منذ أن بدأت الثورة الصناعية في أوروبا وبدأ العالم يتجه اتجاها آخر وهو التطوّر العلميّ والعمليّ والتكنولوجيّ حتى بدأت هذه الثورة تأخذ صداها في العالم أجمع؛ إذ أحدثت هذه الثورة تقدّمًا لم يشهد له مثيل في حينه عندها أخذت الدول تدرس هذه التجربة وتعمل عليها كنوع من المواكبة وهذا شيء طبيعي جدًّا في أنّك تجرب التجربة نفسها إن كان فيها نفع عام للعالم وللبشر، وتوالت بعد هذه الثورة ثورات كثيرة وعلى جميع المستويات في الطبّ والهندسة واللغات والفنون والتكنولوجيا وغيرها حتى وصل الأمر بنا اليوم إلى الذكاء الاصطناعي الذي ربما بعد عشرات السنين إن لم يكن أقل من ذلك سيُستغنى عن الإنسان تمامًا في إدارة الحياة.
هذا ما فعله الغرب، ولكن الكلام هنا عن المستغربين، فهذه المفردة لها دلالتان الأولى: دراسة الغرب وثقافته وتاريخيه وتراثه بشكل علمي ودقيق والوقوف على الجوانب الإيجابية والسلبية فيه كما الاستشراق وهو أيضًا دراسة الشرق وتراثه وثقافته وتاريخه بشكل علميّ وتحليليّ إلّا أنّ الأخير كانت له مساعٍ توسعية في احتلال الأرض والفكر والشرقيّ.
أمّا الدلالة الثانية لمفردة (المستغربون) هي لا علاقة لها بالثقافة ولا التاريخ ولا التراث ولا أي شيء ولا حتى دراسة الغرب، وإنّما المقصود بها نقل التجارب الغربية بخيرها وشرّها من دون دراسة ووعي.
وهنا يأتي السؤال لماذا هذا التوجّه الغربيّ؟
الجواب بسيط جدًّا لكنه طويل بعض الشيء، فعندما لاحظ الشرقيون والعرب على وجه الخصوص أن المجتمعات والدول الشرقية لم تنتج شيئًا لا على المستوى العلميّ ولا التكنولوجيّ وإن الغرب هم من كان لهم التقدّم في هذه المجالات، ما رسّخ في عقولهم أنّ الغرب أذكى منهم والغرب هم الأقوى والغرب هم الأفضل والغرب هم الأكثر مواءمة للحضارة والتحضر وعليه لا بدّ من استنساخ تجاربهم جميعًا من دون دراسة ولا تمحيص لأجل أن نتقدَّم مثلهم، ونكون في مصافّهم، إلّا أنّ هؤلاء المستغربون تناسوا أن المجتمعات تختلف فيما بينها من حيث التركيب الاجتماعيّ والثقافيّ والتاريخيّ وغير ذلك، بمعنى أن استنساخ التجربة قد لا يؤتي ثماره كما في المجتمع الذي نشأت فيه التجربة، وعليه من الضروريّ دراسة التجربة حتى تُطبّق في مجتمعك، ولكن لا جدوى من ذلك لأنّ الماكنة الغربية أحكمت حلقاتها على المجتمع الشرقيّ وذلك بترسيخ فكرة أنكم عالم ثالث وغير منتج ومتخلّف وغير قادر على التقدّم من ذاته.
ما أود قوله هنا هو أن هناك كثير من الأصوات التي تنادي بالتغريب –لا سيما في العراق- أي أن نكون مثل الغرب على الأقل في العيش كإنسان له حقوق وعليه واجبات وفي احترام القوانين وفي العيش تحت مظلة القانون فكثيرًا ما نسمع هذه الجملة (صيروا مثل الغرب شوفوا شلون عايشين)، الكل يلهج بهذه الجملة لكنه لم يسأل نفسه كيف وصل الغرب إلى ذلك؟ هل وصلوا من تلقاء أنفسهم أم من طريق فرض القانون واحترام الناس له، وكيف يحترم الناس القانون؟ الجواب: عبر العقاب، نعم العقاب، فلو لم يكن هناك عقاب لما احترم الناس القانون؛ لأنّ الإنسان بطبيعته متمرّد على القوانين ولا يحبّ ذلك إلّا أن العقاب هو الرادع له.
المستغربون هنا أكثر نفاقًا من غيرهم هو ينادي بالاستغراب وهو لا يحترم القانون ولا الشارع ولا يفقه لغة الحوار، لا يساعد أجهزة الأمن في الكشف عن الجريمة أو التقليل منها، لا يساعد رجل المرور في سير المركبات، لا يساعد مهندس النظافة في التقليل من انحنائه لرفع النفايات، لا يساعد الطبيب في رفع الثقافة الطبية ولا ولا والقائمة تطول، والسؤال هنا لماذا لا يفعل ذلك المستغرب؟ الجواب: لأنّه وببساطة ليس لديه ثقافة مواطنة، فهو لا يحترم القانون بحجة أنّ الدولة ضعيفة، وبما أنّ الدولة ضعيفة إذن فلا داعي لاحترام قانونها ولا مساعدة أي أحد من أفرادها المذكورين في أعلاه؛ لأنهم يتقاضون راتبًا لقاء عملهم.
سؤال آخر: ماذا يريد المستغرب إذن؟ الجواب بسيط جدًّا يريد تطبيق التجربة الغربية ذات الوجه القبيح، بمعنى يريد الانحلال في أبهى صوره وهذا يغني عن التفصيل، أمّا أنه يريد تطبيق التجربة الغربية في التقدّم العلميّ والعمليّ واحترام القوانين وتطبيقها فلا؛ لأنه في الواقع تجده موظفًا متكاسلًا ومرتشيًا، ولعوبًا، وذا علمية ضئيلة إن لم يكن أقل من ذلك، فالنتيجة هو لا يريد الوجه الحسن من التجربة الغربية إنما يريد الوجه الآخر.
الاستغراب الحديث هو الخطر الأكبر؛ لأنّ الأرضية مهيّأة له، لذا على كل المثقفين الملتزمين ورجال الدين والمؤسسات العلمية والتربوية وغيرها أن تقف أمام هذا المد المخيف لحماية الجيل من هذا السيل الجارف.