البحث المتقدم

البحث المتقدم

٣٠ جمادى الأولى ١٤٤٦

انتفاضة صفر 1977م.. ملحمة الولاء الخالدة للشعائر الحسينية في وجه الطغيان

    الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته العظيمة تركا إرثًا خالدًا على مر العصور، تجسّد عبر مئات السنين بالتضحيات المستمرة من لدن الموالين للإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وفي العراق، وتُعد الشعائر الحسينية جزءًا لا يتجزّأ من الهوية الدينية والوطنية، لكن تلك الشعائر كانت على مرّ التاريخ هدفًا لقمع الحكومات الاستبدادية، ومن أبرز الحقب التي شهدت تضييقًا كبيرًا على إقامة هذه الشعائر كانت حقبة حكم حزب البعث في العراق، إذ بدأت المواجهات مع نظام البعث منذ توليه السلطة عام 1968، إذ شهد شهر المحرم للأعوام (١٩٦٩-1977) م تضييق الخناق على المواكب الحسينية وحملات من المنع والاعتقالات والمواجهات العارمة التي أسفرت عن اندلاع انتفاضة صفر الخالدة في مدينة النجف الأشرف في عام ١٩٧٧م الموافق لشهر صفر عام ١٣٩٧هـ.

     لكن الأحداث بلغت ذروتها في انتفاضة صفر عام 1977م، التي مثلت علامة فارقة في التاريخ السياسيّ والدينيّ للعراق، إذ اندلعت انتفاضة بوجه النظام البعثيّ الحاكم في العراق بعد أن بادر الأخير إلى منع العزاء الحسينيّ والمسير إلى كربلاء سيرًا على الأقدام.

 

التمهيد للقمع

    ما إن تولى حزب البعث الحكم حتى بدأت حملته للقضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، وكانت الشعائر الحسينية من بين الأهداف الرئيسية لهذه الحملة. ففي محرم 1969، حاولت السلطات السيطرة على المواكب الحسينية عبر فرض شروط على إقامة هذه المواكب، وأغلقت السلطة أبواب مرقد الإمام علي (عليه السلام) في ليلة التاسع من محرم، حيث اعتادت المواكب إقامة المراسم الختامية هناك، وتسبب هذا الإجراء في صدامات عنيفة بين السلطة والجماهير الحسينية، ممّا أدّى إلى اعتقال عدد من قادة الحراك، من بينهم الشيخ محمد علي التسخيريّ.

وعلى الرغم من القمع، استمرت الجماهير في ممارسة الشعائر الحسينية، إذ شهدت السنوات التالية مواجهات متكرّرة بين السلطات والمواكب.

كان القمع في البداية متمثلًا بمنع بعض المواكب أو تقييدها، لكنه تحوّل لاحقًا إلى حملة اعتقالات واسعة ومواجهات دموية.

 

تصاعد القمع

في العام 1975، وصل القمع إلى ذروته، فقد منعت السلطات إقامة مواكب العزاء في ليلة العاشر من المحرم، لكن الجماهير في النجف تحدّت قرار السلطة وخرجت في مسيرات كبيرة حاملة السلاح الأبيض، واندلعت مواجهات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن، واعتقلت السلطات العشرات من المشاركين في هذه المسيرات، من بينهم قادة المواكب مثل جاسم الإيروانيّ في كربلاء، وتحولت المسيرات إلى احتجاجات سياسية إذ قام المتظاهرون بتمزيق صور الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، مردّدين شعارات مناهضة للنظام.

تحضير الانتفاضة

شهدت الأعوام 1976 و1977 استمرار التصعيد، ففي شهر صفر من عام 1976، مُنعت مرة أخرى المسيرات الراجلة إلى كربلاء، ممّا أدّى إلى صدامات بين المحتجين والسلطات. وعلى الرغم من قمع السلطة، استمرت الجماهير في تنظيم المسيرات، إذ تمكن الآلاف من الوصول إلى كربلاء بعد مسيرة استمرت ثلاثة أيام، متحدّين بذلك حظر النظام.

وفي المحرم 1977، ازدادت الضغوط أكثر على المواكب الحسينية، وكانت السلطات تصادر حتى الطعام المخصّص للزوار، وتفتش العربات بحثًا عن أي أدوات تتعلق بالعزاء الحسينيّ. في النجف خرجت مجموعة فدائية في ليلة العاشر من المحرم واشتبكت مع عناصر الأمن بالسلاح الأبيض، مما أسفر عن خسائر في صفوف القوات الحكومية، وقررت الجماهير تنظيم مسيرة كبيرة إلى كربلاء في زيارة الأربعين، على الرغم من قرار منع المسيرات الصادر عن الحكومة.

اندلاع الانتفاضة

في الرابع من فبراير 1977، خرجت أولى المسيرات من النجف باتجاه كربلاء، إذ قُدّر عدد المشاركين فيها بـ (250) ألف شخص تقريبًا، وكانت المسيرة سلمية في بدايتها، فقد رفعت شعارات حسينية تعبر عن الولاء للإمام الحسين (عليه السلام) ورفض الظلم والطغيان، لكن سرعان ما تدخلت القوات الأمنية لقمع المتظاهرين، واندلعت مواجهات عنيفة بين الطرفين، خاصّة عند اقتراب المسيرة من ناحية الحيدرية.

في خان المصلى، وبعد اشتباكات دامية، تمكّنت الجماهير من السيطرة على مراكز الشرطة وأطلقت سراح المسجونين، واستمرت المسيرة باتجاه كربلاء رغم محاولات السلطات وقفها. ورغم القمع المتزايد، واستمرت المواكب في التقدّم حتى وصولها إلى منطقة خان النخيلة، حيث كانت قوات الجيش في انتظارهم.

قمع الانتفاضة

في السادس والسابع من فبراير، شنت السلطات حملة قمع واسعة ضد المنتفضين، وتمّ استعمال الدبابات والطائرات الحربية لقمع الحشود، إذ تمّ اعتقال آلاف المتظاهرين وزجّهم في سجون السلطة في بغداد والنجف وكربلاء.

أُحيل العديد من المعتقلين إلى المحاكم العسكرية، وقد تعرضوا للتعذيب القاسي، وفي الثالث والعشرين من فبراير أقيمت محاكمات صورية لعدد من قادة الانتفاضة، وصدر حكم بالإعدام بحقّ ثمانية منهم، وتمّ تنفيذ الأحكام بسرعة.

نهاية الانتفاضة وتداعياتها

انتهت انتفاضة صفر 1977، لكنها تركت بصمة عميقة في الذاكرة العراقية، مثلت هذه الانتفاضة تحديًا واضحًا لنظام البعث، الذي أدرك من خلالها مدى تمسّك العراقيين بإرث الإمام الحسين (عليه السلام). وعلى الرغم من القمع الوحشيّ، فإنّ الانتفاضة أعادت تأكيد قوة الهوية الدينية للشعب العراقيّ، ودورها في مواجهة الظلم والطغيان.

كانت انتفاضة صفر 1977 إحدى أهم الأحداث في تاريخ الصراع بين السلطة البعثية والجماهير الحسينية، وعلى الرغم من وحشية القمع، فإنّ هذه الانتفاضة أكّدت أنّ الشعائر الحسينية ليست مجرد طقوس دينية، بل تمثل تعبيرًا عن الهوية والإرادة الشعبية في مواجهة الظلم.

 

المصدر: موقع مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات،  الدراسات

 

مواضيع ذات صلة