(الْعِلْمُ لِقاحُ الْمَعْرِفَةِ، وَطُولُ التَّجارُبِ زِيادَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَالشَّرَفُ التَّقْوى، وَالْقُنُوعُ راحَةُ الأْبْدانِ)
في وقت تتصارع فيه الثقافات والإيديولوجيات لإثبات نفسها، وفي وقت بات الفرد فيه يبحث عن أي شيء يغذي نفسه ومتطلباته، وأغلبها مادية لا معنوية، وفي وقت أصبح العالم غارق في الملذات والماديات للحد الذي يصيبك بالغثيان، تجد في المقابل كم هائل من المستثقفين يتلاهثون وراء كلمات وتجارب الغرب، وكأنهم هم العقل الواعي والمدبر لهذه الحياة، فلا تجد (مثقفا) وإلا وعنده من الاقتباسات والكلمات والكتب الكم غير القليل من علماء وكتاب وأدباء غربيين، ولا غرابة من ذلك كون العالم كله بدأ يسير على هذا الخط، في الوقت الذي ترى هذا (المثقف) لا يأبه بل ولا يعي ولم يطلع على أقل تقدير لكلام أهل البيت عليهم السلام أو كلام الأنبياء والصالحين، لا لشيء فقط لكيلا يقال عنه: أنت إسلامي أو متدين وكأن هاتين الصفتين عار على (المثقف) أن تكون ثقافته ممتدة إلى تراث أهل البيت عليهم السلام، ولو تصفح بعضهم كلام أهل البيت لما احتاج إلى الذهاب إلى فلان وعلان حتى يعرف ماذا كتبوا عن الحياة.
إليك كلام الإمام الحسين عليه السلام فقوله: (الْعِلْمُ لِقاحُ الْمَعْرِفَةِ) ثلاث كلمات كانت كفيلة بأن تعلمك قاعدة مفادها أن المعرفة لا تتأتى من الفراغ بل تأتي من العلم فالعلم هو اللقاح وهو النواة التي تؤدي إلى التفكر والتفكر هو من يؤدي إلى المعرفة.
وقوله عليه السلام: (وَطُولُ التَّجارُبِ زِيادَةٌ فِي الْعَقْلِ) وهذا يعطيك قاعدة أخرى في الحياة أن كثرة التجارب تعطيك الحكمة التي عبر عنها بـ(العقل) إذ ليس المقصود به محط التفكير وإنما الحكمة التي تمخضت من هذه التجارب، فكل تجربة يخوضها الإنسان إنما هي فكرة وعلم ودرس وكثرة الأفكار والعلوم والدروس تعطيك الرؤية البعيدة عن الحياة وبالتالي تعطيك الحكمة في التعامل مع الواقع.
وقوله عليه السلام: (وَالشَّرَفُ التَّقْوى، وَالْقُنُوعُ راحَةُ الأْبْدانِ) والشرف مفردة غلب عليها معنى الحفاظ على العرض من الانتهاك-هذا المفهوم المجتمعي الحاضر- في حين أن الإمام عليه السلام يعطيه بعدا آخر، وهو التقوى، فالتقوى والتورع عما حرم الله سبحانه وتعالى إنما هذا قمة الشرف، فالشريف ليس من يحافظ على عرضه فقط، الشريف هو التقي الورع الذي يأتمر بأوامر الله وينتهي بنواهيه، فمن كان كذلك كان شريفا بكل معاني الكلمة.
وقوله: (وَالْقُنُوعُ راحَةُ الأْبْدانِ) إن القناعة كنز لا ولن يفنى، فمن قنع رضي، ومن رضي عاش، والقناعة لا تأتي عفو الخاطر إنما هو الرضا بما قسم الله لك، حتى ولو قدر عليك رزقك، فإن كنت قنوعا زهدت بزوائد الدنيا، لهذا فإن الإمام عليه السلام يجعل من القناعة راحة للبدن، لأن ما زاد على ذلك أضر بصاحبه.
ولو تأملت كلام الإمام عليه السلام، فإنك تجد أنه تسلسل بالأمر حتى وصل إلى النتيجة، بمعنى أنه بدأ بالعلم والمعرفة، وانتقل إلى التجربة، ثم إلى التقوى حتى وصل إلى القناعة، أي أنك لا يمكن أن تكون قنوعا ما لم تكن تقيا، ولن تكون تقيا ما لم تكن ورعا، ولن تكون ورعا ما لم تكون ذا حكمة، ولن تحصل على الحكمة مالم تكن ذا معرفة والمعرفة لا تتأتى إلى من العلم؛ إذ إنّ العلم أساس كل فضيلة، فلا حكمة ولا تقوى ولا ورع ولا قناعة تتحصل من غير العلم.
فندائي إلى المثقفين أين أنتم من هذه الدرر، لماذا لا يلتفت إليها كما يلتفت إلى كتابات دويستوفيسكي وألكسندر بوشكين وهمنغواي وغيره، أين أنتم من هذه الدرر التي تعطيك مفاتيح الحياة بدل اللهاث وراء هذا وذلك.