إنّ معظم ما ورد من روايات حول مقتل الإمام علي (عليه السلام) ومعظم ما أُشيع وأُذيع بين الناس أنّ المقتل جرى بهذه الطريقة: وهي أنّ الإمام (عليه السلام) في تلك الليلة كان في داره وخرج إلى فنائها وبدأ ينظر إلى السماء ويقول (والله إنها هي) أي الليلة التي سيُقتل فيها بناءً على ما أخبره به الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ذلك همَّ بالخروج فصرخت الأوزّات عليه وكأنّهنّ يُودعنه بالبكاء والنحيب، ومن ثمّ انحلّ مئزرُه فأنشد يقول:
اشدُد حَيَازِيمَكَ لِلمَوتِ |
|
إذَا المَوتُ لاقِيكَا |
وَلا تَجزَعْ مِنَ المَوتِ |
|
إِن حَلّ بِوَادِيكَا |
ثمّ خرج وتوجّه نحو المسجد وأذّن فيه للصلاة واجتمع المسلمون للصلاة خلفه وكبّر وصلّى وقبل أن يُنهي ركعته الثانية وإذا بابن ملجم المراديّ اللعين وثب عليه بسيفه وشجّ رأسه الشريف عندها قال مقولته الشهيرة: (فزتُ وربّ الكعبة) عندها انتبه المصلون إلى ما جرى وهرعوا إلى الإمام ومنهم من تتبّع ابن ملجم لئلّا يهرب من المدينة، علمًا أنّه رافق ذلك الحدث حدثٌ كوني بأنّ السماء بدأت ترعد وتبرق وأبواب المسجد بدأت تصطفق وكأن الكون قد أصيب بزلزال مدمر، والبقية معروفة لدى القارئ.
هنا نسأل: ما هي غاية ابن ملجم من قتل الإمام؟ وهل كان يستحق كل ذلك العناء؟ وهل يستحق الهدف بأن يُقدِم ابن ملجم على قتل الإمام من أجله؟
الجواب: ممّا يمكن أن يكون مسلّمًا به بين الأوساط أو ممّا أُشيع وأُذيع عن مقتل الإمام (عليه السلام) بين العامّة والخاصّة أنّ هناك امرأة اسمها (قطام) فائقة الجمال وتكاد تكون أجمل نساء الكوفة، قُتل أبوها مع الإمام علي (عليه السلام) في إحدى معاركه، وهذا ما سبّب سخطًا منها على الإمام، ورغبةً في الانتقام منه، وبقيتْ على ذلك حتى جاء (ابن ملجم) والذي استقبله (الأشعث بن قيس) وعرفه على (قطام) الذي جعل منها طعما لهذا الغبي حتى ينفذ ما يروم تنفيذه، علمًا أنّ الأشعث هذا كان لديه علم بالتخطيط لعملية القتل فلم يتفاجأ بوجود (ابن ملجم) في الكوفة على العكس بل كان ممن يمهدون له الطريق للوصول إلى مأربه.
وجدتْ (قطام) في (المرادي) الأداة التي تستطيع أن تغريه بجمالها وطلب الزواج منه والمقابل (رأس عليّ) مهرًا لذلك الزواج، فتمّ الاتفاق على ذلك بينها وبينه وتمّت العملية كما أرادت بأن عليًا قد قُتِل على يد ابن الملجم (العريس المنتظر)! إلا أن ذلك الزواج الموعود لم يكتمل إذ قُبضَ على العريس مجرمًا وحُوكِمَ وأقيم عليه الحدُّ وانتهت حياته.
ما تقدّم هو أبرز ما في قصة مقتل الإمام علي (عليه السلام) التي قد لا يختلف عليها اثنان في أنّ القتل لم يكن سوى مهرًا لهذه المرأة، نعم، كان هناك اتفاق بين ثلاثة من الخوارج ومنهم (ابن ملجم) أن يقوموا بقتل الإمام علي (عليه السلام) ومعاوية وابن العاص في ذات الليلة ليقضوا على أكبر ثلاثة رؤوس حاكمة في الأمة؛ لتخلو لهم الساحة في الحكم وهم معروفون بتوجههم السياسي إلّا أنّ ابن ملجم كان متردّدًا في ذلك ولكن (قطام) هي من أشعلت فتيل الرغبة في القتل مرّة أخرى على أن يكون المقابل هو الزواج بها.
