات تتحدث عن أصل كلمة العراق، وغاية ذلك حتى يطلع القارئ الكريم على المقالات الاكاديمية التي اختلفت في أصل الكلمة فضلا عن الغرض من ذلك إحاطة القارئ بأكبر عدد ممكن من المقالات ذات الآراء المختلفة حتى تكون الصورة كاملة لديه عن أصل الكلمة. فإليك عزيزي القارئ هذا المقال المنشور في مجلة لغة العرب (العدد 8، الصفحة 441، لسنة 1927م).
أصل كلمة (العراق) ومعناها
بقلم: أرنست هرتسفلد- طهران
تمهيد:
تلقيت من البريد رسائلك([1])، كما تلقيت بفرح لا يوصف ولذة لا مثيل لها أجزاء لغة العرب. وأهنئك ببعثك إياها. قابل الفرق بين ديار العراق وديار فارس، في طهران علماء وأدباء وفضلاء أوفر عدداً مما من أمثالهم في وادي الفراتين، ومع ذلك لا تجد في هذه الربوع ما يماثل مجلتك.
وقد سألتني أن أعيد إليك ما كنت قد كتبته إليك سابقاً بخصوص أصل كلمة (العراق) ومعناها. ويسوءني أن أقول لك: إن الكتب اللازمة للاستشهاد بها ليست معي في ديار الغربة، بل أبقيتها في موطني برلين، على أن ما لا يُدرك كله لا يترك جله، وعلى كل حال ما أذكره لك الآن هو من حفظي ولهذا أسرد لك ما أظنه أنه المهم من أمر البحث.
أركان البحث
الحرف (ق) (القاف) الذي يذيل بعض الكلم العربية المنتقلة إليها من الفارسية قد ينوب عنه (ج) (الجيم) في بعض الأحيان، وفي البهلوية لا تختم الألفاظ بحرف علة، بل بالكاف (ك) وكان يتلفظ بها في عهد الفتوحات العربية كما يتلفظ بالكاف التركية المعروفة بصاغر كاف في عهدنا، وفي مثل هذه الحالة كان ينطق بها جيماً، وفي بعض الأحيان كان يتلفظ بها كالحرف الإفرنجي، وفي مثل هذه الحالة كانت تحول إلى قاف عربية.
في الفارسية القديمة كما في اللغة البهلوية كلمتان: (ابريك) (بالباء المثلثة الفارسية أي أعلى) و (اذريك) (أي أدنى)، وكان أبناء العصر الساساني يلفظون الكلمة الأخيرة هكذا (ايريك) (بكاف فارسية في الآخر تشبه الجيم المصرية)، ثم دخلت الكلمة في مصطلحات أسماء البلدان فكان يقال مثلاً عن ديار نيشابور (ابرشهر) أي البلاد العليا. ووجد في بعض النصوص الصغدية التي عرفت في هذه الأزمان كلمة تقابلها. ولعل الكلمة اسم مكسوع بحرفين وهما (اك) (والكاف فيها فارسية) اللذان يقابلهما في الفارسية الحديثة الألف في الآخر فيقولون في كرم: كرما (والكاف في كليهما فارسية)، وفي سرد: سردا - وتلك الكلمة المقابلة ابريك هي ايراك Erag ومعناها البلاد السفلى، وهي تعني (الجنوب) في النص الذي وجد.
والآن بقيت مسألة وهي: ما هي البلاد التي أطلق عليها اسم (الجنوب)، وهي تُسمّى على مألوف مصطلحهم بكلمة (نيمروز) في الدولة الساسانية؟
الظاهر أن خوزستان وميشان كانتا دائماً من طائفة البلاد المعروفة بـ(الجنوب) إحدى (الفاذوسفانات) أو (السبهفتات) الراجعة إلى الدولة.
و(الفاذوسفان) نقل إلى العربية بصورة (اسبهبذ) أو كما قال صاحب القاموس والعباب وتبعهما صاحب التاج (اصبهبذ) بالصاد وصرحوا جميعاً مع الأزهري أن أصل الصاد سين في الفارسية.
وعليه فإذا كان لفظ (ايراك) عنى الجنوب أو البلاد السفلى وكانت أنحاء واسط إلى خليج فارس عائدة إلى هذه الطائفة من ديار الدولة الساسانية، لم يبق شك في أن (العراق) هو معرب (ايراك)، وفي مفاتيح العلوم وتاريخ حمزة الأصبهاني، إيران، العراق ولا جرم أنها غلط والصواب ايراك ( بالكاف الفارسية) لكنهم لم يعرفوا معنى ايراك وألفوا لفظة (إيران) انسوا إلى ما ألفوه فصحفوا ايراك بإيران، ومثل هذا التصحيف أو هذا الإبدال ما لا يعد ولا يحد، كما أن إبدال الهمزة من العين أمر شائع لا يجهله أحد، وأظن أن ليس في هذا التأويل أدنى تكلف أو تعسف، وليس بيدي الآن الكتب اللازمة لأبسط لك هذه الحقيقة بسطاً شافياً بجميع التفاصيل والشواهد.
وجدت (ایراکستان) بمعنى (العراق) في (الويدانداد) البهلوي في أخبار جمشيد، وهي أخبار تذكرنا بأخبار نوح ودونك معناها:
أخبر جمشيد أن الطوفان وشيك الوقوع، فاحتاط لحفظ جميع الحيوانات ما عدا تلك التي تلجأ إلى أعالي الجبال في ديار ... التي لا طمع في ظهورها ... وفي السهول الواسعة الأكناف.
هذا هو على وجه التقريب نص (الابستا) والشرح البهلوي المعلق على السفر المذكور يؤول (أعالي الجبال) بجبال هندو كوش ويؤول (ديار ... ) بأصفهان ( ولعل ذلك لأن اصفهان عبارة عن واد تحيط به الجبال)، ومما يفيد القارئ تأويل السهول الواسعة الأكناف بكلمة .... (هنا كلمة كتبها الأستاذ باللغة البهلوية وليس لنا حروف لتصويرها (ل. ع)، ثم قال: (وهي كلمة لم يتمكن أحد من قراءتها. وأبين قراءة وأسهلها هي (ايرنستان) وهو اسم كورة واقعة بين فيروزآباد وبين خليج فارس، وهي من الديار التي فيها جبال أكثر من سائر الكور وهي عزيزة المنال، والحال من أيسر الأمور، بل من أوجب الأمور أن تقرأ تلك الكلمة في ذلك الموضع ایراکستان) (بالكاف الفارسية وليس ايراكستان إلا العراق.
أجل إن شرح الويدانداد ليس قديماً جداً، إلا أنه سند بيدنا وحجة، ومن حفظ حجة على من لن يحفظ، وقد كشفت هذا السند بنفسي استدلالاً على أن ايراك الفهلوية (والكاف في ايراك فارسية) هي العراق.
هذا الذي بقي في حفظي من أمر هذه المسألة، وحينما أتوفق لوضع يدي على كتبي أوافيك بما يكون دعامة لهذه الحقيقة.
المصدر: الفوائد والمباحث اللغوية في مجلة لغة العرب: 2/327.
([1]) يعني مدير تحرير مجلة لغة العرب.