البحث المتقدم

البحث المتقدم

٢٤ ربيع الأول ١٤٤٧

العتبة العباسية المقدسة.. منارة فكرية ومؤسسة اجتماعية فاعلة

 

نشأة المؤسسة الحديثة

لطالما كانت الأماكن المقدسة في الفكر الإسلامي نقاط جذب للزائرين من شتى بقاع العالم، ومراكز روحانية ترسّخ القيم والمبادئ إلا أن العتبة العباسية المقدسة في كربلاء تجاوزت هذا الدور التقليدي لتصبح مؤسسةً عصريةً ومتكاملةً، تعمل بوعيٍ وبصيرةٍ على خدمة المجتمع. هذا التحول لم يكن وليد صدفة، بل هو ثمرة رؤية استراتيجية بدأت تتشكل بعد عام 2005، إثر إقرار قانون العتبات المقدسة في الدستور العراقي رقم 19. ومنذ مطلع عام 2006، شهدت العتبة العباسية تأسيس قسم الشؤون الفكرية والثقافية، الذي لم يكن مجرد إضافة إدارية، بل كان بمثابة حجر الزاوية في بناء هيكل مؤسسي جديد، يهدف إلى تحقيق رسالة أعمق وأوسع نطاقًا.  

 

يُعدّ هذا التطور تحولًا جوهريًا، حيث انتقلت العتبة من كيان روحاني بحت إلى مؤسسة فاعلة ذات أقسام وشُعب ووحدات إدارية، مصممة بشكل منهجي لمعالجة قضايا المجتمع المعاصرة، مما يطمس الفجوة بين عالم الروحانية ومجريات الحياة اليومية، فقد اصحبت قوة اجتماعية قادرة على بناء الثقة من خلال تقديم مسؤوليات مدنية

الملاذ الأخير لفض الخصومات

في المجتمعات التي تتداخل فيها الأعراف القبلية مع القوانين المدنية، غالبًا ما تواجه النزاعات المعقدة مأزقًا، فالقوانين العشائرية، على الرغم من رسوخها، قد تؤدي أحيانًا إلى تصاعد العنف من خلال مبادئ مثل "الثأر" أو "حرق البيوت". وفي المقابل، قد تعجز القوانين الحكومية عن تقديم حلول مُرضية أو مقبولة اجتماعيًا لجميع الأطراف، ففي هذه الظروف، تبرز العتبة العباسية المقدسة كملاذٍ يلجأ إليه المتخاصمون، ليس كبديل للسلطة القانونية، بل كسلطة روحية وأخلاقية تتجاوز الأعراف والقوانين العاجزة.  

يُعزى إقبال الكثير من الأطراف المتنازعة على مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) إلى عاملين أساسيين: الاعتقاد الراسخ في قدسية المكان، والاحترام العميق لشخصية الإمام (u) فالكثيرون يؤمنون بأن العتبة تتمتع بخصوصية متوارثة في حل المشكلات الاجتماعية، مما يجعلها مرجعًا موثوقًا للصلح. ومن هنا، تم إنشاء وحدة متخصصة تُعرف بـ "وحدة اليمين" التابعة لقسم الشؤون الدينية، وتُعنى تحديدًا بفض النزاعات والخلافات العشائرية والمشاكل الاجتماعية، بهدف تحقيق التآلف والتعايش السلمي.  

كذلك لا يقتصر دور العتبة على الوساطة فقط، بل يتعداه إلى كونها جهةً رسميةً تضفي طابعًا أخلاقيًا على الاتفاقيات. فالأطراف المتنازعة التي تقبل حلًا برعاية العتبة العباسية أو الحسينية، إنما تفعل ذلك لأنها تتقبل سلطةً روحيةً تتجاوز سلطة القضاء التقليدية. مما يجعل الحلول التي تُتوصل إليها أكثر ديمومة وقوة وتُحدث الكثير من الطمأنينة والرضا في نفوس المتخالفين.

 

نموذج للتعاون بين الروحانية والدولة

لعل أبرز الأمثلة على هذا الدور هو النجاح في حل نزاع عشائري في محافظة البصرة، والذي كان قد استمر لأكثر من ثلاث سنوات. يُظهر هذا المثال نموذجًا فريدًا للتعاون بين المؤسسة الدينية والسلطة المدنية. فبينما قدمت العتبة الحسينية السلطة الروحية والحلول الأخلاقية التي حظيت بثقة الأطراف المتنازعة، وفرت مؤسسات الدولة الضمانات القانونية والأمنية لتطبيق الاتفاق.

