العتبة العباسية المقدسة: بأيادٍ عراقية خالصة تصنع شباك جديد لضريح الإمام العباس(ع)
يشهد تاريخ العراق الحضاري على إبداعات معمارية وفنية لا مثيل لها، تعكس عظمة الحضارة الإسلامية وزخارفها المميزة. ومن بين تلك الإبداعات، تبرز منارتا العتبة العباسية المقدسة، الشاهدتان على روعة الفن ورسوخ الإيمان والإخلاص في نفوس خدام المولى ابي الفضل العباس عليه السلام، واللتان خضعتا لمشروع ضخم لتذهيبهما بالذهب الخالص، ليصبحا تحفة فنية فريدة من نوعها.
أسباب المشروع
لم يكن مشروع تذهيب منارتي العتبة العباسية المقدسة مجرّد رغبة جمالية، بل جاء نتيجة لدوافع إيمانية وتاريخية عميقة بسبب عوامل الزمن المتقادم عليهما، وتعرضها للعوامل الجوية والمياه الجوفية والإهمال المؤدي إِلى أَضرار كبيرة أثرتْ على القِرميد الـمزججِ الذي يَكسُوها، فَضلاً عَنِ التصدعات الكبيرة في بدن المئذنتين الشريفتين لمرقده الشريف مما يشكل خطراً عليهما، وضرورة إجراء حلٍ فوري لذلك، فقد اُنجز مشروع تقويتهما وصيانتهما بالتزامن مع مشروع تذهيبهما خلال 22 شهراً من العمل ألمستمر.
يُعد العمل الأول من نوعه في العراق، وقد حرصت الأمانة العامة للعتبة المقدسة على المحافظة على الكتابات الموجودة في الأَشكالِ المعينية المُشكِلة للنقوش على واجهتي المئذنتين سابقاً، وتمَّ إعادةُ رَسمِها كَما هي والمحافظةُ على أَبعادها وتوزيعها وقياساتها وهندستها، وبدلاً من أن تكونَ بالقرميد المُزجج أَصبحت تلبسُ حِلَّةَ الذهبِ المطعَّمِ بالمِينا.
مناقشة ترميم المنارتين
في ضوء ذلك ناقش مجلس إدارة العتبة العباسية المقدسة هذا الأمر، وأصدر قراره بالبدء بعمليات الصيانة والتقوية للمئذنتين والذي يستدعي إزالة الآجر الخارجي الذي كان يكسو بدنهما سابقاً، والذي يحتاج أصلاً إلى تبديله، لتشوه منظره، بسبب تقادمه، وتأثير العوامل الجوية عليه.
بدء مجلس الإدارة بجلسته بتأريخ 2/2/2006م، تلك الفكرة وأقرها، على أن يحافظ التذهيب الجديد على تراثية المآذن وما عليها من كتاباتٍ ونقُوشٍ جَميلة ويشمل المشروع كل الجزء الواقع تحت شرفة المؤذن، بدءً من المقرنصات، والبالغ ارتفاعه (15) متراً و(69) سنتيمتراً، بحيث يتضمن المشروع إبدال الطابوق العادي والملون والكاشي الكربلائي ببلاطات النحاس المغلفة برقائق الذهب من عيار (24)، واستبدال الطابوقات الشذرية المغلفة بالمادة الزجاجية (الشبيهة بالكاشي الكربلائي) - والتي تشكل كتابات على شكل نقوش إسلامية - ببلاطات نحاسية مغلفة بالذهب المطعم بالمينا، تتخلل الواجهات الذهبية الأخرى.
لأجل وضع قرار الأمانة العامة موضع التنفيذ العملي، بدأت مخاطباتها الإدارية مع رئاسة ديوان الوقف الشيعي الموقر، لاستحصال الموافقات الرسمية حول المشروع، وليقوم الديوان الموقر بعدها برصد المبالغ المخصصة اللازمة للمشروع (شراء الذهب، شراء النحاس، البناء، توفير البنى التحتية للمشروع) فحصلت موافقة رئيس الديوان على المشروع بتأريخ 25/3/2007م.
بعد ذلك أرسلت الأمانة العامة للعتبة المقدسة بعثة خارج البلاد، باسم بعثة (الكفيل)، لشراء (12) اثني عشر طناً من النحاس لمشروع التذهيب، بنقاوة (0.999)، وقد وصل النحاس إلى البلاد في شهر أيلول من عام 2007م، وتم شراء (108) مائة وثمانية كيلوغرامات من الذهب الخالص، عيار (24)
البدء بالمشروع
في 1/4/2008م، أعلنت الأمانة العامة للعتبة المقدسة، وفي حفلٍ رسميٍ مهيب، غطت وسائل الإعلام المختلفة، عن البدء بالمشروع، وبعد أن حصلت القناعة لدى الأمانة العامة للعتبة المقدسة بإمكانية التنفيذ محلياً، وفي 1/6/2008، تم التعاقد مع شركة عراقية لتقوم بالتنفيذ - وقد بدأت بذلك فعلياً في هذا التأريخ - وهي شركة أرض القدس الهندسية، وتم إناطة أعمال الإشراف والمتابعة خلال تنفيذ المشروع بقسم الصيانة الهندسية (الشؤون الهندسية والفنية سابقاً) في العتبة المقدسة في حينها، قبل تأسيس قسم المشاريع الهندسية عام 2009م، والذي تابع ما بدأه ذلك القسم فيما بعد.
