تعزيزاً للعلاقات الثقافية والدينية العتبة العباسية مستمرة بأستقبال الزيارات الرسمية
حين تشتد المحن وتضيق السبل، تجد المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف متمثلة بسماحة السيّد عليّ الحسينيّ السيستانيّ (دام ظلّه) سراجًا ينير الدروب المظلمة لأبناء الشعب العراقيّ، وفي وقت عصيب من تاريخ العراق الحديث، ومع توالي الأزمات الأمنية والإنسانية، كانت المرجعية صمام الأمان الذي توحّدت تحت ظلّه مختلف الطوائف والأعراق.
كما اعتادت المرجعية أن تلبي نداء المستضعفين، فتسارع إلى إغاثة النازحين من شمال العراق إلى جنوبه، مؤكّدة أنّ العمل الإنسانيّ يسمو فوق كلّ الاعتبارات الدينية والعرقية، ليجمع شمل الأمّة على قاسم مشترك واحد هو الأخوة الإنسانية. وكانت الرحلة الأولى لهذا الجهد النبيل إلى شمال العراق، إذ نادت العوائل النازحة من قضاء سنجار بنداء الإغاثة، وكأنما لبت المرجعية نداء السماء، وبدأت رحلتها الإنسانية العظيمة، محملة بالمساعدات والمعونات التي طمأنت قلوب المهجرين وأعادت لهم الأمل.
بداية المسيرة لإغاثة نازحي سنجار
في عام 2015م، عندما بدأت موجات النزوح تجتاح مناطق شمال العراق جراء التهجير القسري والصراعات المسلحة، لم تترك المرجعية العليا نداءات العوائل النازحة دون استجابة. فتشكلت لجنة الإغاثة التابعة لمكتب السيّد السيستانيّ (دام ظلّه)، لتبدأ أولى رحلاتها إلى مخيمات قضاء سنجار، إذ نزحت مئات العائلات، ومعظمهم من أبناء الطائفة الأيزيدية الذين هُجّروا من ديارهم بفعل الهجمات الشرسة.
في آذار 2015م، كانت الزيارة الأولى لتلك المخيمات، فقد اطلع الوفد على أحوال النازحين وقدم لهم المساعدات الضرورية من مواد غذائية وملابس واحتياجات أساسية. وشملت الجولة أيضًا زيارة معبد لالش، إذ استُقبل الوفد بحفاوة كبيرة من لدن رجال الدين الأيزيديين، وعلى رأسهم ممثل أمير الطائفة الأيزيدية، الأستاذ عصمت تحسين بك، الذي أشاد بهذه الزيارة قائلًا: "برغم المحنة الكبيرة التي مررنا بها، إلا أن زيارة المرجعية العليا خففت من معاناتنا وأكدت لنا أن رابط الأخوة بين العراقيين قوي".
امتداد الرعاية إلى النازحين المسيحيين
في الشهر نفسه، توجه وفد لجنة الإغاثة إلى محافظة أربيل، وتحديدًا إلى منطقة عينكاوه، إذ استقرت العديد من العوائل المسيحية النازحة. وكان الهدف من الزيارة تقديم الدعم المادي والمعنوي لتلك العوائل، فقد تم توزيع (سلات غذائية) لأكثر من (2000) عائلة كانت تعاني من نقص حاد في المواد الأساسية. كما شملت الزيارة المرور بكنيسة أم النور والكنيسة الأبرشية، ليجدد الوفد التزام المرجعية العليا برعاية جميع أبناء العراق، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية.
توسيع نطاق الإغاثة
لم تقتصر جهود المرجعية العليا على النازحين الأيزيديين والمسيحيين فقط، بل شملت جميع المكونات العراقية. ففي شهر كانون الثاني 2016م، قامت لجنة الإغاثة بزيارة محافظة السليمانية لتقديم المساعدات إلى أكثر من (2000) عائلة من مختلف الطوائف. وتمّ توزيع الملابس والمواد الغذائية على العوائل المتضرّرة، لاسيما مع قدوم فصل الشتاء القارس الذي زاد من معاناتهم.
وفي زيارة أخرى، توجهت لجنة الإغاثة إلى محافظة دهوك، إذ تمّ تقديم المساعدات إلى (4000) عائلة نازحة من مناطق سهل نينوى، غالبيتهم من الشبك والديانة الأيزيدية. لم تقتصر المساعدات على الغذاء فقط، بل شملت منحًا مالية للعوائل الأكثر حاجة، إضافة إلى توفير مستلزمات الشتاء والخيم لبعض العائلات الكبيرة.
توثيق التلاحم الوطني
خلال زيارات لجنة الإغاثة لمخيمات النازحين، كانت كلمات العرفان والشكر تنهال من النازحين الذين عبروا عن امتنانهم للمرجعية الدينية العليا. ففي إحدى الزيارات إلى مخيم بردرش في محافظة أربيل، قال بعض النازحين: "رؤيتكم أذهبت عنا الأذى، والمرجعية دائمًا سبّاقة في متابعة أمورنا". هذه الكلمات تحمل في طياتها رمزية عميقة للتلاحم الوطني الذي تسعى المرجعية لتعزيزه، رغم المحن.
