العراق اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، إذ تقترب البلاد من استحقاق انتخابي جديد في ظل أزمة ثقة عميقة بين الشعب ومؤسسات الدولة، وبين وعود الإصلاح وواقعٍ مثقل بالفساد والانقسامات السياسية والاجتماعية.
في هذا السياق، جاء بيان المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ليضع النقاش في مسار مختلف، فهو لا يكتفي بتوصيف المشاركة في الانتخابات باعتبارها خياراً سياسياً، بل يرفعها إلى مرتبة المسؤولية الشرعية والوطنية، مستشهداً بسورة العصر وبحديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته». هذه الإشارة الدينية تمنح العملية الانتخابية بعداً أخلاقياً يزاوج بين التكليف الشرعي وحق المواطنة، لتصبح المشاركة الفاعلة أداة لحماية الدولة وصون مستقبلها.
هذا الطرح يتقاطع بعمق مع روح الدستور العراقي، الذي نصّ في مادته الخامسة على أن الشعب هو مصدر السلطات، وفي المادة العشرين على أن للمواطنين حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية، وهنا يتضح أن ما يطرحه المرجع المدرسي ليس وعظاً دينياً مجرداً، بل هو دعوة صريحة لتفعيل العقد الاجتماعي، حيث يغدو صندوق الاقتراع منصّة للرقابة والمساءلة، ووسيلة لاستعادة زمام المبادرة من أيدي القوى التي اعتادت احتكار السلطة عبر المحاصصة أو النفوذ الخارجي، اذ ان الانتخاب وفق هذا المنظور ليس طقساً موسمياً، بل فعل سيادي يحدد معادلة الحكم ويعيد الشرعية إلى أصحابها الأصليين، أي المواطنين.
إن التأكيد على اختيار الأكفاء والنزهاء ليس جديداً في الخطاب السياسي، لكنه يأخذ في هذا البيان منحى أكثر عملية، إذ لا يكتفي بالدعوة إلى حسن الاختيار، بل يحثّ المواطن على متابعة المسؤولين بعد فوزهم، في ممارسة تشبه ما يُعرف في الديمقراطيات الراسخة بالمواطنة النشطة، فالمشاركة لا تنتهي عند صناديق الاقتراع، بل تستمر عبر المراقبة، والضغط الشعبي، ومساءلة النواب والوزراء، وهي خطوة حاسمة في ظل الواقع العراقي الذي يعاني من فجوات عميقة في الشفافية والمحاسبة.
غير أن البيان لا يغفل الإشارة إلى التحديات التي تعصف بالمشهد العراقي، حين يتحدث عن “فتن إبليس السابقة والراهنة” التي فتحت ثغرات واسعة في بنية الدولة. هذه الثغرات تتجسد اليوم في الفساد المستشري، وفي نظام المحاصصة الطائفية، وفي الانقسامات التي عطلت مؤسسات الدولة وحالت دون ولادة مشروع وطني جامع. ومع أن الانتخابات المقبلة قد تبدو في ظاهرها مجرد استحقاق دستوري، إلا أنها في الواقع تمثل اختباراً لإمكانية إعادة بناء الدولة على أسس القانون والمؤسسات بدلاً من منطق الصفقات وتقاسم النفوذ.
تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) الصادر في الأعوام الأخيرة أشار بوضوح إلى تراجع نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات الماضية، محذراً من أن العزوف عن التصويت يغذي الفساد ويعمق أزمة الشرعية. هذا التحذير يتوافق تماماً مع رؤية المرجعية التي تؤكد أن الامتناع عن المشاركة لا يفرغ الساحة من اللاعبين، بل يتركها مفتوحة أمام قوى ضعيفة أو فاسدة لتكرس هيمنتها وتعيد إنتاج الأزمة نفسها. وهنا يكمن جوهر الرهان: هل سينجح العراقيون في تحويل الاستحقاق الانتخابي إلى فرصة لاستعادة ثقتهم بأنفسهم ودولتهم، أم سيستسلمون لليأس الذي يصب في مصلحة من يريد إدامة الفوضى؟
الانتخابات المقبلة إذن ليست مجرد صناديق وأرقام، بل معركة وعي ومسؤولية تاريخية. صوت المواطن فيها ليس بطاقة عابرة، بل أداة إصلاح أو وسيلة انهيار. فإذا مارس العراقيون حقهم بوعي، واختاروا الأكفاء، وواصلوا محاسبة ممثليهم، فإنهم يكونون قد وضعوا لبنة جديدة في مشروع بناء الدولة. أما إذا غلبت اللامبالاة واليأس، فإن المستقبل لن يكون سوى امتداد لأزمة طال أمدها.
البيان في جوهره خارطة طريق تعيد تعريف العلاقة بين الشعب والدولة، وتضع الانتخابات في قلب معركة الإصلاح الوطني. إنّه نداءٌ يحمّل كل فرد مسؤوليته أمام الله وأمام التاريخ، ويدعو العراقيين إلى أن يبرهنوا أن الديمقراطية ليست مجرد شعار مستورد، بل ممارسة أصيلة تستمد شرعيتها من وعي الأمة وعزمها على صون سيادتها. بهذا المعنى، تبدو الانتخابات المقبلة لحظة فاصلة: إما أن تتحول إلى رافعة لإحياء الدولة، أو أن تبقى مجرد محطة عابرة في مسلسل الدوران في حلقة مفرغة. وفي الحالتين، فإن قرار الشعب وحده سيكتب الفصل التالي من تاريخ العراق.
تنوية: المقالات هنا تعبر عن رأي كاتبها، وتنشر لغرض التوثيق، وليس بالضرورة ان تعبر عن رأي الموقع الالكتروني