المرجعية الدينية العليا، والعتبة العباسية المقدسة (جهود إنسانية، وتوثيق تاريخي)
يشكل طريق بيجي - حديثة واحدًا من أهم الطرق الاستراتيجية التي كانت تستعملها عناصر تنظيم داعش الإرهابي للتنقل بين محافظتي صلاح الدين والأنبار بامتداده عبر الصحراء القاحلة.
لعب هذا الطريق دورًا حاسمًا في تيسير تنقل الإرهابيين ونقل الإمدادات بين المناطق التي سيطروا عليها، ما جعله بمثابة خنجر في خاصرة المدينتين، وتهديدًا مستمرًا لأمن المناطق المجاورة، ومن هذا المنطلق كان تأمين هذا الطريق وتطهيره ضرورة حيوية لضمان استقرار المناطق المحرّرة والقضاء على أية محاولات للتسلل أو الهجمات التي تهدّد استقرار المدن.
بعد تحرير عدة مدن رئيسية في الأنبار، بما في ذلك الفلوجة والرمادي وهيت والرطبة، وجّهت القيادات العسكرية العراقية أنظارها نحو تأمين الطرق الحيوية التي تربط المدن بعضها ببعض، ووضعت تطهير طريق بيجي -حديثة أحد الأهداف الاستراتيجية الأخيرة في إطار الحملة الواسعة لتحرير العراق من قبضة الإرهاب.
التحضيرات لانطلاق معركة تطهير طريق بيجي -حديثة
انطلقت الاستعدادات لمعركة التطهير بعد أن أكملت القوات العراقية تحضيراتها اللوجستية على أعلى مستوى، وبدعم من العشائر العراقية المسلحة التي وقفت إلى جانب الجيش، إضافة إلى الدعم الجوي الذي وفّره طيران الجيش العراقي وطيران التحالف الدولي الذي استهدف مواقع الإرهابيين على طول الطريق. كانت القيادة العامة بقيادة اللواء 27 التابع للفرقة السابعة، تحت إشراف اللواء الركن قاسم محمد صالح، تعمل على جمع وتحليل المعلومات الميدانية لضمان دقة العمليات وحصر الأهداف.
وقد كان الدعم الجوي من طيران الجيش العراقي وطيران التحالف الدولي من العناصر الحاسمة في هذه العملية، إذ أسهم في تدمير التحصينات وتقطيع خطوط الإمداد للتنظيم، مما أضعف قدراته القتالية وساعد في تسهيل تقدم القوات العراقية.
انطلاق المعركة وتكتيكات الهجوم
في صباح يوم 13 تشرين الأول 2016م، أطلقت القوات العراقية عملياتها العسكرية الواسعة لتطهير طريق بيجي -حديثة، مستهدفة تنظيم داعش بشكل مباشر على طول الطريق. تركزت الاستراتيجية العسكرية على تنفيذ تطويق محكم للعدو، فقد شنت القوات هجومًا متزامنًا من بيجي باتجاه حديثة، ومن حديثة باتجاه بيجي، ما جعل التنظيم محصورًا بين قوتين متقدمتيْن ومتزامنتيْن، وعمل على إغلاق أي طرق فرار أمام عناصره.
تمكّنت القوات العراقية، بتنسيق دقيق مع قيادة عمليات صلاح الدين وقيادة عمليات الجزيرة، من ضرب الأهداف بدقة عالية؛ إذ جمعت قواتنا كمية كبيرة من المعلومات الاستخباراتية المحدّثة، التي حدّدت مواقع العدو وتوزيع قواته على طول الطريق، واستنادًا إلى هذه المعلومات، قامت الوحدات المهاجمة بإطلاق سلسلة من الضربات المتواصلة، ممّا أحدث حالة من الارتباك والانهيار في صفوف التنظيم.