انتدبتِ الأمانة أَمهر الخطاطينَ العراقيين لخطِ كتيبةِ المئذنتين بِخط الثُلُث المُركَّب تركيباً ثنائياً رائعاً، وتم تصنيع بلاطات النحاس التي غلفت بالذهب في ورشة خاصة أعدت لهذا الغرض، وتم التصنيع بكوادر عراقية أيضاً، وتم طلاء البلاطة من الخلف بمادة الإيبوكسي العازلة للرطوبة، أما الأَجزاء التي تحتوي على الكتابة والنقوش فتم رسمها وتنـزيلها على النحاس ليقوم الصفارون بنقشها بِطريقةٍ تم اختيارها بعد دراسة وتجاربَ كثيرة، وتم طريقة الطرق اليدوي باستخدام جلد الغزال وباستخدام كادر من جمهورية الهند متخصص بهذا الضرب من الفن وهو الجزء الوحيد المنفذ من غير العراقيين, بديلاً عن الطلاء الكهربائي للبلاطات النحاسية لأن الطريقة الأولى هي الأكثر ضمانا وعمراً من طريقة الطلاء الكهربائي، حسب رأي ذوي الخبرة والاختصاص وتقرير جهاز التقييس والسيطرة والنوعية في وزارة التخطيط.
وأرسلت نماذج للفحص للجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية في بغداد، للتأكد من مطابقتها للمواصفات المطلوبة، وكانت النتيجة إيجابية جداً.
وصلت العتبة العباسيةَ مراحل متقدمة في المشروع من خلال إكمالها صناعة 100% من الطابوق الذهبي لكلتا المنارتين و25% من الطابوق الذهبي المطعم منه بالمينا.
قد وجهت إدارة العتبة بهذا المشروع الذي يتضمن إبدال الطابوق العادي ببلاطات النحاس المغلف برقائق الذهب، واستبدال الطابوقات المغلفة بالمادة الزجاجية الملونة التي تشكل كتابات على شكل نقوش إسلامية ببلاطات نحاسية مغلفة بالمينا حيث ستتخلل الواجهات الذهبية الأخرى، ليبقى الاختلاف الفني قائماً بين منارتي الإمام الحسين (عليه السلام) وحامل لوائه أبي الفضل العباس (عليه السلام)، لما في ذلك الاختلاف - الذي حرصت إدارة العتبة على ديمومته - من اعتبارات روحية لا تخفى على من تأمل، كما أن بقائه بينهما قائماً، مهمٌ للناظر والزائر البسيط الذي يهتدي لكلٍ من العتبتين بسبب هذا التمايز الخارجي الفني بينهما.
تم طلاء مادة المينا من قبل الكوادر العراقية للمشروع، وذلك في ورشة في العتبة اُنشأت لهذا الغرض، بعد تجارب علمية قاموا بها لإيجاد مادة مناسبة للظروف الجوية، حيث استغرقت تلك الأبحاث (7) أشهر من ضمنها جلب مادتها الأولية التي تم استيرادها من الهند بعد استفسار وبحث عن منشأها.
أن الأعمال الفنية من تصنيع الطابوق النحاسي الجديد، وصهر الذهب وتقطيعه إلى قطع صغيرة لكل بلاطة والتركيب على واجهة المنارتين يتم من قبل الكوادر العراقية لشركة أرض القدس في كربلاء المقدسة، وبإشراف الكوادر الهندسية والفنية العراقية لشعبة الهندسة المدنية في قسم الشؤون الهندسية والفنية في العتبة العباسية المقدسة.
عمليتي الطرق واللصق فقط لشرائح الذهب على البلاط النحاسي تتم من قبل كادر هندي متخصص في هذا الضرب من الفن والذي يندر أن يتقنه غيرهم ولأجل ذلك تمت الاستعانة بهم، حيث يتم العمل داخل ورشة الطرق واللصق في العتبة بإشراف كوادرها العراقية في قسم الشؤون الهندسية وقسم الهدايا والنذور والموقوفات". وحول مرحلة إنجاز تركيب الطابوق على المنارتين،
تم تغليف ما ارتفاعه (4) أمتار من الذهب المطعم بالمينا للمنارة الشرقية وأقل منه بقليل للمنارة الغربية، وسيكتمل خلال اليومين القادمين بنفس الارتفاع، وهي نسبة متقدمة من مرحلة التغليف في المشروع، إذا ما اعتبرنا أن العمل وبهذه الضخامة والنوعية في استخدام المينا يُعد الأول من نوعه في العالم.
