البحث المتقدم

البحث المتقدم

٢٤ جمادى الآخرة ١٤٤٦

المرجعية الدينية العليا تستجيب لنداء الإغاثة وتدعم نازحي المحافظات المنكوبة في عام 2014

وسط عتمة الليل الموحش الذي خيّم على ربوع العراق، وبين صرخات أطفالٍ يبحثون عن دفء الأمان في العراء، ودموع أمهات فقدن بيوتهن تحت وطأة الإرهاب الأسود، سطع في الأفق نورٌ من مدينة العلم والقداسة؛ نورٌ ينبثق من عتبات النجف الأشرف، حيث تلامس الكفوف الرحيمة آلام الجرحى والمستضعفين، وتضمّد جراح المظلومين هناك، وحيث تتعالى أصوات الضمير الإنساني وتتسامى نداءات التضحية، تجلّت المرجعية الدينية العليا بمواقفها الشجاعة التي لم تكن مجرّد كلمات منبرية، بل كانت أفعالًا تخطّت الحدود، لتصل إلى المخيمات التي كانت تختزل فيها معاناة آلاف الأسر النازحة.

ومن عمق الحكمة التي يستمدها المرجع الأعلى من تراث أهل البيت (عليهم السلام)، جاءت تلك الكفوف البيضاء تمتدّ بالخير والعطاء لتخفف من قسوة الظروف، وتسقي بذور الأمل في قلوب من أرهقتهم الحروب، إذ كانت تلك المبادرات الإنسانية جسرًا يعبر عليه النازحون من ظلمات القهر إلى ضوء الكرامة، إذ لم تكتفِ المرجعية بإطلاق النداءات، بل كانت السباقة لتوفير الغذاء، والمأوى، والعلاج، لتعيد رسم ملامح الحياة في نفوسٍ كادت تتهاوى تحت وطأة اليأس.

هكذا، وفي لحظة تاريخية فارقة، أثبتت النجف الأشرف أنها ليست فقط منارة للعلم والهداية، بل أيضًا ملاذًا للرحمة والإنسانية، إذ تباركت أياديها البيضاء بحملات الإغاثة التي لم تُفرّق بين دينٍ أو طائفة، بل وضعت الإنسان في مقدّمة أولوياتها، في رسالةٍ خالدةٍ تقول: "إن في العطاء حياة، وفي النجف ملاذٌ لكل من أرهقته أنياب الإرهاب".

في لحظات حالكة من تاريخ العراق، وبينما كانت الأراضي تُحرق وتُدمر تحت وطأة إرهاب تنظيم داعش، ظهرت خلية إغاثة النازحين التابعة لمكتب المرجع الديني الأعلى سماحة السيّد عليّ السيستانيّ (دام ظله) كمنارة مضيئة تقدّم العون لأبناء الشعب الذين هربوا من جحيم المعارك.

 لم تكن هذه الجهود مجرد مساعدات طارئة، بل كانت تجسيدًا حيًّا للروح الإنسانية التي تجسدها النجف الأشرف، فلم تميّز بين طائفة أو منطقة، بل كانت يد العطاء تمتد لكلّ من نزح وهرب من ويلات الإرهاب.

 

الجهود الإغاثية في المناطق المحرّرة

   في تصريح خاص، تحدث الشيخ باسم النصراوي عضو خلية إغاثة النازحين لمراسل موقع فتوى الدفاع الكفائي: "وصل وفد خلية إغاثة النازحين يوم الخميس ٢٠١٦/٥/١٢ إلى محافظة الأنبار ومرورًا بمدينة الرمادي المنكوبة جراء العمليات الأخيرة لتحريرها من جرذان داعش فرست قافلة المساعدات، في ناحية الوفاء وهي تبعد عن مدينة الرمادي قرابة أكثر من ٧٠ كيلو متر وبالقرب من قضاء حديثة وهيت حيث رافقت الخلية سلال غذائية تمّ توزيعها على المخيم الذي تقطن فيه قرابة أكثر من ١٥٠٠ عائلة منكوبة ونازحة لهذا المخيم من قضاء هيت وكبيسة والفلوجة، فتمّ توزيع السلال الغذائية على جميع العوائل النازحة.