بفضل هذه الخطط المحكمة، كانت خطوات القوات العراقية سريعة وواثقة، واستطاعت أن تنفذ عمليات التفتيش والتطهير على طول الطريق، مسجلة تقدّمًا ملحوظًا في وقت قصير، ومع حلول اليوم الثاني من المعركة، تمكّنت القوات من السيطرة على نقاط استراتيجية مهمة على طول الطريق، بما في ذلك تقاطع السكرانات الذي يشكل نقطة محورية.
التحديات الميدانية وتجاوزها
تخللت المعركة مواجهات عنيفة بسبب الطبيعة الصحراوية القاسية للطريق، التي كانت تشكل تحديًا كبيرًا للقوات المحرِّرة، وعلى الرغم من استعداد القوات واستعمال تكتيكات متقدّمة، واجهت أيضًا الكثير من المتفجرات المزروعة والعبوات الناسفة التي وضعها التنظيم بهدف إعاقة التقدم.
وفي هذا السياق، لعب الجهد الهندسي دورًا حاسمًا في تفكيك العبوات الناسفة وفتح الطرق، إذ رافقت وحدات الهندسة العسكرية القوات المتقدّمة وقامت بإزالة المتفجرات وتنظيف الطريق، ممّا مكّن القوات من التقدّم بأمان وثبات، وكما عملت القوات على إنشاء سواتر ترابية على طول الطريق لمنع أي محاولات من العناصر الإرهابية للوصول إلى النقاط المحرّرة باستعمال العربات المفخّخة، وهي خطوة استراتيجية أسهمت في تأمين الطريق ومنع أي محاولات مستقبلية للعدو.
الانتصار والسيطرة الكاملة على الطريق
بعد ثلاثة أيام من المعارك الضارية، تمكّنت القوات العراقية من فرض سيطرتها الكاملة على الطريق وتأمينه بشكل كامل، معلنة بذلك تحقيق أحد أهم أهدافها الاستراتيجية في محافظة صلاح الدين، وبدأت القوات بعملية تثبيت النقاط على طول الطريق لضمان استمرارية الأمن، ومنع أي محاولات تسلّل أو عودة لعناصر التنظيم.
في 18 تشرين الأول 2016م، وبعد خمسة أيام من العمل المستمر، أعلنت القوات العراقية رسميًا تحرير طريق بيجي -حديثة بشكل كامل، ليكون تحت سيطرة الدولة العراقية بعد سنوات من احتلاله من قبل التنظيم.
هذا الإنجاز لم يقتصر على تطهير الطريق فحسب، بل شمل أيضًا تحقيق سيطرة عميقة على الصحراء المحيطة بالطريق، وقطع جميع الإمدادات التي كانت تصل للعناصر الإرهابية.
دعم القوة الجوية والتحالف الدولي
لعبت القوة الجوية العراقية وطيران التحالف الدولي دورًا فاعلًا في إنجاح هذه المعركة، إذ تمّ توجيه ضربات مكثّفة لأوكار داعش ومواقع تمركزه على طول الطريق، كان لهذا التنسيق الفعّال بين القوات البرية والطيران دورًا كبيرًا في تدمير العدو وتسهيل التقدّم على الأرض، لا سيما وأنّ الطريق كان محاطًا بمناطق صحراوية واسعة تشكل تحديًا كبيرًا للقوات البرية.
كما ساهم التنسيق المتواصل في قاعدة الأسد ومراقبة ساحة المعركة من خلال الكاميرات في تعزيز دقة العمليات وتحديد الأهداف بدقة، ممّا أدّى إلى إضعاف مقاومة التنظيم وتسهيل تحقيق النصر في وقت قياسي.
الأثر الاستراتيجي لمعركة تطهير طريق بيجي -حديثة
يعد تحرير طريق بيجي -حديثة خطوة حاسمة نحو استعادة الأمن والاستقرار في المناطق الغربية من العراق، إذ تمكّنت الدولة العراقية من استعادة السيطرة على طريق حيوي كان يستخدمه التنظيم لنقل العناصر والمعدّات بين معاقله، وأتاح هذا التحرير المجال أمام أهالي تلك المناطق للتنقل بحرية وأمان، وأعطى الدولة القدرة على تعزيز الأمن في المناطق المحيطة بالطريق عن طريق نشر القوات وتثبيت نقاط الحراسة.