دعم العوائل السورية اللاجئة
لم تتوقف مساعي المرجعية العليا عند حدود العراق، بل شملت جهودها الإنسانية العوائل السورية اللاجئة في إقليم كردستان. ففي آذار 2016م، استجابت لجنة الإغاثة لنداء العائلات السورية في مخيم (عربت) بمحافظة السليمانية، بعد أن عانت من نقص حاد في المواد الأساسية نتيجة غياب الدعم الدولي لمدّة طويلة. تمّ توزيع (سلات غذائية) لأكثر من (2000) عائلة، كما تمّ تقديم منح مالية للعائلات التي لديها أفراد يعانون من أمراض مزمنة.
ختام الجهد الإنساني
المرجعية العليا في النجف الأشرف أثبتت أنها تمثل الأب الروحي لجميع العراقيين، بمختلف أطيافهم وأعراقهم. كانت جهودها الإنسانية جسرًا للتواصل بين مختلف مكونات الشعب العراقي، وأسهمت في تخفيف معاناة آلاف العوائل التي شردت بها الحروب والصراعات، وما تزال كلمات النازحين تتردد في الأذهان: "لولا المرجعية لكنا في خبر كان"، لتكون شاهدة على الدور الكبير الذي لعبته المرجعية العليا في حفظ النسيج الاجتماعي للعراق وتعزيز وحدته الوطنية.
جهود مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات
في موازاة الجهود الإنسانية، لم تغفل العتبة العباسية المقدّسة عن أهمية توثيق هذه المرحلة الحساسة من تاريخ العراق، وهنا برز الدور البارز لـمؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات التابعة للعتبة العباسية، التي أخذت على عاتقها توثيق كافة جوانب فتوى الدفاع الكفائي منذ صدورها وحتى الانتصارات وتحرير الأراضي من الإرهاب.
توثيق فتوى الدفاع الكفائي
منذ صدور الفتوى المباركة في 13 يونيو 2014م، بدأت مؤسسة الوافي بتوثيق الأحداث بشكل تفصيلي، سواء في الجانب العسكري أو الإنساني أو الاجتماعي، فقد وثقت المؤسسة كافة التحركات العسكرية، والعمليات القتالية التي خاضتها القوات العراقية بمختلف صنوفها من الجيش والشرطة والحشد الشعبي، إضافة إلى الدور المحوري الذي لعبته المرجعية العليا في دعم هذه الجهود وتوجيهها.
توثيق الانتصارات وتحرير الأراضي
من بين أبرز جهود المؤسسة، توثيق لحظات الانتصارات وتحرير المدن العراقية من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، إذ تمّ توثيق مشاهد تحرير المدن والقرى العراقية، بدءًا من معارك تحرير تكريت، مرورًا بتحرير الفلوجة والموصل، وصولًا إلى اللحظات الحاسمة التي أُعلنَ فيها النصر النهائي على داعش.
توثيق الشهادات الحية
ولم تقتصر جهود المؤسسة على توثيق الأحداث من الناحية العسكرية فحسب، بل اهتمت أيضًا بتوثيق الشهادات الحية للمقاتلين الذين استجابوا لنداء الفتوى، ولعوائل الشهداء والجرحى الذين قدموا أغلى ما لديهم في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض، وكما أصدرت العتبة العباسية عدة مجلدات تحتوي على تفاصيل دقيقة للأحداث التي رافقت فتوى الدفاع الكفائي، والبطولات التي سُطرت خلالها.
أثر توثيق الفتوى في حفظ الذاكرة الوطنية
يُعد توثيق الأحداث المتعلّقة بفتوى الدفاع الكفائي، كما تقوم به مؤسسة الوافي، من الأعمال التي تُسهم بشكل كبير في حفظ الذاكرة الوطنية من التحريف أو الضياع، فالأجيال القادمة ستتعرف على حجم التضحيات والبطولات التي قدّمها أبناء العراق بفضل هذا التوثيق، وقد بلغ عدد المجلدات التي أصدرتها المؤسسة حتى الآن 80 مجلدًا، تغطي جميع جوانب الصراع مع تنظيم داعش، والجهود المبذولة لتحرير الأرض وحفظ كرامة الإنسان.
لقد كانت استجابة المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف لمحنة النازحين في شمال العراق، وما صاحبها من جهود إغاثية وإنسانية، أنموذجًا حيًا للرحمة والرأفة التي تُميز هذه المرجعية المباركة، وفي الوقت ذاته جاء دور العتبة العباسية ومؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات ليُخلد هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العراق، وليضمن أن تبقى تضحيات أبناء الوطن راسخة في ذاكرة الأمة، وبهذا تظل المرجعية العليا هي الأب الروحي لكل العراقيين، وهي الحصن الذي يلجأ إليه الجميع في أوقات المحن.