وتابع: وكذلك تمّ إعطاء بعض المنح المالية للأكثر تضرّرًا واحتياجًا وبالخصوص الأيتام الذين يحتاجون إلى رعاية بشكل مستمر، وأيضًا تمّ توزيع أجهزة طبية لفحص السكر على المرضى.

وعن ردود أفعال النازحين قال النصراوي: جميع النازحين أشادوا بهذه الوقفة المشرفة من قبل المرجعية الدينية العليا التي لا تثمّن بثمن ولا سيما إيصال هذه المساعدات على الرغم من بعد المسافة والوضع الأمني غير المستقر في تلك المناطق، وإنّ السيّد علي السيستانيّ (دام ظله الوارف) مغيث لكلّ العراقيين بجميع أطيافهم، فحملونا سلامهم وتحياتهم لسماحة السيّد (دام ظله) حيث كانت هذه الزيارة بالنسبة لهم كالحجر في أفواه المنادين بالطائفية.

مشاركة العتبة العباسة المقدسة في تقديم المساعدات

وبحسب ما تناقلته وكالات إعلامية وتابعته وكالة الفتوى، قام مكتب المرجعية الدينية العليا بالتعاون مع العتبة العباسية المقدّسة من إغاثة للنازحين الفلوجيين:

شاركت العتبة العباسية المقدّسة فريق لجنة خليّة إغاثة النازحين التابعة لمكتب المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ السيستانيّ (دام ظله الوارف) بتقديم المساعدات للعوائل التي نزحت من الفلوجة واستوطنت المخيمات في مدينة العامرية جرّاء معارك التحرير التي يخوضها حاليًا أبناء القوات الأمنية ومقاتلو ومتطوّعو فتوى الدفاع المقدّس، ليبعثوا رسالة مفادها: يدٌ تُقاتل وتحرّر الأرض وأخرى تقدّم المساعدات للعوائل الفارة من جحيم عصابات داعش الإرهابية.

قافلة المساعدات هذه هي جزء من حملات عديدة سبقتها شملت جميع العوائل النازحة ومقاتلي القوات الأمنية في جميع المحافظات، إذ تحرّكت قافلة خلية الإغاثة التابعة لمكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السيّد السيستانيّ في النجف الأشرف يُرافقها وفد من العتبة العباسية المقدّسة وفرقة العباس (ع) القتالية، قاصدة العوائل الفارّة من قبضة عصابات داعش الإرهابية في مناطق الصقلاوية والفلوجة والكرمة، فقد استوطنت تلك العوائل مخيمات مركز عامرية الفلوجة التي تضمّ أكثر من (۲,۰۰۰) عائلة.

والمساعدات تنوّعت بين توزيع سلّة غذائية وكذلك مادّة الثلج من معمل العتبة المقدّسة الذي كانت حاجتهم إليه ماسة لشدّة الحرّ، كذلك تم إعطاء بعض المنح المالية للعوائل الأكثر ضررًا من أجل شراء بعض الحاجيات من ملابس ومراوح هوائية، كما باشرت طبابة فرقة العباس(ع) القتالية بحملة معالجة العوائل النازحة وتقديم المساعدات الطبية لهم.

وبحسب كلام القائمين على هذه القافلة فإنها كان لها الأثر الكبير في نفوس تلك العوائل إذ كان في مخيلتهم السابقة أن المذهب الآخر لا يقل خطرا عن داعش، إلا أن القافلة والقائمين عليها عكسوا الصورة الصحيحة للمذهب الحق وهذا ما جعل الأهالي تطمئن قلوبهم لهم ويبادلونهم الشعور نفسه.

توسيع نطاق الإغاثة إلى المناطق الحدودية

لم تتوقف جهود خلية الإغاثة عند المحافظات القريبة، بل وصلت إلى المناطق الحدودية مع سوريا، في إحدى المبادرات، قامت اللجنة بزيارة قرية (البو حيات) بالقرب من منفذ الوليد الحدودي، إذ قطعت القافلة مسافة 800 كيلومتر من النجف لتقديم المساعدات.

