البحث المتقدم

البحث المتقدم

٢٦ جمادى الأولى ١٤٤٧

في العتبة العباسية المقدسة.. رؤية علمية ومؤسساتية لحفظ التراث

 

تُعدّ العتبة العباسية المقدسة من أبرز الصروح الدينية والثقافية في العالم الإسلامي، ليس فقط بما تمثّله من مكانة روحية عميقة، بل بما تبنّته من مشاريع علمية ومؤسساتية رائدة في حفظ التراث الإسلامي والإنساني. فقد شهدت العتبة في العقود الأخيرة نهضة نوعية في مجالات التوثيق، والترميم، والفهرسة، والتحقيق، من خلال إنشاء مراكز بحثية ومؤسسات متخصصة تُعنى بحماية المخطوطات، وصيانة المعالم التاريخية، وإحياء التراث العلمي والفكري لعلماء الأمة. وتأتي هذه الجهود في إطار رؤية شاملة تعتمد الأسس العلمية الحديثة، وتتكامل مع رسالة العتبة في خدمة الهوية الإسلامية وتعزيز الوعي الثقافي.

هذه المؤسسات عملت على حفظ التراث وتحقيق المخطوطات وفهرستها وترميمها ونشرها، وتوفيرها للباحثين والمهتمين، مع توظيف أحدث التقنيات لضمان جودة التوثيق والوصول المستدام، كما عملت على تعزيز البحث العلمي وفتح آفاق التعاون المعرفي محليًّا ودوليًّا، بما يسهم في تحويل التراث الإسلامي إلى مورد فعّال في دعم الهوية وبناء الوعي الثقافي المعاصر.

                              

الهيأة العليا لإحياء التراث


تُعد الهيأة العليا لإحياء التراث إحدى الركائز العلمية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، وقد أُسّست عام (2023م) لتكون منطلقًا لإحياء تراث علماء الإسلام، وإبراز جهودهم العلمية، وتأسيس بيئة تراثية رصينة في تحقيق المخطوطات وفق منهج علمي دقيق. وضمن هذه المسيرة، حقّقت الهيأة أكثر من 875 مشروعًا، ونالت أكثر من 100 جائزة، ما يظهر حجم الإنجاز، ودورها الريادي في هذا المجال. وتتولى الهيأة مهام متعددة، تشمل تحقيق المخطوطات الإسلامية والدينية، ونشر الوثائق التراثية، وإصدار سلاسل علمية متنوعة، إضافةً إلى إقامة المؤتمرات والندوات والدورات التخصصية، والإسهام في ترسيخ المفاهيم الدينية والعلمية، وتصدر الهيأة عددًا من المجلات التراثية، منها: عطاء التراث، ومقاليد التراث، والخزانة، وإحياء. وتُشرف الهيأة العليا لإحياء التراث على عدد من المراكز المهمة، أبرزها: - مركز الشيخ الطوسي للدراسات والتحقيق في النجف الأشرف: وهو مركز يُعنى بإحياء تراث الطائفة الحقّة، ولا سيّما الموسوعات الفقهية والأصولية والرجالية، ويتميز بمنهج التحقيق الجماعي الداخلي، فضلًا عن تبنّيه أعمال المحققين الأكفاء في مجال التحقيق. - مركز إحياء التراث في كربلاء المقدسة: يعمل على تحقيق التراث الإسلامي المخطوط ونشره، وإصدار سلاسل تراثية متنوعة. - المعهد العالي للتراث في النجف الأشرف: مؤسسة تعليمية متخصصة تُعنى بتدريب الطلبة على مهارات تحقيق النصوص وفهرسة المخطوطات وفك الرموز، ويقدم برامج تعليمية تشمل اللغة العربية، وتقنيات الحاسوب، وفنون التحقيق التراثي. - مركز الصادقين للبحوث والدراسات والتحقيق: يُعنى بكل ما يرتبط بالإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، عبر تنظيم مؤتمرات علمية، ونشر دراسات فكرية رصينة تعمّق الفهم بعلوم أهل البيت (عليهم السلام)، ويستقطب باحثين من مختلف دول العالم لتقديم دراساتهم عن هذا الفكر المبارك.

قسم شؤون المعارف الإسلامية والإنسانية

يُعد هذا القسم من أبرز التشكيلات في العتبة العباسية المقدسة، ويتبنّى مهمة إحياء التراث الإسلامي تحقيقًا وتأليفًا وفهرسةً وإعلامًا، ويضم مراكز تراثية متخصصة عدة، منها: (مركز تراث كربلاء، مركز تراث الحلة، مركز تراث البصرة، مركز تراث الجنوب، ومركز التراث الإسلامي في مدينة مشهد)، بالإضافة إلى (شعبتي الإعلام المعرفي والرعاية المعرفية).