وبالنسبة للذهب المستخدم في المشروع فقد صرح في وقت سابق لموقع (الكفيل) عضو مجلس إدارة العتبة العباسية المقدسة الأستاذ علي الصفار "إن الذهب اللازم للمشروع قد تم شراءه من البنك المركزي العراقي من قبل ديوان الوقف الشيعي وتم تخصيصه للعتبة العباسية المقدسة وهو بوزن (108) (كغم[MF1] من عيار 24)".
لكن سرعة الانجاز كانت ببركة صاحب المرقد المطهر حيث بلغت نسبة الانجاز 80%، ونحن إلى الآن لم نكمل من المدة المقدرة سوى 42% تقريباً في عام 2009109
قد قطعت مراحل متقدمة في المشروع من خلال إكمالها وخلال 3 أشهر بعد بدء المشروع صناعة كامل الطابوق الذهبي لكلتا المنارتين وبعدد 3500 طابوقة تقريباً، كما انجز لحد الآن تصنيع 85% من الكاشي الذهبي المطعم بالمينا لأنه يحتاج تقنية خاصة تم التوصل إليها بعد جهود مضنية قامت به كوادر الشركة في العتبة.
فقد أعلنت فيه الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة -وبشكل رسمي – إنجاز مشروع التذهيب الذي يعد الأول من نوعه في العراق، وأعلنت عن البدء بالتوسعة المذكورة للحرم المطهر، وإعلان مشروع تجديد الشباك المبارك. حيث بدأ هذا الحفل العظيم بآياتٍ محكمات من القرآن الكريم تلاها مؤذن وشيخ مقرئي العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية الحاج مصطفى الصراف. ثم تلاها كلمة لنائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي أثنى فيها بشكل كبير على "جهود العراقيين خَدَمَة عتبات كربلاء المقدسة في إنجاز عشرات المشاريع فيها، ليُحولوها إلى مراكز إشعاع فكري وثقافي وعمراني وإبداعٍ هندسي، فضلاً عن مكانتها الروحية وعطائها للمؤمنين والأحرار في العالم أجمع، والذي لم ولن ينضب، كل ذلك بتوجيه من المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف". تلتها كلمة لرئيس ديوان الوقف الشيعي الموقر السيد صالح الحيدري، بارك فيها جهود العاملين في العتبة المقدسة على "إنجازاتهم الرائعة في هذه المشاريع الثلاثة المهمة، وما سبقها من عشرات المشاريع في شتى المجالات الهندسية والعمرانية والثقافية والخدمية والتنظيمية وحفظ أمن الزائرين وغيرها الكثير مما يضيق المقام بذكرها". فيما بيّن الأمين العام للعتبة العباسية المقدسة السيد أحمد الصافي في كلمته "أهمية إطلاق الطاقات الخلاّقة للعراقيين، وضرورة إنجازهم وريادتهم لمشاريع عملاقة، لها أهميتها في خِدمة العتبات المقدسة عموماً، والنهوض بها سريعاً، والاكتفاء الذاتي قدر الإمكان بما يحققه أبناء العراق في خِدمتهم لها، حتى يعوضوا عقود، بل قرون الإهمال والعدوان عليها من قبل الطغاة وغيرهم". وتخلل الكلمات فواصل أدبية وشعرية ألقاها رئيس لجنة الحفل الأستاذ علي الصفار، ليُختتم الجزء الأول منه، بإعلان الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة عن البدء بمشروع توسعة حرم أبي الفضل العباس عليه السلام، بتسقيف صحنه الشريف، لتكون هذه حصيلة جهد عراقي دام سنتين من التخطيط والمثابرة والعمل المضني من قبل الكوادر الفنية والهندسية في العتبة المقدسة. وتـُليت يعد الإعلان كلمة المهندس حميد مجيد، مصمم المشروع، ليتحدث عنه تفصيلاً، ولتختتم كلمته بإزاحة الستارة عن صورة مجسمة بالرسم الثلاثي الأبعاد للمشروع، أزاحها الأستاذ عبد الهادي عبد الجليل آخر مشرف للعتبة العباسية المقدسة قبل تحوّلها إلى أمانةٍ عامة بالقانون 19 لعام 2005م، حيث تم تعيين المُشرف المذكور من قبل اللجنة العليا لإدارة العتبات المطهرة في كربلاء المقدسة.
حيث تم افتتاحه في الذكرى العطرة لمولد المولى ابي الفضل العباس عليه السلام الموافق 4 شعبان المعظم 1431_المصادف 2010-17 تشرين الأول.
حفلٌ كان أقل ما يُوصف به إنه ادخل البهجة والسرور على قلوب المؤمنين، مع ما لعظمة ذلك من شان عند الله، وحدثٌ لا نبالغ إن وصفناه بالعالمية، أخبارٌ حملت إلى محبي الخير في العالم كله، باختلاف مذاهبهم وأجناسهم، وإلى المسلمين خاصة، هذه الفرحة العظيمة، وأشخصت أبصارهم -وعلى الأخص منهم العراقيين -إلى أملٍ مرتقب، وغدٍ يطمحون فيه، برجوع البسمة إلى شفاه الأغلب منهم، بعد أن سرقها الطغاة والعتاة على مر التأريخ