 

العقود المباركة والزواج الميمون

تتجاوز خدمات العتبة العباسية المقدسة حل النزاعات إلى المشاركة في أهم لحظات الحياة الاجتماعية، مثل إبرام عقود الزواج. فقد أصبحت العتبة مركزًا مفضلًا للمؤمنين لإتمام هذه الشعيرة المقدسة، لما تحمله من رمزية عميقة وبركة في نفوسهم. هذا التقليد، الذي دأبت عليه الكثير من العائلات، لم يعد مجرد طقسٍ روحاني، بل تحول إلى خدمة مؤسسية منظمة ومُعترف بها قانونيًا.  

خلال عام 2023 وحده، أجرى قسم الشؤون الدينية في العتبة العباسية أكثر من 6,500 عقد زواج، وتحديدًا 6,540 عقدًا، وذلك في فترة لا تتجاوز عشرة أشهر فقط، باستثناء شهري محرم وصفر.

 هذه الأرقام المذهلة تعكس مدى الإقبال والثقة التي يحظى بها هذا المرفق، وتُظهر دوره الحيوي في حياة الناس.  

 

تُشرف شعبة متخصصة على عملية إبرام العقود داخل الصحن الشريف لأبي الفضل العباس (عليه السلام). وتتم العملية بطريقة منظمة، حيث يتم إدخال بيانات الزوجين بحضور ذويهم، ثم تُتلى صيغة العقد بصوت مسموع. وبعد إتمامه، يُمنح الزوجان نسخة من العقد، وتُحتفظ بنسخة أخرى في القسم. والأهم من ذلك، أن هذه العقود تُعتبر معتبرة ومعترف بها في المحاكم العراقية، تبعًا لقانون الأحوال الشخصية العراقي.  

 

هذا لإجراء يُمثل مثالًا حيًا على دمج الجانب الروحي مع المدني. فالعتبة لا تقوم بإتمام عقد الزواج فقط، بل تُقدم خدمةً قانونيةً رسميةً، مما يُرسخ مكانتها كمركزٍ محوريٍ في الحياة اليومية لمتبعيها. فكما قال شاب من بغداد جاء لإتمام عقد قرانه، إن مرقد أبي الفضل العباس "جزء من ذاكرتنا وذاكرة أمهاتنا، فنحن نقصده في كل صغيرة وكبيرة"، وقد اختار هذا المكان "لأجل التبرك والاستبشار". إن هذه الممارسة تُعمّق من ارتباط الأفراد بالمكان المقدس، وتجعله ركنًا أساسيًا في بناء أسرهم، مما يُعزّز من النسيج الاجتماعي للمجتمع بأسره.   ا

 

 

إزالة الشوائب وتصحيح المفاهيم

لا يقتصر دور العتبة العباسية المقدسة على الجوانب المادية والاجتماعية فحسب، بل يتغلغل في عمق الوعي الشعبي لتصحيح المفاهيم الدينية المغلوطة. ففي كثير من الأحيان، تتسرب بعض الخرافات إلى الموروث الشعبي، ومنها الاعتقاد بأن أبا الفضل العباس (عليه السلام) قد "يشور" أو يُعاقب من لا يفي بنذره. هذا الاعتقاد، الذي يصور الإمام وكأنه جهة انتقام وعقاب، هو اعتقاد خاطئ وله انعكاسات سلبية على فهم الدين.  

 

وفي مواجهة هذا الفكر، تتدخل المؤسسة الدينية في العتبة لتصحيح هذه المفاهيم، حيث يصف أحد المشايخ هذه الفكرة بأنها "جريمة بحق أبي الفضل العباس"، مؤكدًا أن الإمام هو "ربيب بيت الرحمة". هذا التدخل الواعي يعكس دور العتبة كمرجعية فكرية وإصلاحية، تسعى إلى توجيه الناس نحو فهم أعمق وأكثر تسامحًا للإيمان، قائم على المحبة والرحمة لا على الخوف والتهديد.  

وفي المقابل، تؤكد المؤسسة على الدور الحقيقي للإمام كباب للحوائج وشفيع عند الله وتُروى العديد من القصص التي تبرهن على ذلك، مثل القصة التي نقلها السيد صباح شبر عن والده، حيث عادت الحياة لشابٍ كان قد فارقها، بفضل توسل والدته عند ضريح أبي الفضل العباس (عليه السلام).

 

 

ضياءٌ في عالم معاصر

في المحصلة، يتبين أن العتبة العباسية المقدسة قد تحولت من مجرد معلمٍ ديني إلى مؤسسةٍ حديثةٍ ومتعددة الأوجه، تؤدي أدوارًا حيويةً تتداخل فيها الروحانية مع المسؤولية الاجتماعية. إنها ليست كيانًا جامدًا يكتفي بحراسة الماضي، بل هي منظمةٌ حيويةٌ تُعالج تحديات الحاضر وتستشرف آفاق المستقبل.

 

 

مواضيع ذات صلة