تعزيزاً للعلاقات الثقافية والدينية العتبة العباسية مستمرة بأستقبال الزيارات الرسمية
شهد العراق في منتصف عام 2014م مرحلةً تاريخية عصيبة، اتسمت باضطرابات سياسية وأمنية غير مسبوقة، تمثلت بانهيار المدن أمام تهديدات تنظيم داعش الإرهابي، الذي اجتاح مدينة الموصل وأجزاء واسعة من البلاد، وسقوط الموصل كان بمثابة ضربة قاسية للحكومة العراقية، إذ دخلت البلاد في دوامة من الارتباك الأمني والفوضى، وعمَّت المخاوف مختلف الأوساط الشعبية والسياسية.
تزايدت هجمات التنظيم وتهديداته في وقت قصير، مستهدفة المدن والمناطق المقدّسة، ممّا أثار قلقًا بالغًا لدى العراقيين، خاصة في ظل تراجع قدرات الجيش والقوات الأمنية وتفكك الخطوط الدفاعية، وكانت مشاعر الخوف والقلق تعصف بالمجتمع العراقي، إذ بات شبح سيطرة داعش يُخيم على بغداد والمدن الجنوبية، فيما ارتفعت نداءات الاستغاثة بحثًا عن حلّ ينقذ البلاد من السقوط في مستنقع الإرهاب.
في ظل هذه الظروف، جاءت الفتوى التاريخية للجهاد الكفائي التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا، ممثلةً بسماحة السيّد علي السيستاني (حفظه الله)، في خطبة الجمعة في 13 6 2014م.
كانت هذه الفتوى بمثابة نداء جامع للوقوف في وجه العدو والتكاتف لحماية العراق ومقدّساته، ممّا أتاح الفرصة للعراقيين من جميع الأطياف للتوحد والدفاع عن أراضيهم، ومنذ لحظة صدور الفتوى، استجاب الآلاف من المتطوعين أبناء الجنوب والفرات الأوسط بشكل جماعي، متجاوزين اختلافاتهم السياسية، ومتوجهين إلى مراكز التطوع والمعسكرات للانضمام إلى صفوف القوات الأمنية والعسكرية.
وسط هذه الظروف، كان للشيخ جاسم الحساني، معتمد المرجعية الدينية، دورٌ حيويّ في تأطير هذه الاستجابة الشعبية وتحويلها إلى قوة منظمة تساهم في دعم الجبهات، فقد عمل على تنظيم المتطوعين وتوفير الدعم اللوجستي لهم، إضافة إلى التعاون مع العتبات المقدسة لتأمين الاحتياجات الأساسية.
في لقاء مع الشيخ جاسم الحساني، معتمد المرجعية الدينية، سرد لنا تفاصيل دقيقة عن دوره الجهادي والخدمي بعد إعلان فتوى الجهاد الكفائي من قبل المرجعية الدينية العليا.
استعرض الشيخ تجاربه الشخصية وجهوده المتواصلة في دعم المجاهدين والمتطوعين، سواء في ساحات التدريب أو في ميادين المعارك، كما بيّن أدواره الإنسانية في رعاية عوائل الشهداء والجرحى.
بدأ الشيخ الحساني حديثه باستعادة ذكرى تلك اللحظة الحاسمة التي تغيّر فيها مسار الأحداث.
في يوم الجمعة كان الشيخ ماشيًا بين النجف وكربلاء برفقة أحد المؤمنين في الزيارة الشعبانية، وفي أثناء الاستراحة لأداء صلاة الظهر، تلقى مكالمة مفاجئة من أحد الأصدقاء، والذي أخبره أنّ السيّد السيستانيّ قد أصدر فتوى الجهاد، كان الشارع حينها يموج بالناس، الجميع يتساءلون إلى أين يتوجهون؟ الشيخ الحساني دعا إلى التريث حتى يتأكّد من التفاصيل.
عند وصوله إلى كربلاء، تأكد من صدور الفتوى المباركة، والتي دفعت مئات الآلاف من العراقيين للاستجابة لها، خصوصًا مع تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد.
عاد الشيخ إلى البصرة بعد أداء الزيارة ليشهد مشاهد مبهجة من الشباب والعشائر الذين بدأوا بالتجمع في مراكز التطوع استعدادًا للقتال، على الرغم من أن كثيرًا منهم لم يكن لديهم أي خبرة عسكرية.
معسكرات التدريب والاستجابة للتحديات
من المواقف المؤثرة التي تحدث عنها الشيخ الحساني، كان اندفاع الشباب المتطوعين للالتحاق بالجبهات، حتى وإن لم يكن لديهم دراية باستخدام الأسلحة، هنا جاءت الحاجة الملحّة إلى معسكرات تدريبية، إذ تبرع أحد المؤمنين بقطعة أرض لإنشاء معسكر تدريب، وبالتعاون مع مجموعة من المؤمنين، قام الشيخ الحساني بتهيئة المعسكر بالمستلزمات الأساسية من ماء وكهرباء، وبدأ العمل على إعداد برامج تدريبية فعالة.
كان التدريب يتم ليلًا خلال أيام شهر رمضان، إذ كان الشيخ يلقي محاضرات دينية وتوجيهية للشباب بعد انتهاء التدريب، لتزويدهم بروح الإيمان والعقيدة، إضافة إلى تأهيلهم عسكريًا، مع مرور الوقت، ازداد عدد المتدربين، ما استدعى تقسيمهم إلى مجموعات ليتسنى تدريبهم بشكل كافٍ، وفي منتصف شهر رمضان، تخرجت أول دفعة من هؤلاء المتدربين وتوجهت فورًا إلى ساحات القتال.
