كل عام ومنذ الأول من شهر محرم الحرام حتى آخر شهر صفر، يحيي شيعة أهل البيت عليهم السلام الذكرى الأليمة لواقعة الطف الفجيعة وما جرى فيها على الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام، وهذا الإحياء يكون متنوعا ما بين مواكب عزاء للطم والزنجيل والتطبير غيرها، ومواكب الخدمة الحسينية التي تقدم فيها أنواعا أكثر من تحصى من الأطعمة والأشربة والمبيت، وهذه كلها بجهود ذاتية لا تمتد إليها أيادي وأموال الدولة إلا ما ندر منها=أي المواكب العائدة للدولة نفسها-
وهذه المواكب منذ ليست بوليدة اللحظة وإنما هي قديمة قدم التاريخ، مذ كانت مجالس عزاء تقام في البيوت والمساجد والجوامع حتى صارت مواكب خاصة ومستقلة كل باسمه وصفته وعليه قوامون ينظمون عمل الموكب، وهو ما يثلج الصدر في الحقيقة، بأنه يقوم على أساس مجموعة من القوانين والأنظمة العرفية التي تنظم عمله لكيلا يكون فوضى ولا يؤدي رسالته.
في السابق كان الموكب يؤسس بشكل عفوي ولكن ليس بشكل فوضوي، فالموكب عندما يؤسس، يؤسس على أساس اجتماع مجموعة من الكسبة أو التجار أو حتى الناس البسطاء من ذوي الدخل المحدود، من أبناء الحرفة الواحدة، أو أبناء المنطقة الواحدة، وهذا الاجتماع تحدد فيه آلية تأسيس الموكب ابتداء من الاسم والمكان وعدد القائمين عليه، واختيار رئيس له يتحمل كافة التبعات القانونية والتنظيمية، فضلا عن اختيار الشعراء والرواديد الذين يقيمون العزاء فيه، بغض النظر عن المسائل المالية التي غالبا ما تكون عبر التبرعات الدورية-سنوية كانت أم شهرية- وبعد أن يستقر الأمر في ذلك يقوم كبير الموكب بالاتصال برؤساء المواكب الأخرى وتعريفهم بنفسه وموكبه لكي يكون في ضمن هذه الهيأة العليا للمواكب التي تنظم وقت نزول المواكب وأداء العزاء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام لكيلا يكون هناك تضارب بين مواعيد العزاء المخصصة لكل موكب.
ظلت هذه القوانين سارية حتى وقت قريب، حتى أنك قبل بضع سنين تجد أن عدد المواكب قليل ومنظم ومعروف فضلا عن أن لهذه المواكب تاريخ وتنظيم والقوامون عليها من الشيبة الذين لهم باع في هذا المجال، إلا أن السنين الأخيرة باتت هذه المواكب تكثر يوما بعد يوم حتى أن الأسماء كادت تتشابه، فضلا عن أن أكثرها غير منظمة وغير منضبطة في بعض الأحيان، وهذه صورة غير جيدة وفيها تشويه لهذا المفصل الحسيني المهم.
قد يقول قائل: لا بد أن تكثر فالناس كثرت والعزاء كبر ولابد من أن تحتويه مواكب أكثر، وكلام القائل صحيح تمام الصحة، ولكن لابد من أن يكون هناك تنظيم لهذه المواكب ولا بد من وجود هيأة عليا للمواكب على الأقل هي من تنظم الأسماء والمواقع والمواقيت، فضلا عن أن هذه المواكب يجب أن تكون منضبطة ومنظمة حتى في (رداتها) التي تقرأها في العزاء، فما نشاهده في الواقع ما هو إلا ضجيج وارتفاع بالأصوات بشكل مفرط حتى يسبب لك الضوضاء والصداع في الوقت ذاته، فأنت لا تكاد تميز ما يقرأه الرادود سوى الصوت العالي والكلام غير المفهوم، والأنكى من ذلك أنك عندما تمر على موكب ما تجد يقرأ قصيدة ما بطور معين، وبصوت عال جدا، وبعد بمترين أو أكثر قليلا تجد موكبا آخر بقصيدة أخرى وطور مختلف وصوت عال أيضا، حتى أن المشاهد لا يفقه شيئا لا من اللحن ولا من الكلام، سوى صورة متحركة من البشر الذين يلطمون باستعمال الزنجيل وكفى.
هذه الحالة في حد ذاتها غير صحية على الأطلاق فهي تسبب الفوضى والضوضاء دون أية رسالة تذكر، فمن هنا نعرف أن كثرة المواكب بشكل كبير ظاهرة غير صحية، ولكن لو كانت المواكب أقل على نحو مقبول لكنت شاهدت منظرا مهيبا وتنظيما يتناسب وحجم العزاء.
هذه الوقفة القصيرة ما هي إلا من حرصنا على القضية الحسينية بأن تكون بأبهى صورة، وأكثر تنظيم، على نحو يليق بها وبعظمتها، ويليق بأصحاب المواكب لا سيما وأن هذه الشعائر أصبحت تنشر إلى العالم والجميع يراها، فإن كان منظمة أكثر كانت أليق.