البحث المتقدم

البحث المتقدم

١١ ذو القعدة ١٤٤٦

الوسائل الكفيلة لبلوغ الهدف

كل فرد أو مجموعة يحتاجون إلى وسائل معينة للوصول إلى أهدافهم، واختيار هذه الوسائل يمكن أن يساعد إلى حد بعيد في التعرف على أصالة وأحقية تلك المدرسة أو على زيفها وخداعها، ومن البديهي أن أولئك الذين يرون أن استخدام أي وسيلة للوصول إلى أهدافهم أمر جائز، ويجعلون مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" منهجهم الأساسي، هم بعيدون عن الأصالة والمصداقية.

أما الذين يعتمدون الوسائل المشروعة والمقدسة لتحقيق أهدافهم النبيلة، فهم يقدمون الدليل على صحة منهجهم، ويمكن التمييز بين مدّعي النبوة الصادقين والكاذبين من خلال هذا المعيار، فالأشخاص الذين لا يعترفون بأي ضابط أخلاقي أو قيد في سعيهم لتحقيق أهدافهم، ويعتبرون كل وسيلة مشروعة سواء أكانت عادلة أم غير عادلة، ويقدسون مفاهيم مثل العدالة والأمانة والصدق فقط عندما تخدم مصلحتهم ثم يتخلون عنها متى ما تعارضت مع أهدافهم، هم بلا شك ضمن مدّعي النبوة الكاذبين.

أما الأنبياء الإلهيون، فهم أولئك الذين يحترمون القيم الإنسانية حتى في أشد الظروف، فلا يحيدون عن مبادئهم حتى في أوقات الحروب والأزمات، ولا يتجاوزون حدود العدالة والتسامح مع أعدائهم عند الانتصار، كما أنهم لا يلجؤون إلى الأساليب غير الأخلاقية حتى عند احتمال الهزيمة.

وإذا قسنا هذا المعيار على حياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، ونظرنا إلى سلوكه مع الأعداء والأصدقاء، في أوقات الانتصار والشدائد، فسندرك أنه التزم بقيم أخلاقية سامية في اختيار وسائل تحقيق أهدافه. فقد كان عليه السلام يرفض استخدام أي أساليب غير إنسانية، بل كان يراعي أدق التفاصيل الأخلاقية حتى في ساحة القتال.

فعندما انتصر في فتح مكة، أصدر العفو العام عن ألدّ أعدائه، وصفح حتى عن القتلة ومجرمي الحرب. وعندما سمع أحد قادة الجيش يرفع شعارًا ينطوي على الانتقام قائلاً: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا"، عزله فورًا وأمر باستبدال هذا الشعار بقول أكثر إنسانية: "اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا".

كما أنه عندما وقف زعماء قريش مترقبين مصيرهم بين يديه بعد فتح مكة، وقال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" أجابوا: "لا نظن إلا خيرًا"، فقال لهم (صلى الله عليه وآله): "أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، اذهبوا فأنتم الطلقاء". 

وفي موقف آخر، عندما ارتكب خالد بن الوليد مجزرة بحق أسرى بني خزيمة بغير وجه حق، تألم النبي (صلى الله عليه وآله) بشدة وقال ثلاث مرات: "اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ثم أرسل الإمام علي (عليه السلام) ومعه دية القتلى وأموال لتعويض المتضررين، وأوصاه بالسعي في استرضائهم

إن مثل هذه المبادئ الإنسانية لم تُشهد حتى في أكثر الحروب حداثة، إذ سجل التاريخ الحديث أبشع مجازر الانتقام في نهايات الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث ارتكبت الجيوش المنتصرة فظائع بحق المهزومين

ويبقى السؤال: كيف استطاع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أن يجسد هذا المستوى من الرحمة والعفو في مجتمع تسوده النزعة القبلية وحب الانتقام؟ 

لقد كان التزامه بالمبادئ الأخلاقية عظيمًا لدرجة أنه رفض أي وسيلة غير مشروعة حتى لو كانت في ظاهرها تدعم قضيته، ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث عند وفاة ابنه إبراهيم، حيث تزامن ذلك مع كسوف الشمس، فظن بعض الناس أن الكسوف معجزة إلهية لموت ابن النبي، لكن النبي (صلى الله عليه وآله) صعد المنبر وخطب قائلاً: "أيها الناس، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا"، ثم نزل وأمّ المسلمين في صلاة الكسوف، إن هذه القصة تدل على حرصه الشديد على عدم استغلال الأحداث الطبيعية لصالح دعوته بطرق غير صحيحة

كما أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) شدد على أخلاقيات الحرب، حيث كان يوصي جيشه عند التوجه إلى القتال قائلاً: "سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانياً، ولا طفلًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها".

وفي رواية أخرى: "ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعًا، لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله ".

وكان التزامه بالمبادئ الأخلاقية صارمًا حتى في أحلك المواقف، ففي معركة خيبر، رفض اقتراحًا بقطع الماء عن اليهود المحاصرين في قلاعهم، وقال: "إنني لا أقطع عنهم الماء أبدًا"، كما أنه عندما جاءه راع يهودي يعرض عليه تسليم مواشي اليهود له، نهاه النبي عن ذلك وقال له إنه لا يجوز خيانة الأمانة

خاتمة 

تظهر هذه المواقف أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لم يكن يرضى باستخدام أي وسيلة غير مشروعة للوصول إلى أهدافه، حتى لو بدت في ظاهرها مفيدة لدعوته، لقد كان التزامه بالأخلاق والمبادئ ثابتًا في كل الظروف، مما يعكس جوهر رسالته التي تقوم على العدالة والرحمة والصدق في جميع المواقف.

مواضيع ذات صلة