لا يختلف اثنان ما للسينما والتلفزيون من التأثير المباشر على الفرد والمجتمع لا سيما فيما يطرح فيها من أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية وحتى أفلام الكارتون أو (الإنمي) فهذه مواد متحركة وفيها شخصيات وأحداث وصور ومشاهد وو إلخ ما يجعل المشاهد يتأثر غاية التأثر بها وقد يتخذ منها قدوة له في حياته أو مادة غنية تثري معلوماته.
ولا يختلف اثنان على أن الأفلام والمسلسلات التاريخية تشد المشاهد لها، لأنها وببساطة تغنيه عن مراجعة كتب التاريخ وما فيها من جمود وركود وسرد هو أقرب للملل منه إلى التشويق، فالفيلم أو المسلسل فيه حركة وشخصيات وحديث ومشاهد تجعل المسألة أكثر جذبا للمشاهد وأكثر فهما منه للحادثة، فضلا عن أن المشاهد العربي على وجه الخصوص عندما يشاهد شخصية تاريخية -معروفة لديه سابقا- وقد تم تجسيدها في عمل ما ستظل صورة الممثل الذي قام بالدور مطبوعة في ذهن المشاهد، فمثلا شخصية (حمزة بن عبد المطلب، عمر المختار، أو المختار الثقفي وغيرهم) فهي شخصيات تاريخية سمع عنها المشاهد كثيرًا وعندما جسدت بأعمال فنية فإن الممثل (عبد الله غيث، أو إنتوني كوين، أو فريبرز عرب نيا) بقوا عالقين في ذهن المشاهد فلا تكاد تذكر كلمة حمزة حتى ينصرف الذهن إلى عبد الله غيث، ولا تكاد تذكر عمر المختار حتى ينصرف إلى أنتوني كوين وكذا المسألة مع فريبرز عرب نيا، هذه من ناحية الشخصيات والممثلين.
فمن ناحية أخرى أن هذه الأفلام أو المسلسلات التاريخية تعطي مادة تاريخية مذكورة وموجودة في بطون الكتب وإن كانت معالجة دراميا أو سينمائيا على وفق ما يقتضيه السيناريو والحوار، ولكنها بالمجمل تعطي مادة تاريخية تغني المشاهد عن مراجعة الكتب والمصادر، ما تجعله يصدق تمام الصدق ما طرح في العمل الفني وكأنه هو الحقيقة ويبدأ بالتصديق به والدفاع عنه والنقاش فيه حتى أنه عندما يستشهد بحادثة تاريخية سيقول لك (موجودة بفيلم الرسالة أو بمسلسل المختار أو أو) وهكذا وكأنها مادة تاريخية مسلَّم بها.
هذا ما استعمله صدام في فيلم (المسألة الكبرى) إذ جعل من شخصيات الفيلم وأحداثه تشكل مادة تاريخية جعلت من المشاهد يصدق أنها هي الحقيقة التي لا مراء فيها.
يقول الدكتور علي النشمي في أحد لقاءاته أن الفيلم كان في أول أمره اسمه (السلاح الأسود) يعني (المكوار) وهذا كان في السبعينيات من القرن الماضي والسيناريو كتب بشكل منصف وتاريخي وذكرت فيه الكثير من الشخصيات ورجال الدين وغيرهم من شيوخ العشائر التي أججت الحرب ضد الإنكليز، إلا أن النص وصل بطريقة أو بأخرى إلى صدام حسين -النائب في ذلك الحين- فاعترض على النص لأن فيه ذكر للمرجع محمد تقي الشيرازي صاحب فتوى الجهاد آنذاك وشيوخ العاشر أمثال شعلان أبو الجون وعبد الواحد سكر وغيرهم فضلا عن ذكر الشيخ ضاري المحمود وشيوخ عشائر الأنبار في ذلك الحين، وهذا مما لم يرق لصدام وما يحمله من فكر طائفي وقومي عقيم.
ظل هذا الامر حتى سنة 1983م، إذ أعيد النظر في النص وغير كثيرا وحرف عما هو موجود وأصبح عنوان الفيلم (المسألة الكبرى) وأن الأحداث يجب أن تكون في الأنبار حصرا وبالشيخ ضاري المحمود وإبراز شخصيته وعشيرته وما فعله في تلك الحقبة، دون التركيز على دور أهل الوسط والجنوب ورجال الدين في ذلك.
تم إنتاج الفيلم بطاقم ممثلين عراقيين وأجانب وطاقم تصوير وفنيين أجانب وهو من إخراج الكبير محمد شكري جميل.
إلا أن المشاهد الآن لو رجع وشاهد الفيلم يجد الآتي:
- سامي عبد الحميد: يمثل شخصية رجل دين سني وهو من يتكلم بلسان العراقيين ويهتف باسمهم ويدافع عنهم ويستنهضهم من أجل الدفاع عن العراق ضد الإنكليز.
- يوسف العاني: يمثل دور الشاعر الشيخ محمد مهدي البصير، إلا أنه لا يتكلم كلمة واحدة طوال الفيلم.
- غازي التكريتي: يمثل دور الشيخ ضاري ظاهر المحمود شيخ قبائل زوبع في الأنبار، وهو محور الفيلم وبطله الأول وهو مفجر الثورة والقائد الأول لها -وهذا في الفيلم طبعا وليس في الواقع- وقاتل الكولونيل ليجمن البريطاني.
- طالب الفراتي: شيخ من شيوخ الكفل يجمع أبناء عشيرته للهجوم على رتل عسكري بريطاني، ومشهده لا يتجاوز خمسة دقائق فقط.
هذه هي أبرز شخصيات الفيلم، ومن هنا يتبين لك مدى تدخل الدولة في إنتاجه وتجييره إلى جهة دون أخرى.
بذلك استطاع صدام أن يجعل هذا الفيلم وهذه الشخصيات ترسخ في ذاكرة المجتمع وترسخ في معلوماتهم أن الشيخ ضاري المحمود هو القائد الفعلي للثورة وليس غيره.
وبما أن المجتمع لا يقرأ فمن الطبيعي أن يصدق ولا يطلع ولا يبحث عن الحقيقة، لأن الحقيقة ستكون مرة ومؤلمة.
المراد من هذا المقال هو بيان حقيقة أن المدافع عن ضاري لا يلام لأنه أخذ معلوماته عن فيلم سينمائي، والمدافع عن شعلان يدافع عن وقائع تاريخية، نعم الشيخ ضاري شارك في الثورة في منطقة الأنبار وهو من قتل الكولونيل ليجمن وهذا ما لا يساوره شك، لكن هذا لا يجعل منه القائد الأوحد للثورة ولا هو المفجر الحقيقي لها، ومن يريد الاستزادة فليراجع (الفكر السياسي لثورة العشرين جعفر آل ياسين) (مذكرات المس جيرترود بيل) و(الثورة العراقية الكبرى للحسني) غير أن المصدر الثاني على ما فيه من كذب وتدليس باعتبار أن الكتابة هي جاسوسة بريطانية إلا أنه لا يخلو من بعض الحقائق التي تبين من مفجر الثورة الحقيقي وكيف بدأت ومن أعطى الأذن بذلك.. والختام سلام.