كما كانت لهذه المعركة نتائج إيجابية واضحة في رفع الروح المعنوية للقوات العراقية والمواطنين على حدّ سواء، إذ أظهرت عزم الدولة العراقية على تحرير كل شبر من أراضيها مهما كانت التحديات، وأكدت قدرتها على مواجهة التنظيمات الإرهابية بقوة وكفاءة.
توسيع نطاق السيطرة وتعزيز الأمن
بعد تحرير الطريق، بدأت القوات العراقية باتخاذ خطوات إضافية لتعزيز الأمن في المنطقة المحيطة بالطريق، إذ تمّ نشر وحدات عسكرية في نقاط حراسة ثابتة على طول الطريق، بمتوسط 27 نقطة حراسة تديرها قوات الجيش العراقي بالتعاون مع قوات الحشد، وتمّ تأمين هذه النقاط بتجهيزات إضافية للحماية من الهجمات المحتملة وتوفير الدعم المستمر.
وأنشأت القوات العراقية أيضًا ساترًا ترابيًا بارتفاع مترين على طول الطريق، ممّا يزيد من حماية النقاط العسكرية ويقلل من إمكانية تعرّض القوات لهجمات مباغتة من قبل العناصر الإرهابية المتبقية.
كانت معركة تطهير طريق بيجي -حديثة درسًا قاسيًا لتنظيم داعش الإرهابي، فقد أثبتت القوات العراقية في هذه المعركة أنّها قادرة على تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بالعدو، حتى في أصعب الظروف الميدانية. هذا الطريق الذي ظلّ لسنوات تحت سيطرة التنظيم بات اليوم محرّرًا وآمنًا بفضل جهود القوات العراقية وتضحياتهم.
لقد أعاد تحرير هذا الطريق الأمل لأهالي المنطقة الذين أصبح بإمكانهم التنقل بحرية وأمان دون خوف من الهجمات الإرهابية، وفتحت أمامهم فرصًا جديدة للتنمية والاستقرار، ليصبح الطريق مجدّدًا شريانًا حيويًّا يربط مناطق العراق ويعزّز وحدة أراضيه.
التوثيق المعارك من قبل "مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات"
أسهمت مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات التابعة للعتبة العباسية المقدّسة إسهاما كبيرا في توثيق فتوى الدفاع الكفائي التي أطلقتها المرجعية العليا عام 2014م، والتي كانت نقطة تحوّل في مواجهة تنظيم داعش.
ركزت المؤسسة على جمع وثائق الفتوى وخطابات المرجعية، وتوثيق المعارك التي خاضها المتطوّعون في الدفاع عن الوطن، إضافةً إلى رصد دور العشائر والمجتمع العراقي في دعم المعركة.
أصدرت المؤسسة "موسوعة الدفاع الكفائي"، وهي موسوعة تضمّ 80 مجلدًا من الوثائق والتحليلات والشهادات الميدانية، لتوثيق جوانب المعركة.
ولم يقتصر التوثيق على النصوص المكتوبة فقط؛ بل شمل التوثيق السمعي والبصري، ما عزّز قيمة العمل وأضفى بُعدًا إنسانيًا إلى جانب بطولات المقاتلين.
كما ساهمت المؤسسة في التصدي للحملات الإعلامية التي حاولت تشويه الحقائق عبر نشر الوثائق الأصلية، ممّا عزّز المصداقية وحمى الذاكرة الوطنية، وبجهودها أصبحت مؤسسة الوافي حصنًا للحقائق التاريخية وشاهدًا على الدور الوطنيّ في الحفاظ على وحدة العراق.