من المعلوم أنّ لكلّ مجتمع أصوله وثقافته وتقاليده ورؤاه، وهذه الأمور يكتسبها المجتمع من منابع عدّة منها: ما هو موروث شعبي، ومنها ما هو موروث عشائري، ومنها ما هو ديني ومنها ما هو علمي فهذه المنابع هي التي تشكل اللوحة الثقافية للمجتمع بمختلف عناصره وفئاته.
وهناك منبع آخر وهو منبع الدولة، فالدولة هي إحدى المقومات الرئيسة في بناء ثقافة المجتمع وعلى جميع الأصعدة، كونها الحاكمة على الشعب ولديها المقدمات والمقومات والإمكانات التي تستطيع بواسطتها أن تتحكم بثقافة الشعب.
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ ففي أية دولة عندما تستقرئ الثقافة المجتمعية آنذاك تجدها متنوعة ومتعددة المشارب ولكن تجد في الوقت نفسه أن النفس السلطوي حاضر في ثقافة المجتمع ومهيمن على الفكر فيه، وعلى هذا الأساس يتم تجيير تفكير المجتمع نحو فكرة ما تريدها السلطة.
وفي العصر الحاضر تجد أمامك (اليابان) دولة تعد من الدول المتقدمة على جميع المستويات، ولو رجعت بالمجتمع الياباني قبل الحرب العالمية ستجد أنه يمتلك ثقافة وحشية للغاية ولكن كان لقنبلة هيروشيما وناكازاكي صعقة فكرية للشعب بأن يعيد النظر في تفكيره وثقافته وأن يتقدم نحو الأفضل إلا أن ذلك لم يكن نهوضًا شعبيًا من لدن الشعب فقط بالاعتماد على ثقافاته وموروثه وتقاليده، بل تظافرت عليه جهود الدولة في تنشئة المجتمع على وفق معايير معينة أدّت به إلى أن يكون شعبًا في مصاف الشعوب المتحضرة التي يُضرب بها المثل.
إذن فثقافة المجتمع المتأتية من موروثه الشعبي وتقاليده ليست وحدها من ترتقي به ولكن هناك ما يسمى بثقافة الدولة والتي بدورها تقوم بتطبيق القوانين لا أكثر لتنظيم شؤون المجتمع وبالتالي فإن الأجيال ستتوارث هذه الثقافة حتى تصبح جزءًا من حياتهم وثقافتهم أين ما حلّوا.
ما أروم الكلام عنه هو ما فُعِل بالأمس من أن مجموعة من المخربين قاموا بحرق وتخريب أعمدة كاميرات المراقبة الخاصة بالمرور في أحد الشوارع، إذ نُشر على شبكات التواصل الاجتماعي هذا الفعل على أنه فعل تخريبي قامت به مجموعة من (السفهاء)، ولكني عندما اطلعت على التعليقات الواردة في المنشور وجدت أن المعلقين هم أكثر سفاهة من المخربين أنفسهم، كيف؟ الجواب: لأن غالبية المعلقين إن لم يكن الجميع مدحوا هذا الفعل الشنيع بقولهم (عاشت ايديكم) وكأن ما فعله السفهاء هو عمل بطولي وفيه تحدّ للدولة وفيه نصرة للفقراء الذين خلت جيوبهم بسبب الغرامات المالية التي تفرضها عليهم مديرية المرور بسبب الكاميرات.
ما أثار حفيظتي هو كمية التعليقات التي تعكس ثقافة المجتمع التي تتأتى من العادات والتقاليد والموروث الشعبي القائم على الفوضى وعلى عدم احترام القانون وعدم الالتزام به فضلاً عن ثقافة التحدي للسلطة أو القانون تحت عنوان (السباعية والرجولة) في حين أن هذا الفعل لا يدل على الرجولة والسباعية أبدًا، ومن ضمن التعليقات أن الجميع يمدح بهذا الفعل بحجة أن هذه الكاميرات وضعتها الدولة لتفرغ جيوب الفقراء تحت بند الغرامات المرورية، لذلك فإن هذا الفعل ما هو إلا ردة فعل على الدولة وانتصار للفقراء.
لك أن تتخيل كمية الثقافة المبنية على التحدي الساذج، وعدّه من البطولة والشهامة والرجولة والانتصار للفقراء، بدل من عدّه نوعًا من أنواع التخريب وانعدام الثقافة المجتمعية.
فبدل من أن ندين هذا العمل الشائن وغير صحيح وعلينا نحن أن نغير من سلوكنا ونلتزم بالقانون حتى لا نغرم، يكون الحديث على العكس من ذلك بأن نقول: (عفية) للمخرب لأن الكاميرات وضعت لتمتص جيوب الفقراء!
من تلك الثقافة تجد أن الفقير يجب أن يكون فوضويًا، عبثيًا، عديم الالتزام، عديم الخلق، عديم التربية، وعديم كلّ شيء يمكن أن يرفعه إلى مصاف البشر الأسوياء.
السؤال: لماذا لا أحد يحب تطبيق القانون واحترامه؟ أين الخلل؟
في الواقع أن الخلل في جملة من المؤسسات التي من شأنها رفع المستوى الثقافي والتوعوي للمجتمع بدءًا من العائلة التي يجب أن تربي الأبناء على ثقافة الوعي واحترام القانون، وصولاً إلى المؤسسة العشائرية التي لابد من أن توجه أبناء العشيرة نحو احترام القانون ونبذ النعرات القبلية المقيتة، فالمؤسسة الدينية التي لابد لها أن تأخذ دورها ليس في توجيه المجتمع نحو الحلال والحرام وتكتفي بذلك بل لابد أن تتجاوز هذه الأطر إلى الإطار الأوسع وهو توجيه المجتمع نحو احترام القانون والتعليمات التي من شأنها تنظيم حياة الفرد لترتقي به إلى الحضارة، ثم الوصول إلى مؤسسات الدولة ومن أهمها المدارس التي من شأنها إعطاء التربية قبل التعليم لضمان تنشئة أجيال معتادة على احترام التعليمات والقوانين التي تنظم الحياة عندها سينشأ جيل يرى أن أي عمل يعود بالضرر عليه هو عمل تخريبي وليس عملا بطوليًا لأنه يحارب الفقراء –كما يقول السذج-