وزّعت اللجنة 500 سلة غذائية مضاعفة وبطانيات وملابس للأطفال على 250 عائلة كانت تعيش في ظروف قاسية.

وعن هذه المبادرة، قال السيّد شهيد الموسوي، رئيس اللجنة: "رغم بُعد المسافة وخطورة الطريق، فقد تمكّنا من الوصول إلى هذه العوائل بعد إزالة القوات الأمنية للعبوات الناسفة التي زرعتها عصابات داعش. وبعد التوزيع، قُصفت القرية بقذائف الهاون، إلا أن أهالي القرية عبروا عن شكرهم الكبير للمرجعية الدينية التي لم تنسهم في محنتهم".

رسالة أمل تتجاوز الطائفية

في تلك الرحلات الإغاثية، كان أحد المسنّين يعبر عن مشاعر الامتنان قائلاً: "نحن هربنا من جهنّم قاصدين باب الرحمة، وقد سمعنا كلام السيّد السيستانيّ عندما أوصى القوات الأمنية بالحفاظ على المدنيين وأنهم لا ذنب لهم، لذلك خرجنا على الرغم من التهديدات والتعذيب الذي شاهدناه من الدواعش إلا أننا نثق بكم وبأخلاقكم الإسلامية، فشكر الله سعيكم لما قدمتموه لنا".

وبهذه الجهود أثبتت المرجعية الدينية العليا أن رسالتها تتجاوز الطائفية، فهي رسالة إنسانية نبيلة تهدف إلى رفع معاناة الشعب العراقي بكل أطيافه، وتقديم العون لمن هُجّروا وأرهقتهم نيران الحرب والإرهاب.

 

دور مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات

أبرز ما ميّز هذه الجهود هو الدعم الكبير الذي قدمته العتبة العباسية المقدّسة، سواء من الناحية المادية أو المعنوية، وتوثيق هذه المساعي عبر مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات، وفي إطار الجهود المبذولة للحفاظ على تاريخ العراق وتوثيق بطولات الشعب العراقي في مواجهة الإرهاب.

 قام قسم الوافي للتوثيق والدراسات التابع للعتبة العباسية المقدّسة بدورٍ محوري في توثيق الفتوى الدفاع الكفائي التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف عام 2014.

لقد عمل القسم بجدّ على جمع كلّ التفاصيل الدقيقة المتعلّقة بهذه المرحلة الحرجة، بما في ذلك التضحيات البطولية للمجاهدين، والدعم اللوجستي للمقاتلين، والجهود الاجتماعية والإنسانية التي قادتها العتبات المقدسة.

في عام 2020م، أصدر القسم موسوعة متكاملة تُعدّ الأولى من نوعها، ضمَّت وثائق وصور وشهادات حية، موثّقة بأدق التفاصيل عن مجريات الأحداث التي رافقت الفتوى الدفاع الكفائيّ، هذه الموسوعة لم تكتفِ بتسجيل التاريخ فحسب، بل سعت أيضًا إلى نقل الحقيقة بحيادية، لتكون شاهدًا صادقًا على تلك المرحلة المليئة بالتحديات.

ومع استمرار العمل على تطوير وتوسيع نطاق هذه الموسوعة، شهدت النسخة المُحدَّثة في عام 2023م نقلة نوعية، إذ وصلت إلى 80 مجلّدًا، تغطي جميع الجوانب المرتبطة بالفتوى الدفاع والجهود الوطنية في الدفاع عن الأرض والعِرض، ولا تقتصر جهود قسم الوافي على جمع الوثائق فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تصحيح الروايات المغلوطة التي قد تُشوِّه الحقائق، معتمدًا في ذلك على المصادر الرسمية والشهادات الحية، ليكون مرجعًا موثوقًا للأجيال القادمة.

إنّ هذا الجهد الدؤوب يعكس التزام العتبة العباسية المقدّسة بتوثيق الأحداث ونقل الحقيقة بأمانة، ويؤكّد على أهمية الحفاظ على الذاكرة الوطنية وصيانة تاريخ العراق الذي كتبته دماء الشهداء والمجاهدين بأسمى معاني التضحية والولاء للوطن.

 

مواضيع ذات صلة