الدور القيادي واللوجستي
في إطار مسؤوليته كمعتمد للمرجعية، تزايدت أعباء الشيخ الحسانيّ، لا سيما مع توجّه عدد كبير من المتطوعين من أبي صخير والقرى المجاورة نحو الجبهات. كان العديد منهم لا يمتلك حتى تكاليف النقل أو احتياجاتهم الأساسية، الأمر الذي دفع الشيخ إلى تنظيم حملات لدعم المتطوعين وتأمين احتياجاتهم، سواء من ملابس أو طعام أو مؤن.
كما عمل الشيخ على تشكيل لجان مختصة لمتابعة شؤون عوائل المقاتلين، وتوفير الدعم المالي والمعيشي لهم. فكانت المسؤولية عظيمة، خاصة أن الكثير من المقاتلين في بداية الفتوى لم يتلقوا دعمًا ماديًا من الدولة.
التجربة الميدانية في ساحات القتال
لم يكتفِ الشيخ الحساني بدوره كمنظم وموجّه، بل التحق بنفسه بالجبهة برفقة قوة تابعة للعتبة الحسينية المقدّسة في قاعدة بلد الجوية. في ظروف صعبة ومحاطة بالأعداء، كان المقاتلون يمتلكون أسلحة وذخيرة محدودة، ولكنهم تمتعوا بمعنويات عالية وإيمان قوي. يتذكر الشيخ المواقف البطولية للمتطوعين، حيث لم تمنعهم قلة الإمكانيات من التصدي للهجمات الإرهابية بكل شجاعة.
واحدة من اللحظات التي لا تُنسى في ذاكرة الشيخ هي الهجوم الذي شنه تنظيم داعش على قرية "البو فدعوس"، حيث هبّ المقاتلون من مقر القوة للدفاع عن القرية، برغم عددهم القليل. تصدى الجميع للهجوم ببسالة، واستطاعوا طرد المهاجمين وإنقاذ السكان. حتى أن شيخًا كبيرًا في السن تجاوز التسعين كان يتقدّم الصفوف ببندقيته وكلماته الحماسية.
التعاون مع المؤسسات الدينية
لم يكن دور الشيخ جاسم الحساني مقتصرًا على التنسيق الميداني فقط، بل كان يتعاون بشكل وثيق مع العتبات المقدّسة، وخاصة العتبة الحسينية والعتبة العباسية. هذا التعاون جاء في إطار تعزيز جهود دعم المجاهدين في الجبهات وتوفير كل ما يلزم من احتياجات أساسية لضمان استمرارية المقاومة في مواجهة تنظيم داعش.
كانت العتبات المقدسة تشرف على إرسال قوافل دعم تحمل الغذاء والمستلزمات الطبية إلى ساحات المعارك، وكانت تلعب دورًا محوريًا في رعاية عوائل الشهداء والمقاتلين. الشيخ جاسم الحساني كان له دور بارز في هذا التعاون، فقد كان ينقل احتياجات المقاتلين ويتابع تفاصيل الدعم اللوجستي من خلال التواصل المستمر مع المسؤولين في العتبات.
تجسد هذا التعاون في إقامة مراكز مؤقتة في المناطق القريبة من الجبهات لتقديم الرعاية الطبية والعلاج للجرحى، إضافة إلى تأمين خطوط الإمداد للمواد الضرورية. كما لعب الحساني دورًا مهمًا في تنظيم زيارات دينية للمجاهدين بهدف تعزيز معنوياتهم، عبر إرسال رموز دينية وأدعية خاصة من العتبات، مما كان له تأثير إيجابي على الروح القتالية للمقاتلين.
هذا التعاون الوثيق بين الشيخ الحساني والعتبات المقدّسة أظهر كيف أنّ المؤسسات الدينية العراقية كانت وما زالت تمثل العمود الفقري للدعم المادي والمعنوي في الأزمات، مما يبرز دورها الريادي في الحفاظ على وحدة الصف الوطني والدفاع عن الأراضي العراقية.
رعاية الجرحى وعوائل الشهداء
بعد المعارك، كانت مسؤولية الشيخ الحساني تتضاعف في رعاية الجرحى وعوائل الشهداء. قام بتشكيل لجان من المؤمنين لتفقد أوضاع الشهداء وتأمين احتياجات عائلاتهم من مأكل وملبس وترميم البيوت. بل تجاوز ذلك إلى توفير الرعاية الصحية، إذ قام بنفسه بمرافقة بعض الجرحى إلى الخارج لإجراء العمليات اللازمة، وكان التكاليف تُغطى بالكامل عبر التبرعات.
كما اهتم الشيخ الحساني بأوضاع أبناء الشهداء الدراسية، وحرص على تذليل أي صعوبات قد تعترضهم، لتوفير مستقبل أفضل لهم. لم تتوقف جهوده عند توفير الدعم المعنوي والمادي لعوائل الشهداء، بل شملت كل ما يحتاجون إليه في حياتهم اليومية.
يبقى دور الشيخ جاسم الحساني نموذجًا حيًا للاستجابة الفورية لتوجيهات المرجعية الدينية، إذ قدم جهودًا جبارة في ميادين الجهاد والدعم اللوجستي. كانت فتوى الجهاد الكفائي لحظة فارقة في تاريخ العراق، تضافرت فيها الجهود الشعبية مع توجيهات المرجعية للدفاع عن الوطن والمقدسات، وشكلت هذه الفتوى منطلقًا لتكاتف الجميع في مواجهة الأخطار المحدقة.
المصدر: موسوعة فتوى الدفاع الكفائي، الجزء 26، ص183