شبكة المعارف للتراث الإسلامي تُعد الواجهة الإلكترونية الرسمية له، وتضم العديد من المواقع الإلكترونية الخاصة بالمراكز والمجلات المحكمة، إضافة إلى حضور فعّال على منصات التواصل الاجتماعي، ويهدف القسم إلى إحياء التراث الإسلامي المخطوط والحفاظ عليه من الضياع، ودعم البحث العلمي، وإثراء المكتبة الإسلامية، ونشر الثقافة التراثية بأسلوب علمي، وتأسيس شبكة إلكترونية ضخمة للمخطوطات المحققة وغير المحققة، إلى جانب تنمية الفنون الإسلامية كفن الخط والزخرفة، وتوثيق التراث الفكري لمدن العراق المختلفة، وإخراجه بحلة معاصرة تناسب تطلعات الباحثين وطلبة العلم.

                                     

المراكز التراثية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية

من أبرز المراكز التراثية التابعة للقسم هي: (مركز الفضل لصيانة وحفظ التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي)، الذي يُعد محطة وطنية نادرة لحفظ التراث المخطوط، بما يمتلكه من تقنيات متطورة وخبرات عراقية متميزة، وقد أسهم في ترميم آلاف المخطوطات الدينية والعلمية وحفظها، ويضم فريقًا متخصصًا في صناعة الورق الطبيعي، وتحضير الرق الجلدي، وفن الزخرفة، ويهدف إلى دعم البحث العلمي، والتوعية بأهمية الوثائق والمخطوطات، وتعزيز التعاون الدولي.

كذلك يُعد (مركز تصوير المخطوطات وفهرستها) من المراكز المحورية في العتبة العباسية المقدسة، أُسّس عام 2009م، ويهدف إلى جمع التراث المخطوط وتصويره، بغض النظر عن الخلفيات العرقية أو الدينية، لتوفيره للباحثين والمحققين، وقد تجاوز عدد النسخ المصورة في المركز 500 ألف نسخة، شملت مكتبات عراقية وعالمية، إضافةً إلى خزانة العتبة العباسية المقدسة التابعة له، التي تحتوي على أكثر من 5 آلاف نسخة، يضم المركز أقسامًا متخصصة، منها: التصوير والأرشفة الرقمية، والفهرسة والإصدارات، والوثائق التاريخية، ويحتفظ نحو 400 ألف وثيقة تعود لحقب مختلفة.

                                      

قسم متحف الكفيل للنفائس والمخطوطات

أُسّس متحف الكفيل للنفائس والمخطوطات عام 2009م بافتتاح قاعة عرض متحفي، ثمّ تحول إلى قسم متكامل في عام 2014م، ويُعد أحد أبرز الأقسام في العتبة العباسية المقدسة، وتكمن رسالته في حماية الموروث الحضاري والثقافي وصيانتهما، وجمع المقتنيات المتحفية القيّمة، مثل المخطوطات والآثار الإسلامية النادرة.

ويهدف المتحف إلى الحفاظ على التراث الثقافي الإسلامي، وعرضه بأساليب علمية ومنهجية تعزز من المعرفة الثقافية، وتُسهم في نقل هذا التراث إلى الأجيال، ويعمل على صيانة المقتنيات باستعمال مواد أولية عالمية الجودة، وبملاكات متخصصة ذات خبرة عالية. ويصدر عن المتحف مجلة بعنوان (متحف الكفيل الثقافية)، وهي مجلة متخصصة في علم الآثار والمتاحف، يشارك في إعدادها نخبة من الباحثين والأكاديميين؛ وتهدف إلى تقديم محتوى علمي رصين يعزز البحث المتحفي عربيًّا ودوليًّا، وتسعى إلى أن تكون مرجعًا مهمًّا للباحثين والمهتمين في هذا المجال، كما يوجه المتحف دعوة إلى المختصين في المتاحف والآثار والفنون الإسلامية للمشاركة بأبحاثهم ومقالاتهم.

                                    

كما ينظم متحف الكفيل أنشطة ثقافية وعلمية مستمرة، منها الندوات العلمية التي تُقام احتفاءً باليوم العالمي للفن الإسلامي، إضافة إلى ورش العمل والمؤتمرات التي تهدف إلى نشر الثقافة المتحفية وتعريف الباحثين بالعناصر المعمارية التي دخلت إلى العراق وتطورها التاريخي. جهود العتبة العباسية المقدسة عبر مؤسساتها ومراكزها المتعددة في حفظ التراث العلمي والديني، تجسد رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى ربط الماضي بالحاضر وصونه للأجيال القادمة، وحفظ الإنجازات العلمية والثقافية عبر تحقيق المخطوطات، وترميمها، ونشرها. ولا يقتصر عمل هذه المشاريع التراثية على حفظ التراث الإسلامي فقط، بل بناء الهوية الثقافية للأمة، وإحياء جهود علمائها الأوائل، وفتح الأبواب أمام الباحثين والمهتمين لمواصلة هذا المسار المبارك بعزيمة وتجديد.                                        

     

مواضيع ذات صلة