لو نظرنا نظرة متفحّص لما سبق هل يمكن أن يُقتل شخص مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) بهذه الطريقة البسيطة؟ وبهذا الدراما التي حِيكت لتجعل من الإمام ذلك الشخص الذي يمكن أن تمتدّ إليه يد الاغتيال بهذا السهولة، وهو على ما هو عليه من الحنكة والحذر والتدبّر؟ فضلاً عن أنّه خليفة أي حاكم لدولة مترامية الأطراف وحاميها والمهيمن عليها لا يستطيع حماية نفسه أو مسجده؟
ثم كيف علم الأشعث ما حيك من مؤامرة لقتل الإمام عليه السلام؟
ثمّ أنّ شخصية مثل (قطام) تستطيع أن تطيح برجل مثل علي بن أبي طالب لمجرد الحقد عليه من دون باقي من نقموا عليه؟
ثمّ أنّ صعلوكًا مثل ابن ملجم يتسلّل ويقيم في الكوفة أيامًا ويدور ما يدور بينه وبين (قطام) ويحدث ما يحدث، ومن ثمّ يتسلّل بين المصلين ويقتل الإمام بهذه البساطة دون علم الدولة؟
هذه من الأمور التي لا يمكن أن يتقبّلها شخص حصيف، لذا فالأمر ليس كذلك فلو نظرنا وقرأنا المقتل من زاوية أخرى أو قرأنا التاريخ بدقة أكثر نجد أن الذين تعاهدوا في الكعبة على قتل الثلاثة في آن واحد ويوم واحد لم تأتهم الفكرة من وحي الخيال، وإنما هناك يد مدبّرة وراء ذلك غايتها التخلّص من الإمام ومن معاوية على حدّ سواء، لماذا؟ لأن الأول خليفة المسلمين، والثاني هو الحاكم على الشام، في حين أنّ الثالث لم يكن له شيء، وهذا هو المدبّر لهذه المكيدة حقدًا منه على معاوية بعدما دار ما دار بينه وبينه، فاليد هو عمرو بن العاص-بحسب ما وصلت إليه قناعتي- نعم هو من خطط لهذه المؤامرة ومنذ زمن لذا فهو الوحيد الذي لم يخرج للصلاة في تلك الليلة؛ لأنّه يعلم بالمؤامرة، وكان من المتوقّع عنده أن يموت الاثنان معًا وتخلو له الساحة.
أما الدولة فكان لديها خبر بتلك المؤامرة وكان مستعدّة تمام الاستعداد للحيلولة دون حدوثها إلّا أنّ ما خُفي عنها أنّها لا تعرف الشخص المنفّذ ولا وقت التنفيذ.
لذلك شُكّلت على إثر ذلك مفارز لحماية الإمام (عليه السلام) في ليله ونهاره لكنها لا تلازمه، بمعنى أنها لا تحيط به لأنه كان يكره ذلك، وعليه كانت تراقب تحركات الإمام وتحميه من بعيد لاسيما عندما يخرج في آناء الليل ليتفقد أحوال الرعية، فضلاً عن أنّ الطرف الآخر لم يكن يمثله ابن ملجم وحده بل كان معه مجموعة من المسلحين في الكوفة يساندونه ويدخلون معه المسجد عند تنفيذ العملية وهذا يعني أنّ المسألة ليست فردية تقع على عاتق ابن ملجم فقط بل المسألة جماعية، فإن فشل أحدهم قام الآخر بإكمالها، ولما نجح ابن ملجم من الوصول إلى الإمام وإصابته -وهذه كان على غفلة من الناس؛ لأنهم لا يعلمون الوقت ولا الشخص الذي سيقوم بالتنفيذ- سارع بالهرب على أمل أن ينفد من قبضة الدولة، لذلك فإن الفرسان الذين كانوا مساندين له لم يحركوا ساكنًا في حينها بل جعلوا الأمور تجري في أعنتها لئلّا يلفتوا الأضواء إليهم، فأن نفد ابن ملجم فبها ونعمت، وإن لم ينفد فهي كذلك، المهم أنّ الشخص المراد قتله -أي الإمام- قُتل وانتهى الأمر، أمّا ما ستؤول إليه حال ابن ملجم فليس من شأنهم.
إذن بعد هذه الرؤية البسيطة يمكننا تقبّل المقتل على هذه الشاكلة، لماذا؟ لأنّها أكثر واقعية وقربًا من الحقيقة إذ ليس من الممكن أن يغتال شخص مثل الإمام (عليه السلام) بالطريقة الأولى التي هي أقرب إلى الدراما التي تناغم مشاعر الناس لتتعاطف معها، نعم لا يمكن إنكار وجود (قطام) وما حصل بينها وبين ابن ملجم وما تم الاتفاق عليه لكن هذه الأمور هي ثانوية على المسألة أو لنقل إنها جاءت عرضًا على التخطيط الأصلي للعملية وليست هي الأصل في ذلك.
تنويه: ما كُتب في هذه السطور محض رؤية وقراءة الكاتب للحدث وغير مستندة إلى دليل تاريخي